وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
(76)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِكَمَالِهِ وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ، وَلِلْأَصْنَامِ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ. وَقَدْ قَرَنَ فِي التَّمْثِيلِ هُنَا حَالَ الرَّجُلَيْنِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ فَصَّلَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذِكْرِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِأُسْلُوبٍ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، إِذْ حَذَفَ مَنْ صَدْرِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الرَّجُلِ الثَّانِي لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي اسْتِنْتَاجِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ أُسْلُوبِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَأُسْلُوبِ سَابِقِهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيَةِ: 75، قَبْلَها: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا}. وَمِثْلُ هَذَا التَّفَنُّنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ كَرَاهِيَةً لِلتَّكْرِيرِ لِأَنَّ تَكْرِيرَ الْأُسْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْأَلْفَاظِ. وَقدْ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلًا لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ وَلِلآلِهَةِ التِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ مِنْ أَصْنَامٍ وَغَيْرِهَا، مَثَلَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَخْرَسُ أَصَمُّ لاَ يَفْهَمُ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ نَفْسِهِ، والأَبْكَمُ: هوَ الْمَوْصُوفُ بِالْبَكَمِ ـ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْكَاف، وهوَ الأَخْرَسُ خِلْقَةً. والأَبْكَمُ أَيْضًا: هوَ العَيُّ المُفْحَمُ، وَقَدْ بَكِمَ بَكَمًا وبَكَامَةً، والأَبْكَمُ أَيضًا: هَوَ الأَقْطَعُ اللِّسَانِ؛ وهوَ العَيُّ بالجَوابِ الذي لا يُحْسِنُ وَجْهَ الكَلَامِ، لأَنَّهُ لا يَفْهَمُ ولا يُفْهَمُ عَنْهُ.
قولُهُ: {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} فَلاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ عَالَةٌ عَلَى مَنْ يَعُولُهُ وَيَلِي أَمْرَهُ. والكَلُّ: مَنْ كانَ عِبْءً على غيرِهِ وَعالةً عَلَيْهِ. والْكَلُّ: الثَّقِيلُ، وَقَدْ يُسَمَّى الْيَتِيمُ كَلًّا لِثِقَلِهِ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُولٌ لِمَالِ الْكَلِّ قَبْلَ شَبَابِهِ ........... إِذَا كَانَ عَظْمُ الْكَلِّ غَيْرَ شَدِيدِ
وَالْكَلُّ أَيْضًا الَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا وَالِدَ، وَفِي الْحَدِيثِ الشريفِ: ((مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَعَلَيْنَا)). أَيْ مَنْ تَرَكَ عِيَالًا فَنَحْنُ نَكْفُلُهُمْ. فقدْ أَخْرَجَ الأئمَّةُ عَنِ المِقْدامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَرَكَ كَلًّا فإِليَّ ـ ورُبَّما قالَ: إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، ومَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ، وأَنَا وَارِثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ: أَعِقِلُ لَهُ، وأَرِثُهُ، والخَالُ وارثُ مَنْ لا وارِثَ لَهُ: يَعْقِلُ عَنْهُ، وَيَرِثُه)). مُسْنَدُ أَحْمَد: (17175 و 17199)، وسُنَنُ أَبي داودَ: (4/527)، وابْنِ مَاجَهُ: (2738)، والنَّسائي في "الكُبْرَى": (6320 و 6321 و 6322 و 6386)، وصحيح ابْنِ حِبَّانٍ: (6035 و 6036)، ومسْتَخْرجُ أَبي عُوانَةَ: (5636)، والطَبَرانيُّ في (الكبير): (20/627). وَالْكَلُّ الْعِيَالُ، وَالْجَمْعُ كُلُولٌ. وأَصْلُهُ مِنَ الغِلَظ الذي هُوَ نَقِيضُ الحِدَّةِ، يُقَالُ: كَلَّ السِّكينُ كُلُولًا، إِذا غَلُظَ شَفْرَتُهُ فَلَمْ يَقْطَعْ، وكَلَّ لِسَانُهُ إِذَا لَمْ يَنْبَعِثْ في القَوْلِ لِغِلَظِهِ وَذَهَابِ حَدِّهِ، وَكَلَّ عَنِ الأَمْرِ يَكَلُّ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْبَعِثْ فِيهِ، فَهُوَ يَكَلُّ إِذا لَمْ يَنْفُذْ في الأَمْرِ. وَالْمَوْلَى: هوَ الَّذِي يَلِي أَمْرَ غَيْرِهِ. وَالْمَعْنَى: هُوَ عَالَةٌ عَلَى كَافِلِهِ لَا يُدَبِّرُ أَمْرَ نَفْسِهِ.
