وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
(35)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} بَيَانٌ لِفَنٍّ آخَرَ مِنْ فُنُونِ كَفْرِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، ونوعٍ من أنواعِ شُبُهَاتِهِمْ، وحِكَايَةٌ لحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ مَكْرِهِمْ وَمُكَابَرَتِهِمْ، وَبَابٌ مِنْ أَبْوَابِ تَكْذِيبِهِمْ. والاسْمُ المَوْصُولُ "الَّذينَ" لِتَقْريعِهِمْ بِمَا في حَيِّزِ الصِّلَةِ وذَمِّهمْ بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ الأَمْرِ.
قولُهُ: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} أَيْ: لَوْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ أَنْ نَعْبُدَ هَذِهِ الآلِهَةَ، لَمْ نَعْبُدْها نَحْنُ، وَلَا كانَ آباؤُنا عَبَدُوهَا مِنْ قَبْلُ. وذَلِكَ لأَنَّهُم كانُوا يَعْتَقِدونَ أَنَّما يَعْبُدونَها لِتُقَرِّبَهم إِلَى اللهِ تَعَالَى، ويَجْعَلُوها واسِطةً بَيْنَهُمْ وبَيْنَ ربِّهم. كَمَا حكى اللهُ تعالى فقالَ في الآية: 3، مِنْ سُورَةِ الزُمَر: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى}.
قولُهُ: {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} وكانُوا قَدْ حَرَّمُوا السَّوائِبَ والبَحائِرَ وغيرِها، وقد تقدمَ بيان ذلك مفصَّلًا في الآية: 103، مِنْ سُورَةِ المَائِدَةِ، عِنْدَ قولِهِ تَعَالى: {مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}. وَذَلِكَ أَنَّ المُشْركينَ كَانُوا يُحَاوِلُونَ إِفْحَامَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، وَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى آلِهَتِهِمْ، وَإِنَّهُ لَا يَرْضَى بِأَنْ يُعْبَدَ مَا سِوَاهُ، وَإِنَّهُ يَنْهَاهُمْ عَنِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَنَحْوِهِمَا، فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ خَصَمُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَاجُّوهُ فَقَالُوا لَهُ: لَوْ شَاءَ اللهُ أَنْ لَا نَعْبُدَ أَصْنَامًا لَمَا أَقْدَرَنَا عَلَى عِبَادَتِهَا، وَلَوْ شَاءَ أَنْ لَا نُحَرِّمَ مَا حَرَّمْنَا مِنْ نَحْوِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ لَمَا أَقَرَّنَا عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ. وَذَلِكَ قَصْدُ إِفْحَامٍ وَتَكْذِيبٍ. وَهَذَا رَدَّهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ بِتَنْظِيرِ أَعْمَالِهِمْ بِأَعْمَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ، فَلَوْ كَانَ اللهُ يَرْضَى بِمَا عَمِلُوهُ لَمَا عَاقَبَهُمْ بِالِاسْتِئْصَالِ. وَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا} الآية: 148، فَسَمَّى قَوْلَهُمْ هَذَا تَكْذِيبًا كَتَكْذِيبِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّكْذِيبُ وَتَعْضِيدُ تَكْذِيبِهِمْ بِحُجَّةٍ أَسَاءُوا الْفَهْمَ فِيهَا، فَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ اللهَ يَتَوَلَّى تَحْرِيكَ النَّاسِ لِأَعْمَالِهِمْ كَمَا يُحَرِّكُ صَاحِبُ خَيَالِ الظِّلِّ وَمُحَرِّكُ اللُّعَبِ أَشْبَاحَهُ وَتَمَاثِيلَهُ، وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَكْوِينِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبَيْنَ مَا يَكْسِبُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبِالْفَرْقِ بَيْنَ أَمْرِ التَّكْذِيبِ وَأَمْرِ التَّكْلِيفِ، وَتَخْلِيطٌ بَيْنَ الرِّضَى وَالْإِرَادَةِ، وَلَوْلَا هَذَا التَّخْلِيطُ لَكَانَ قَوْلُهُمْ إِيمَانًا.
