لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(60)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ: مِمَّنْ ذُكِرَتْ أفعالُهُمُ القَبيحَةُ صِفَةُ السُّوءِ التي هِيَ حاجِتُهُمْ إِلى الوَلَدِ لِيبْقى لهمْ ذِكْرٌ بَعْدَ مَوْتِهِمْ، وهذِهِ الصِّفةُ هيَ كالمَثَلِ بالنسبةِ إليهمْ. فالْمَثَلُ: هوَ الْحَالُ الْعَجِيبَةُ فِي الْحُسْنِ أَوِ الْقُبْحِ، وَإِضَافَتُهُ هُنَا إِلَى السُّوءِ لِلْبَيَانِ. وَالسَّوْءُ: بِفَتْحِ السِّينِ، مَصْدَرُ سَاءَهُ، إِذَا عَمِلَ مَعَهُ مَا يَكْرَهُ. وَالسُّوءُ: بِضَمِّ السِّينِ، الِاسْمُ، قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 49، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ}.
قولُهُ: {وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وهيَ صفاتُ وُجوُبِ الوُجُودِ الذاتيِّ، والغِنَى المُطْلَقِ، وَالجُودِ الفَائقِ، والتَنَزُّهِ عَنْ صِفَاتِ الحوادثِ الخْلوقِينَ. وَ "الْأَعْلى" أَيْ: أَعْلَى مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فِي الْعُلُوِّ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ، وهيَ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَقد حُذِفَ الْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ لِقَصْدِ الْعُمُومِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى" قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى" قَالَ: يَقُولُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ. وَقِيلَ: "وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى" هو كَقَوْلِهِ في الآية: 35، مِنْ سُورةِ النُّورِ: {اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ}. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَضَافَ الْمَثَلَ هُنَا إِلَى نَفْسِهِ المقدَّسةِ وَقَدْ قَالَ في الآيةِ: 74، مِنْ هذهِ السورةِ المباركةِ: {فَلا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثالَ} فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَلا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثالَ} أَيِ الْأَمْثَالَ الَّتِي تُوجِبُ الْأَشْبَاهَ وَالنَّقَائِصَ، كما سيأتي، أَيْ لَا تَضْرِبُوا للهِ مَثَلًا يَقْتَضِي نَقْصًا وَتَشْبِيهًا بِالْخَلْقِ. وَالْمَثَلُ الْأَعْلَى وَصْفُهُ بِمَا لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ ـ جَلَّ وَعَلَا، عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ وَالْجَاحِدُونَ والمُشْرِكونَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
قولُهُ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهوَ العَزيزُ: أيْ: وهوَ المُنْفَرِدِ بِكَمَالِ القُدْرَةِ، وبِالحِكْمَةِ البالِغَةِ الذي يَفْعَلُ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لأَنَّهُ الوَاحِدُ الأَحَدُ، الفَرْدُ الصَّمَدُ، المُنَزَّهُ عَنْ الحَاجَةِ لِزَّوْجَةِ والوَلَدِ، وَلَهُ صِفَاتُ الجَلاَلِ والجمالِ والكَمَالِ وَالقُدْرَةِ وَالعِلْمِ وَالإِرَادَةِ، لاَ إلَهَ إِلاَّ هُوَ، وَهُوَ ـ سُبْحانَه، العَزِيزُ المَنِيعُ، تَكَبُّرًا وَجَلالًا، لاَ يَغْلِبُهُ غَالِبٌ، وَهُوَ أَيْضًا الحَكِيمُ الذِي لاَ يَفْعَلُ إِلَّا مَا تقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ البَالِغَةُ.
قولُهُ تَعَالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} لِلَّذِينَ: اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، و "الذين" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "لَا" نافيةٌ لا عملَ لها. و "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ في محلِّ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بِالْآخِرَةِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُونَ" و "الْآخِرَةِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "مَثَلُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وهو مُضافٌ. و "السَّوْءِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَللهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} الوَاوُ: للعطفِ، ولفظُ الجلالةِ "للهِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخبَرٍ مُقَدَّمٍ، ولفظُ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "الْمَثَلُ" مَرفوعٌ بالابتِداءِ مُؤَخَّرٌ، و "الْأَعْلَى" صِفَتُهُ مرفوعةٌ مِثْلهُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا، على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} الوَاوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، وَ "هُوَ" ضميرٌ مُنفصِلٌ مبنيٌّ عَلى الفتحِ في محلِّ الرَّفْعِ بِالابْتَدَاءِ. وَ "الْعَزِيزُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. وَ "الْحَكِيمُ" مرفوعٌ على كونِهِ صِفَةً لَهُ أَوْ خَبَرًا ثَانيًا للمُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.