قوْلُهُ: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ: أَيْ الصَنَمُ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ "لا يَأْتِ بِخَيْرٍ". وَصَفَهُ بِقِلَّةِ الْجَدْوَى، فأَيْنَما يُوَجِّهْهُ مَوْلَاهُ لَا يَهْتَدِي إِلَى مَا وُجِّهَ إِلَيْهِ، وَإِذَا ما أَرْسَلَهُ مَوْلاَهُ فِي أَمْرٍ لمْ يَرْجِعْ إِليْهِ بِنَجَاحٍ وَلاَ بِتَوْفِيقٍ. ولَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، لِأَنَّ الْخَيْرَ هُوَ مَا فِيهِ تَحْصِيلُ الْغَرَضِ مِنَ الْفِعْلِ وَنَفْعِهِ. ويُوجهِهُ: يُرْسِلُهُ، يُقالُ: وَجَّهْتُهُ إلى كَذَا فَتَوَجَّهَ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} الذي يَأْمُرُ بِالعَدَلِ: هو اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى. أيْ: وَالآخَرُ رَجُلٌ سَوِيٌّ، سَلِيمُ الحَوَاسِّ، عَاقِلٌ يَنْفَعُ نَفْسَهُ، وَيَنْفَعُ غَيْرَهُ، يَأْمُرُ النَّاسَ بِالعَدْلِ، وَالْعَدْلُ: الْحَقُّ وَالصَّوَابُ الْمُوَافِقُ لِلْوَاقِعِ. وَهُوَ عَلَى سِيرَةٍ صَالِحَةٍ، وَدِينٍ قَوِيمٍ، فَهَلْ يَسْتَوِيَانِ؟ أَي: الصَّنَمُ الذي لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَنْطِقُ وَلاَ يَضُرُّ وَلاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ، وَهُوَ عَالَةٌ عَلَى َمْن يَصْعَنُهُ، وَهُوَ لاَ يَعْقِلُ وَلاَ يَنْطِقُ، فَهَلْ يَسْتَوِي هَذَا الصَّنَمُّ مَعَ اللهِ القَادِرِ القَاهِرِ، مَالِكُ كُلِّ شَيءٍ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيءٍ، وَمُدَبِّرُ أَمْرِ الوُجُودِ كُلِّهِ؟. فَاللهُ تَعَالَى يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِالعَدْلِ، وَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِهِ لِنَفْسِهِ الكَرِيمَةِ، فَجَعَلَ هَذا المَثَلَ لِنَفْسِهِ المقدَّسَةِ، وجَعَلَ قَوْلَهُ: "وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ" مثلًا للصَّنَمِ الذي عَبَدَهُ المُشركونَ لأَنَّهم يَحْمِلُونَهُ إِذا ظَعَنوا، وُيحَوِّلونَهُ مِنْ حالٍ إلى حالٍ إذا أرادوا، ويحرِّكونَهُ مِنْ مَكانٍ إِلى مَكَانٍ إِذَا تَحَرَّكوا، ولِذَلك قَالَ تَعَالى: هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الصَّنَمُ الكَلُّ، وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ؟، وهذا الاسْتِفْهامُ لِتَوبيخِهم والإنكارِ عَلَيْهِم.