قَوْلُهُ: {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الْإِشَارَةُ بِـ "كَذلِكَ" إِلَى إِشْرَاكِهِمِ باللهِ تعالى، وَتَحْرِيمِ أَشْيَاءَ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ كَفِعْلِ هَؤُلَاءِ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ آياتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 26، مِنْ هذهِ السُّورةِ المُباركةِ: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، وَبِقَوْلِهِ بعد ذلك في الآية: 33، منها: {كذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ}. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهُمْ فَعَلُوا كَفِعْلِهِمْ، فَكَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ مَا عَلِمْتُمْ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُمْ مُرْضِيًا عنهُ مِنَ اللهِ تعالى لَمَا أَهْلَكَهُمْ بِهِ، فَهَلَّا اسْتَدَلُّوا بِهَلَاكِهِمْ عَلَى أَنَّ اللهَ غَيْرُ رَاضٍ عَنْهُم بِفِعْلِهِمْ هذَا؟، فَإِنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ أَظْهَرُ مِنْ دَلَالَةِ الرِّضَى والْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الِانْتِقَامِ وُجُودِيَّةٌ، وَدَلَالَةُ الْإِمْهَالِ عَدَمِيَّةٌ.
قولُهُ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أَيْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا التَّبْلِيغُ، وَأَمَّا الهِدايَةُ فَهيَ مِنْ خلقِ اللهِ تعالى، إذا شاءَ قذَفها في قلبِ منْ يشاءُ، وأَمرُهِا إِليْهِ راجعٌ. وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الأَنْبِياءِ والمُرْسلينِ ـ عَلَيْهِم أفضَلُ الصَّلاةِ وأَكْمَلُ التَسَّلَيمِ، المُجادلةُ والْمُنَاظَرَةُ مَعَ الْأُمَّةِ. وَبِذَلِكَ قَطَعَ الْمُحَاجَّةَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} الواو: للاستِئنافِ، و "قَالَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، و "الَّذينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "أَشْرَكُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والألِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَيْضًا.
قولُهُ: {لَوْ شَاءَ اللهُ} لَوْ: حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جازِمٍ. و "شَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ في محلِّ الجزمِ فِعْلُ شَرْطِ "لَوْ".
قولُهُ: {مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} مَا: نافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "عَبَدْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، و "نا" الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "مِنْ" حرْفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "شَيْءٍ" لأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها، و "دُونِهِ" ظرفُ مَكانٍ مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ لَفْظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مَنْصُوبٌ مَحَلًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "عَبَدْنَا". وجُمْلَةُ "عَبَدْنَا" جَوابُ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وجُمْلَةُ "لَوْ" الشَرْطِيَّةِ منْ فعلِ شرطِها وجوابِها، في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قالَ".
قولُهُ: {نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} نَحْنُ: ضميرٌ منفصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الضمِّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ تَوكِيدًا لِضَميرِ المُتَكَلِّمِ "نا" في "عَبَدْنَا". والواوُ: للعطفِ، و "لا" زائدةٌ لِتَأْكيدِ النَفْيِ لا عَمَلَ لَهَا، و "آباؤُنا" مَعْطوفٌ عَلى ذَلِكَ الضَميرِ، وهو مُضافٌ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. أَيْ: ولا عَبَدَ آباؤُنا مِنْ دونِ اللهِ شَيْئًا.
قولُهُ: {وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} الوَاوُ: للعطفِ. و "حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ" مِثْلُ "عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ" مَعْطُوفٌ عَليْهِ.
قَوْلُهُ: {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كَذَلِكَ: الكافُ حرفُ جَرٍّ وتشبيهٍ. و "ذا" اسمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، واللامُ للبُعدِ والكاف الثانيةُ للخطابِ. و "فَعَلَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ الظاهِرِ. و "الَّذِينَ" اسمٌ موْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـصِلَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ، "قَبْلِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والتَقْديرُ: فَعَلَ الذينَ مِنْ قَبْلِهمْ فِعَلًا مِثْلَ فِعْلِ هؤلاءِ المُشْرِكِينَ.
قَوْلُهُ: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} الفاءُ: للاسْتِئنافِ، أوْ هيَ الفَصيحَةٌ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذا عَرَفْتَ فِعْلَ هَؤُلاءِ، وَفِعْلَ الذينَ مِنْ قَبْلِهم، وأَرَدْتَ بَيَانَ مَا عَلَى الرُّسُلِ، فأَقولُ: "هَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ". و "هَلْ" حَرْفُ اسْتِفْهامٍ للاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، و "الرُّسُلِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ (أَدَاةُ حصْرٍ). و "الْبَلَاغُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، و "المُبِينُ" صِفَةٌ لِـ "الْبَلَاغُ" مرفوعةٌ مثله. والجُمْلَةُ الاسْتِفْهامِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ إِذا المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.