وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ} يُخْبِرُ ـ تَعَالَى، عَنْ عظيمِ قُدْرَتِهِ وَسُلْطانِهِ، وسابِغِ نِعَمِهِ التي أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِها. وَمِنْ مَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ وَسُلْطانِهِ مَا خَلَقَ فِي الأَرْضِ وأَنْبَتَ فِيها بالمَاءِ مِمَّا لا يَرْجِعُ إِلَى جَوْهَرِ الأَرْضِ وَجِنْسِها، وَلا إِلى جَوْهَرِ المَاءِ وَجِنْسِهِ، وَهُمَا كالوالِدَيْنِ: الماءُ كالأَبِ، وَالأَرْضُ كالأُمِّ، فَلَمْ يَرْجِعْ مَا خَرَجَ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِهِمَا، وَلَا مِنْ جَوْهَرِهِما؛ كَمَا هو الأَمْرُ فِي سَائِرِ الأَشْيَاءِ، فَمِنْ هَذِهِ المخلوقاتِ ما يَتَوَالَدُ فيرجعُ الولدُ إِلى جِنْسِ الوَالِدَيْنِ وجَوْهَرِهِمَا؛ كما هو الحالُ في الإنسانِ والحيوانِ، بَلْ رَجَعَ التَوَالُدُ والنُّشُوءُ مِنَ الأَرْضِ والماءِ إِلَى جِنْسِ البِذْرِ وَجَوْهَرِهِ؛ لِيُعْلَمَ قُدْرَتُهُ وَسُلْطانُهُ عَلَى إِنْشاءِ الأَشْيَاءِ؛ بِأَسْبابٍ وبِغَيْرِ أَسْبابٍ، وَمِنْ شَيْءٍ وَمِنْ لا شَيْءٍ. وَيَذْكُرُ نِعَمَهُ: حَيْثُ أَخَبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ في الأَرْضِ مِنَ الأَصْنَافِ المُخْتَلِفَةِ، والجَوَاهِرِ المُتَفَرِّقَةِ؛ لِيَنْتَفِعُوا بِها. وأَيْضًا فإنَّ معنى ذَرَأَ أَنَّهُ خَلَقَ خَلْقًا يَتَكاثَرُ بِذَاتِهِ؛ إِمَّا بالوِلادةِ كالإنْسانِ وإِمَّا بِتَفْرِيخِ البَيُوضِ كالأَسْمَاكِ الطُيُورِ. فإِنَّ هَذِهِ المَخْلُوقاتِ مُخْتَلِفَةُ الأَلْوانِ والأَشْكالِ والطُعْومِ والجَوْهَرِ. وَيَحْتَمِلُ قَوْلُهُ: "مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ" أَيْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ؛ ومِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ؛ لأَنَّهُ يَخْلُقُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَلْوانٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَنْ قَدِرَ عَلَى إِنْشَاءِ أَلْوانٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ شَيْءٍ واحِدٍ لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} أَيْ: إنَّ في هَذِهِ الآياتِ الباهراتِ دَليلٌ على عَظَمَةِ اللهِ تَعَالى وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ لِقَوْمٍ هِمَّتُهُمُ الفِكْرُ والنَّظَرُ في الآياتِ، للفَهْمِ والاعْتِبارِ بِهَا، لا لِقَوْمٍ دأبُهُمُ العِنَادُ، والمُكَابَرَةُ، والإِعْراضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الآياتِ وَالفِكْرِ فِيهَا. وفي ذِكْرِ أَنَّ الآيَةَ للمُتَفَكِّرينَ، والعَاقِلينَ، والمُتَذَكِّرينَ كما تقدَّمَ في هَذِهِ الآياتِ المُباركاتِ: إِشارةٌ إلى أَنَّ الانْتِفاعَ بالآياتِ إِنَّما يَكونُ لهَؤُلَاءِ، وَإِنْ كانَتِ الآياتُ لَهُمْ ولِغَيْرِهم مِنْ خلقِ اللهَ، لكنَّ غَيْرَهم لا يَنْتَفِعُ بِهَا لَأنَّهم لا يَتَفَكَّرونَ، ولا يَتَذكَّرونَ، وَلَا يَتَدَبَّرُونَ ولا يَعْقِلونَ. وَقَدْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى الآيَةَ: 11، بالتَفَكُّرِ فَقَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، لأَنَّ مَا فِيها يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ، وخَتَمَ الآيَةَ: 12، بِالتَعَقْلِ فقَالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، لأَنَّ مَدارَ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَعَهَا العَقْلَ. ثُمَّ خَتَمَ هَذِهِ الآيةَ بالتَذَكُّرِ فَقَالَ: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ" لأَنَّ التذكُّرَ نَتيجَةٌ لكُلِّ مَا تَقَدَّمَ. وَجَمَعَ الآيَةَ في الثانِيَةِ دُونَ الأُولَى والثالِثَةِ فقالَ {آيَاتٍ}؛ لأَنَّ مَا نِيْطَ بِهَا أَكْثَرُ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مَعَهَا العَقَلَ.
قولُهُ تَعَالى: {وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوانُهُ} الوَاوُ: و "مَا" مَوْصُولَةٌ، أَوْ مَوْصُوفَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى {اللَّيْلَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، أَوْ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْديرُهُ: وَخَلَقَ لَكُمْ مَا ذَرَأَ لَكُمْ. و "ذَرَأَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى {اللهِ} تعالى. و "لَكُمْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ. و "فِي الأَرْضِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "ذَرَأَ" أَيْضًا، وهذهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَة لِـ "ما" المَوْصُولَةِ، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إنْ كانتْ نَكِرةً مَوْصوفةً، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتَقديرُ: وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ. و "مُخْتَلِفًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ "مَا" المَوْصُولَةِ، أَوْ مِنَ العائِدِ المَحْذُوفِ، و "أَلْوَانُهُ" فَاعِلٌ لاسْمِ الفاعِلِ "مُخْتَلِفًا" مَرْفُوعٌ بِهِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} إِنَّ: حَرْفُ نَصْبٍ ونَسْخٍ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ" مُقَدَّمٌ على اسْمِها. و "لَآيَةً" اللامُ المُزَحْلقةُ للتوكيدِ، و "آيةً" اسْمُهَا منصوبٌ بِها. وَ "لِقَوْمٍ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آيَةً". و "يَذَّكَّرُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفْعَالِ الخَمْسَةِ، والواوُ، وواوُ الجَماعةِ، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وهذِهِ الجُمْلَةُ صِفَةٌ لِـ "قَوْمٍ" في محلِّ الجرِّ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.