قولُهُ: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ عَلى دِينٍ مُسْتَقيمٍ. والصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: هو الْمَحَجَّةُ الَّتِي لَا الْتِوَاءَ فِيهَا. وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، لِأَنَّ الْعَمَلَ يُشَبَّهُ بِالسِّيرَةِ وَالسُّلُوكِ فَإِذَا كَانَ صَالِحًا كَانَ كَالسُّلُوكِ فِي طَرِيقٍ مُوصِلَةٍ لِلْمَقْصُودِ وَاضِحَةٍ فَهُوَ لَا يَسْتَوِي مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُ هُدًى وَلَا يَسْتَطِيعُ إِرْشَادًا، بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى مَنْ يَكْفُلُهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الواوُ: حرفُ عطفٍ، و "ضَرَبَ" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلٌ مرفوعٌ. و "مَثَلًا" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ. و "رَجُلَيْنِ" بَدَلٌ مِنْ "مَثَلًا" منصوبٌ مثلهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ مُثَنَّى وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "ضَرَبَ" منَ الآيةِ التي قبلَها عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} أَحَدُ: مَرفوعٌ بالابتداءِ، مضافٌ، و "هُمَا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "أَبْكَمُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لـ "رَجُلَيْنِ". و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها. و "يَقْدِرُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "أَبْكَمُ"، و "عَلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَقْدِرُ"، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "أَبْكَمُ".
قولُهُ: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} الواوُ: هو واوُ الحالِ، ويجوزُ أنْ يكونَ للاسْتِئنافِ. و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ، و " كَلٌّ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، و "عَلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَلٌّ"، و "مَوْلَاهُ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ وعلامةُ جرِّهِ الكَسْرَةُ المقدَّرةُ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورها على الألفِ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجُمُلَةُ الاسْمِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "يَقْدِرُ". أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ} أَيْنَمَا: اسْمُ شَرْطٍ جازِمٍ يَجْزِمُ فِعْلَيْنِ مُضارعينِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ الشَّرْطِ. و "يُوَجِّهْهُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "أَيْنَمَا" عَلَى كَوْنِهِ جَوابَ شَرْطٍ لَهَا؛ وعلامةُ جزمِهِ السكونُ على آخِرِهِ، والهاءُ الثانيةُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الأَبْكَمِ. و "لَا" نافيةٌ لا عملَ لها. و "يَأْتِ" فعلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ على أَنَّهُ جوابُ الشَّرْطِ لـ "أَيْنَمَا"، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حذفُ الياءِ مِنْ آخِرِهِ. و "بِخَيْرٍ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْتِ"، و "خَيْرٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. وجُمْلَةُ الشَّرْطِ مَعَ جَوابِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ على أَنَّها صِفَةٌ ثانيةٌ لِلخَبَرِ "أَبْكَمُ".
قولُهُ: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} هَلْ: حَرْفٌ للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ، و "يَسْتَوِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لثِقَلِها عَلَى الياءِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "أَبْكَمُ"، و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مُؤَكِّدٌ للضَمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي "يَسْتَوِي"، وَجُمْلَةُ "يَسْتَوِي" هَذِهِ جُمْلَةٌ إِنْشائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَمَنْ" الواوُ: حرفُ عَطْفٍ وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ عَطْفًا عَلَى ضَمِيرِ الفاعِلِ المُسْتترِ فِي "يَسْتَوِي"، والشَّرْطُ مَوْجُودٌ وَهُوَ العَطْفُ بِالضَميرِ المُنْفَصِلِ، وهوَ لَفْظُ "هو". و "يَأْمُرُ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسمِ الموصولِ "مَن". و "بِالْعَدْلِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَأْمُرُ"، و "بِالْعَدْلِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ صَلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} الوَاوُ: للحالِ، و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، و "عَلَى" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ. و "صِرَاطٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مُسْتَقِيمٍ" صَفَةُ "صِرَاطٍ" مجرورةٌ مثلهُ، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ هذهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَمِيرِ المُسْتَتِرُ فِي "يَأْمُرُ".
