الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(42)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: صَبَرُوا عَلى مَا عَرَضَ لَهُمْ مِنْ ظُلْمٍ بِمُفارَقَتِهِمْ رسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، وأَهْلَهُمْ وَأَحِبَّاءَهم، وبِعْدِهم عَنْ مَوْطِنِهِمْ، وَهُوَ حَرَمُ اللهِ تَعَالى الذي يُحِبُّهُ كُلُّ مُؤْمِنِ بِهِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، فكَيْفَ بِمَنَ كانَ الحَرَمُ مَسْقَطَ رَأْسِهِ، وصَبَرُوا أَيضًا عَلَى احْتِمَالِ الغُرْبَةِ والعيشِ بَيْنَ أَنَاسٍ أَجَانِبٍ فِي النَّسَبِ مَا أَلِفوهمْ مِنْ قبلُ، وغَيْرِ ذَلِكَ مما يعانيهِ المتغرِّبُ عنْ أهلِهِ ومالِهِ ووطَنِهِ، إِذِ الآيةُ معطوفةٌ على سابِقَتِهَا، وَقَدْ تقدَّمَ أَنَّ المُرادَ بـ {الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} هُمُ المهاجرونَ إلى الحَبَشَةِ فرارًا بدينِهم، منْ ظلمِ قريشٍ واضطِّهادِها لهم، وَقَدْ كانَ مُعَظَمُهمْ مِنَ الفُقَرَاءِ والمَسَاكِينَ والمُسْتَضْعَفِينِ مِنْ المَوَالِي والعَبِيدِ الذينَ طالَمَا تَعَرَّضُوا لِعَسَفِ المُشْركينَ وعَذابِهم، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهم مَاتَ تَحْتَ التَعْذِيبِ كياسرَ وزوجِهِ أَسْمَاءَ، كَمَا هُوَ مَعْلومٌ مِنْ سِيرَةِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسيرةِ أصحابِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم وأَرْضاهم، ومَسيرَةِ دَعْوَتِهِ إلى ربِّهِ والدِّينِ الحَنِيفِ.
قولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أَيْ: مُنْقَطِعينَ إِلَيْهِ ـ تَعَالَى، مُعْرِضِينَ عَمَّنْ سِواهُ، مُفَوِّضِينَ الأَمْرَ كُلَّهُ إِلَيْهِ ـ سُبْحانَهُ. هَذَا مَا أَفادَهُ حَذْفُ مُتَعَلَّقِ التَوَكُّلِ، وَقِيل: تَقْديمُ الجَارِّ والمَجْرورِ المُؤْذِنِ بِالحَصْرِ، وَكَوْنُهُ لِرِعَايَةِ الفَوَاصِلِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ. وقيلَ: بَلْ قُدِّمَ الجارُّ والمجرورُ مراعاةً للفواصِلِ. وَصِيغَةُ الاسْتِقْبَالِ هَذِهِ "يَتَوَكَّلُونَ"، إِمَّا للاسْتِمْرارِ تِلَكَ الصُّورَةِ، أَوْ لاسْتِحْضارِها. فالإخْبارُ عَنِ الماضِي بالمُسْتَقْبَلِ: أَبْلَغُ مِنَ الإخْبارِ عَنْهُ بالفِعْلِ الماضِي. فالظاهِرُ أَنَّ المَعْنَى عَلَى المُضِيِّ، والتَعْبيرُ عنْهُ بالمُضارِعِ لاسْتِحْضارِ تِلْكَ الصُّورَةِ البَديعَةِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُشَاهِدُها.
بعد، فإنَّ هذِهِ الآيةَ تابِعَةٌ للتي قَبْلَهَا، وَمُتَمِّمَةٌ لَهَا، وقدْ تَقَدَّمَ أَنَّها نزلتْ في المُهاجرينَ إلى الحَبَشَةِ، وقِيلَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ هم: صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، وَبِلَالٌ الحَبَشِيُّ، وَعَمَّارُ بْنُ ياسِرٍ، وَخَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ، وَعَابِسٌ وَجُبَيْرٌ مَوْلَيَانِ لِقُرَيْشٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُم، فَجَعَلَتْ قُريشُ يُعَذِّبُونَهُمْ لِيَرُدُّوهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَمَنَعُوهمْ مِنَ الهِجْرَةِ إِلَى يَثْرِبَ (المَدينَةِ المنوَّرةِ لاحقًا). فَأَمَّا صُهَيْبٌ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا رَجُلٌ كَبِيرٌ إِنْ كُنْتُ لَكُمْ لَمْ أَنْفَعْكُمْ، وَإِنْ كُنْتُ عَلَيْكُمْ لَمْ أَضُرَّكُمْ، فَافْتَدَى مِنْهُمْ بِمَالِهِ، فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: رَبِحَ الْبَيْعُ يَا صُهَيْبُ، وَقَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: نِعْمَ الرَّجُلُ صُهَيْبٌ، لَوْ لَمْ يَخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ، وَهُوَ ثَنَاءٌ عَظِيمٌ، يُرِيدُ لَوْ لَمْ يَخْلُقِ اللهُ النَّارَ لَأَطَاعَهُ، فَكَيْفَ ظَنُّكَ بِهِ وَقَدْ خَلَقَهَا؟. وَأَمَّا الخَمْسَةُ الباقُونَ، فَقَدْ قَالُوا بَعْضَ مَا أَرَادَ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ كَلِمَةِ الْكُفْرِ وَالرُّجُوعِ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَتَرَكُوا عَذَابَهُمْ، ثُمَّ هَاجَرُوا، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهمْ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى عِظَمَ مَحَلِّ الْهِجْرَةِ، وَمَحَلِّ الْمُهَاجِرِينَ وَالوَجْهُ فِيهِ ظَاهِرٌ، فإنَّهُ بِسَبَبِ هِجْرَتِهِمْ ظَهَرَتْ قُوَّةُ الْإِسْلَامِ، وقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ أَنَّهُ بِنُصْرَةِ الْأَنْصَارِ لَهُمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ صَبَرُوا} اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الاخْتِصاصِ بِتَقْدير (أَعْنِي أو أَخُصُّ)، أَوْ الرَّفْعِ على الخَبَرِيَّةِ بِتَقْديرِ (هُمْ)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تابِعًا لـ {الذينَ هَاجَرُوا} على أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ بَيَانٌ لَهُ أَوْ نَعْتٌ. و "صَبَرُوا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. والجملةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} الواوُ: للعَطْفِ، و "عَلَى" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بـ "يَتَوَكَّلُونَ" بَعْدَهُ، وقُدِّمَ علَيهِ لإفادَةِ الحَصْرِ، وقيلَ: قُدِّمَ عليْهِ مراعاةً للفواصِلِ. وَ "ربِّهم" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "يَتَوَكَّلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "صَبَرُوا" عَلَى كَوْنِها صِلَةَ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. ويَجُوزُ أَنْ يكونَ "يَتَوَكَّلُونَ" خَبرًا لمبتدَأٍ مَحْذوفٍ، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ هذهِ معطوفةٌ على الجملةِ الاسْميَّةِ تِلْكَ، على كونِها مُسْتأنَفةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والتقديرُ: وَهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى رَبِّهم.