وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(78)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ" قَالَ: مِنَ الرَّحِمِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والضِيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ حَبَّةَ وَسَوَاءَ ابْنَيْ خَالِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهُوَ يُعَالِجُ بِنَاءً، فَقَالَ لَهُمَا: ((هَلُمَّ)). فَعَالَجَا مَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَمَرَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، وَقَالَ لَهُمَا: ((لَا تَيْأسَا مِنَ الرِّزْقِ مَا تَهَزْهَزَتْ رُؤوسُكُمَا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ تَلِدُهُ أُمُّهُ أَحْمَرَ لَا قِشْرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ)). قالَ ابْنُ حَجَرٍ العَسْقَلانيُّ في الأَمالي المُطْلَقَةِ: (ص: 26) هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، وَابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشِ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فَوَافَقْنَاهُ بِعُلُوِّ دَرَجَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ. والْإِخْرَاجُ: هُوَ الْإِبْرَازُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ. والبُطُونُ: جَمْعُ بَطْنٍ، والبَطْنُ مَا بَيْنَ ضُلُوعِ الصَّدْرِ إِلَى الْعَانَةِ، وَفِيهِ الْمَعِدَةُ الْأَمْعَاءُ وَالْكَبِدُ والصَّفْراءُ والكِلا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَفيه أَيضًا الرَّحِمُ في الإِنَاثِ. وَالْأُمَّهَاتُ: جَمْعُ أُمٍّ. وَفي الآيَةُ مُتَابَعَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ في الآياتِ السَّابِقَةِ مِنْ ذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى انْفِرَادِ اللهِ ـ تَعَالَى، بِإِيجادِ الخَلْقِ والتَّصَرُّفِ فِيهِمْ كَمَا يَشَاءُ تَعاَلى، كما فيها تَعْدَادٌ لنِعَمِهِ العَظِيمَةِ عَلَى الْبَشَرِ، وهي عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ مِنَ الآيَةَ: 72، السابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزواجًا}. بَعْدَ مَا فَصَلَ بَيْنَ تَعْدَادِ النِّعَمِ بِمَا اقْتَضَاهُ الْحَالُ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالْإِنْذَارِ.
قولُهُ: {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} نَفَى اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، العِلْمَ عَنْ هَذَا المَخْلوقِ (الإنْسان)، لأَنَّ حَواسَّهُ الَّتي هِيَ مَصْدَرُ مَعْلوماتِهِ كُلِّهَا، وبِوِسَاطَتِها يَتَعَرَّفُ الإنْسَانُ عَلَى مُحِيطِهِ، وَمَا فِيهِ مِنْ أَشْياءَ، وَيُدْرِكُ مَا حَوْلَهُ مِنْ مَخْلوقاتِ، لا تَكونُ قَدِ اكْتَمَلتْ بَعْدُ، وإنَّما تَنْمٌو شيئًا فشيئًا بِنُمُوِّ جِسْمِهِ، وتَكْتَمِلُ باكْتِمالِهِ، لتقومَ بعملِها على أَكملِ وجهٍ وتُرسِلَ كُلَّ ما تَحْصَلُ عَلَيْهِ مِنْ معلوماتٍ إِلَى الفُؤَادِ لِيُحَلِّلَها وَيُدْرِكَها، وَتَتَجَمَّعُ المَعْلوماتٌ التي تَحْصَلُ عَلَيْها، وتَتَرَاكمُ فِي مركزِ الذَّاكِرَةِ مِنَ الدِماغِ لِيَقومَ بِتَخْزينِها ولِتُشَكِّلَ عِلْمًا.
قوْلُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} أَيْ: أَوْجَدَ فِيكُمْ إِدْرَاكَ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالأَفْئِدَةِ. وَالْأَفْئِدَةُ: جَمَعٌ مفرَدُهُ الْفُؤَادِ، وَأَصْلُهُ الْقَلْبُ. وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْعَقْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. أَيْ كَوْنُهَا فِي النَّاسِ حَتَّى بَلَغَتْ مَبْلَغَ كَمَالِهَا الَّذِي يَنْتَهِي بِهَا إِلَى عِلْمِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا"، أَيْ: فَعَلِمْتُمْ أَشْيَاءَ. وَوَجْهُ إِفْرَادِ السَّمْعِ وَجَمْعِ الْأَبْصَارِ، أَفْرَدَ السَّمْعَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ فَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْجِنْسِ الْمَوْجُودِ فِي جَمِيعِ حَوَاسِّ النَّاسِ. وَأَمَّا الْأَبْصَارَ فَجِيءَ بِهِ جَمْعًا لِأَنَّهُ اسْمٌ، فَهُوَ لَيْسَ نَصًّا فِي إِفَادَةِ الْعُمُومِ، لِاحْتِمَالِ تَوَهُّمِ بَصَرٍ مَخْصُوصٍ، فَكَانَ الْجَمْعُ أَدَلَّ عَلَى قَصْدِ الْعُمُومِ، وَأَنْفَى لِاحْتِمَالِ الْعَهْدِ وَنَحْوِهِ، وهذا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْإِسْرَاء: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} الآيَةَ: 36، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الآيةِ: 46، مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ}. فَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ أَعْظَمُ آلَاتِ الْإِدْرَاكِ إِذْ بِهِمَا إِدْرَاكُ أَهَمِّ الْجُزْئِيَّاتِ، وَهُمَا أَقْوَى الْوَسَائِلِ لِإِدْرَاكِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ. فَالْمُرَادُ بِالسَّمْعِ: الْإِحْسَاسُ الَّذِي بِهِ إِدْرَاكُ الْأَصْوَاتِ الَّذِي آلَتُهُ الصِّمَاخُ، وَبِالْإِبْصَارِ الْإِحْسَاسُ الْمُدْرِكُ لِلذَّوَاتِ الَّذِي آلَتُهُ الْحَدَقَةُ. وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِمَا مِنْ بَيْنِ الْحَوَاسِّ لِأَنَّهُمَا الأَهَمُّ، وَلِأَنَّ بِهِمَا إِدْرَاكَ دَلَائِلِ الِاعْتِقَادِ الْحَقِّ. أَيْ كَمَا أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ عَدَمٍ، وَجَعَلَ فِيكُمُ الْإِدْرَاكَ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِدْرَاكُ مِنَ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ يُنْشِئُكُمْ يَوْمَ الْبَعْثِ بَعْدَ الْعَدَمِ.
قولهُ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وَإِذْ كَانَ هَذَا الصُّنْعُ دَلِيلًا عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ فَهُوَ أَيْضًا بَاعِثٌ عَلَى شُكْرِ اللهِ بِتَوْحِيدِهِ وَنَبْذِ الْإِشْرَاكِ فَإِنَّ الْإِنْعَامَ يَبْعَثُ الْعَاقِلَ عَلَى الشُّكْرِ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" قَالَ: كَرَامَةٌ أَكْرَمَكُمُ اللهُ بِهَا فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، ولَفْظُ الجَلالةِ "اللهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "أَخْرَجَكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هوَ" يَعُودُ عَلَى "اللهُ" تعالى، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفٌ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَخْرَجَ"، و "بُطُونِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ. و "أُمَّهَاتِكُمْ" مجرورٌ بالإضافةِ وهوَ مُضافٌ أيضًا، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبرًا للمُبْتَدَأِ، والجملةُ الإسميَّةُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} لَا: نافيَةٌ لا عمَلَ لها. وَ "تَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. وَ "شَيْئًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، ويَجُوزُ أَنْ يكونَ مَصْدَرًا، أَيْ: شَيْئًا مِنَ العِلْمِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنَ المَفْعُولِ بِهِ في "أَخَرَجَكُمْ"، والتَقْديرُ: واللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بطونِ أمَّهاتِكمْ حالَ كونِكمْ غَيْرَ عَالِمينَ شَيْئًا.
قولهُ: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} الواوُ: للعطْفِ، و "جَعَلَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ على "اللهُ" تعالى. و "لَكُمُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلَ"، وهُوَ فِي مَحَلِّ المَفْعُولِ الثاني لَهُ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "السَّمْعَ" مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِـ "جَعَلَ" لأنَّهُ يَتَعَدّى لمفعولينِ اثْنَيْنِ. و "الْأَبْصَارَ" وَ "الْأَفْئِدَةَ" مَعْطوفانِ عَلَيْهِ، والجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "أَخْرَجَكُمْ" على كونِها خبَرَ المُبتَدَأِ في مَحَلِّ الرَّفعِ. ويَجُوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولهُ: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لَعَلَّكُمْ: ناصِبٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "لَعَلَّ"، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "تَشْكُرُونَ" مِثْلُ "تَعْلَمُونَ"، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لَعَلَّ"، وجُمْلَةُ "لَعَلَّ" معَ اسْمِها وخبرِها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.