خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ
(4)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ} هُوَ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ ـ تَعَالَى، بِالْإِلَهِيَّةِ وَالوَحْدَانِيَّةِ. وهو أَيْضًا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى فيهِ عِبَادَهُ إِلَى أَنَّهُ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ مِنْ مَاءٍ ضَعِيفٍ مَهِينٍ، تَأْنَفُ النَّفْسُ رائحَتَهُ، والنَّظَرَ إِلَيْهِ، النُّطْفَةُ: هِيَ المَاءُ الصَّافِي، وَهُوَ هُنَا مَادَّةُ التَّلْقِيحِ. وَمَرَّ هذا الإِنْسَانُ ـ عَدا الإنْسَانَ الأَوَّلَ، وهوَ آدَمُ ـ عليهِ السَّلامُ، فِي أَطْوَارٍ كَثِيرَةٍ حَتَّى خَرَجَ طَفْلًا، فَغَذَّاهُ وَنَمَّاهُ، وَأَمَدَّهُ بالحَيَاةِ والقوَّةِ والرِزْقِ. فَلَمَّا اسْتَقَوى هذا الإنسانُ المَخلوقُ، وَدَرَجَ، إِذَا هُوَ يُخَاصِمُ خالقَهُ ورَبَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وَيُكَذِّبُهُ أَيضًا وَيُحَارِبُهُ، ويُجادِلُهُ، وَيُحَارِبُ رُسُلَهُ. والآيةُ نظيرُ قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ يَس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} الآيتانِ: 77 و 78، مَعَ أَنَّ اللهَ إِنَّمَا خَلَقَهُ لِيَكُونَ لَهُ عَبْدًا لاَ ضِدًّا. وَفِي الحَدِيثِ الشَّريفِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَصَقَ فِي كَفِّهِ ثُمَّ قَالَ : ((يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ابْنَ آدَمَ أَنَّى تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سُوَّيْتُكَ فَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْكَ، وَلِلأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ؟)) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/210)، وَابْنُ مَاجَهْ في سُنَنِهِ برقم: (2707) مِنْ حَديثِ بُسْرِ بْنِ جَحَّاشٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ. وقالَ البُوصِيرِيُّ في الزَّوائدِ: (2/365): إِسْنَادٌ صَحيحٌ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ، وأَصْلُهُ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدَيثِ أَبي هُرَيْرَةَ" ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
قولُهُ: {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} خَصِيمُ: شَّدِيدُ الخُصُومَةِ بِالبَاطِلِ، مِنْطِيقٌ مُجَادِلٌ عَنْ نَفْسِهِ، مُكافِحٌ للخُصُومِ، وهِيَ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ بِمَعْنَى مُخَاصِمٍ، وَ "فَعيلٌ" بِمَعْنَى "مُفَاعِلٍ"، ك: "نَسيبٍ" بِمَعْنَى "مُنَاسِبٍ"، و "خَلِيطٍ" بِمَعْنَى "مُخَالِطٍ"، و "عَشِيرٍ" بِمَعْنَى "مُعَاشِرٍ". و "مُّبِينٌ: مُظْهِرٌ للحُجَّةِ لُقِّنَ بِهَا.
قولُهُ تَعَالى: {خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ} خَلَقَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُه "هو" يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تَعَالَى. وَ "الْإِنْسَانَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ لابتداءِ الغايةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقَ"، و "نُطْفَةٍ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَعْقِيبٍ. و "إذا" حَرْفُ مُفَاجَأَةٍ، و "هُوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على الفَتْحِ في محلِّ الرفعِ بالابتداءِ. و "خَصِيمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "خَصِيمٌ" على وزنِ "فَعِيْل"، مِثالُ مُبالَغَةٍ مِنْ "خَصَمَ" بِمَعْنَى "اخْتَصَمَ"، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "مُخاصِم" ك "خَلِيط" و "جَلِيس". و "مُبِينٌ" صَفَةٌ لـ "خصيمٌ" مَرْفُوعَةٌ مثلهُ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ معطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "خَلَقَ الْإِنْسَانَ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.