قرأَ الجمهورُ: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ}. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، ويَحْيَى ابْنُ وَثَّابٍ وعَلْقَمَةُ "يُوَجِّهْ" بِهَاءٍ سَاكِنَةٍ للجَزْمِ. وَفي فاعِلِهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ضَمِيرُ الباري تَعَالَى، ومَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ كَقِراءَةِ العامَّةِ. والثاني: أَنَّهُ ضَمِيرُ الأَبْكَمِ، وَيَكونُ "يُوَجِّهْ" لازِمًا بِمَعْنَى تَوَجَّهَ، يُقالُ: وَجَّهَ وتَوَجَّهَ بِمَعْنَى. وَقَرَأَ عَلْقَمَةُ أَيْضًا وطَلْحَةُ كَذلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ بِضَمِّ الهاءِ، وَفِيها أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّ "أَيْنَمَا" لَيْسَتْ شَرْطِيَّةً هُنَا. وَ "يُوَجِّهُ" خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: أَيْنَمَا هُوَ يُوَجِّهُ، أَيْ: اللهُ تَعَالى، والمَفْعُولُ مَحْذوفٌ أَيْضًا، وحُذِفَتِ الياءُ مِنْ "لَا يَأْتِ" تَخْفِيفًا، كَمَا حُذِفَتْ في قولِهِ منْ سورةِ هودٍ {يَوْمَ يَأْتِ} الآيةَ: 106، وكما حُذِفَتْ في قولِهِ مِنْ سورةِ الفجرِ: {إِذَا يَسْرِ} الآيةَ: 4. ورُدَّ هَذَا بِأَنَّ "أَيْنَما" إِمَّا شَرْطٌ أَوْ اسْتِفْهامٌ فَقَط، والاسْتِفْهامُ غَيْرُ لائقٍ هُنَا. والثاني: أَنَّ لامَ الكَلِمَةِ حُذِفَتْ تَخْفِيفًا لأَجْلِ التَضْعيفِ، وَهَذِهِ الهاءُ هِي هَاءُ الضَّميرِ فَلَمْ يُحِلَّهَا جَزْمٌ. ذَكَرَ هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ أَبُو الفَضْلِ الرّازيُّ. والثالثُ: أَنَّ "أَيْنَما" أُهْمِلَتْ حَمْلًا عَلَى "إذا" لِمَا بَيْنَهُما مِنَ الأُخُوَّةِ في الشَّرْطِ، كَمَا حُمِلَتْ "إذا" عَلَيْهَا في الجَزْمِ في نَفْسِ المَواضِعِ، وحُذِفَتِ الياءُ مِنْ "يَأْتِ" تَخْفيفًا أَوْ جَزْمًا عَلَى التَوَهُّمِ، وَيَكونُ "يُوَجِّهُ" لازِمًا بِمَعْنَى "يَتَوَجَّهُ" كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ أَبو حَاتِمٍ الرازيُّ بعدَ أَنْ حَكَى هَذِهِ القِراءَةَ (هذِهِ ضَعيفَةٌ)؛ لأَنَّ الجَزْمَ لازِمٌ. وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ تَوْجِيهَهَا المتقدِّمَ. وقَرَأَ عَلْقَمَةُ وَطَلْحَةُ "يُوَجَّهْ" بِهَاءٍ وَاحِدَةٍ ساكِنَةٍ للجَزْمِ، والفِعْلُ مَبْنِيٌّ للمَفْعُولِ، وهيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ. وقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَيْضًا "تُوَجِّهْهُ" كالعامَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ بِتَاءِ الخِطابِ وَفِيهِ الْتِفاتٌ.
وفي الكلامِ حَذْفٌ، وهوَ حَذْفُ المُقابِلِ لِقَوْلِهِ: "أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ" كأَنَّهُ قِيلَ: والآخَرُ نَاطِقٌ مُتَصَرِّفٌ في مَالِهِ، وَهُوَ خَفِيفٌ عَلَى مَوْلاهُ، أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ يَأْتِ بِخَيْرٍ. دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل". ونَقَلَ أَبُو البَقَاءِ أَنَّهُ قُرِئَ "أَيْنَما تَوَجَّهَ" فِعْلًا مَاضِيًا، وفاعِلُهُ ضَميرُ الأَبْكَمِ.