فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
(74)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثَالَ} قالَ عدَدٌ مِنَ المُفَسِّرينَ: يَعْنِي لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ، انظر: تَفْسيرَ مُقاتِلٍ: (1/205 أ)، والطبريِّ: (14/148)، والثَعْلَبيِّ: (2/160 أ)، والطُوسِيِّ: (6/408)، والبَغَوِيِّ: (3/78)، وابْنِ الجَوْزِيِّ (4/471)، والفَخْرِ الرَّازيِّ: (20/82)، والخازنِ: (3/126)، وغيرِها. وَ "الْأَمْثالَ" هُنَا: جَمْعُ مَثَلٍ ـ بِفَتْحَتَيْنِ، بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ، كَ (شَبَهٌ) بِمَعْنَى (مُشَابِهٍ). وَقدْ شاعَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ فِي تَشْبِيهِ حَالَةٍ بِحَالَةٍ وَهَيْئَةٍ بِهَيْئَةٍ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعْمَالٌ آخَرُ للتَفْرِيعِ عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ وَالْمِنَنِ، فقَدِ تَبَيَّنَ مما سَبَقَ انْفِرَادُ اللهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، ونَفْيُ الشَّرِيك لَهُ فِيمَا خَلَقَ وَأَنْعَمَ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، أَوْ أَنْ يُشَبَّهَ بِأَحَدٍ مِنَ الْحَوَادِثِ. فَاسْتَقَامَ أَنْ يُفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ زَجْرُ الْمُشْرِكِينَ عَنْ تَمْثِيلِهِمْ غَيْرَ اللهِ بِاللهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَنْ يُمَثَّلَ بِالْمَوْجُودَاتِ. وَهَذَا كما جَاءَ في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْبَقَرَة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الآيَةَ: 21، إِلَى قَوْلِهِ في الآيةَ: 22، مِنْها: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال" فَإِنَّهُ أَحَدٌ صَمَدٌ {لَمْ يَلِدْ * وَلَمْ يُولدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. الآياتِ: 3 ـ 5 من سورةِ الإِخْلاصِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثَالَ" يَعْنِي اتِّخاذَهُمُ الْأَصْنَامَ، يَقُولُ: لَا تَجْعَلُوا مَعِي إِلَهًا غَيْرِي فَإِنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرِي.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ} أَيْ: إِنَّهُ ـ سبحانَهُ وتَعَالى، يَعْلَمُ كُنْهَ كلِّ مَا تَأْتونَ مِنْ أعمالٍ، ومَا تَذَرُونَ مِنْها، وأَنَّ ما تَفْعَلونَهُ كَضَرْبِ الأمثالِ للهِ وتشبيهِهِ بالحوادِثِ مِنْ خَلْقِهِ، هوَ في غايَةِ العِظَمِ والقُبْحِ. وَفَي هَذا تَعْليلٌ لمَا تَقدَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ ضَرْبِ الأَمْثَالِ للهِ، وَوَعِيدٌ عَلَى ارْتكابِهِ.
قولُهُ: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ كُنْهَ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَمَا فَعَلْتُمُوهُ، فَدَعُوا رَأْيَكمْ وَقِفُوا مَوَاقِفَ الامْتِثالِ لِمَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ مِنَ الأَمْرِ والنَّهْيِ، وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ المُرادُ: فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ كَيْفَ تُضْرَبُ الأَمْثَالُ، وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَتَقَعُونَ فِيما تَقْعُونَ فِيهِ مِنْ مَهَاوِي الرَّدَى والضَّلالِ.
قولُهُ تَعَالى: {فَلَا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثَالَ} الفاءُ: هِيَ الفَصيحَةُ، فقد أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ إِنْعامَ اللهِ عَلَيْكُمْ بِهَذِهِ النِّعَمِ المَذْكورَةِ، وَعَجْزِ الأَصْنامِ عَنْها، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هُوَ اللازِمُ لَكُمْ، فَأَقُولُ لا تَضْرِبُوا للهِ الأَمْثَالَ، و "لَا" ناهيةٌ جازِمةٌ، و "تَضْرِبُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيَةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "للهِ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَضْرِبُوا"، ولفظُ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "الْأَمْثَالَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَة مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتأكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وجملة و "يَعْلَمُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تعالى. والجملةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ خَبَرُ "إِنَّ" في محلِّ الرَّفعِ. وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} الواوُ: للعطْفِ. و "أنتم" ضميرٌ منفصِلٌ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، و "لَا" نافيَّةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "تَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. وقد حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اخْتِصارًا أَوِ اقْتِصارًا. والجُمْلَةُ خَبَرُ المبتدأِ في محلِّ الرَّفعِ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ" عَلى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً مَسُوقَةً لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلها فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.