وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ
(19)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَهُ فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنَ العَقَائدِ، وما يُخْفُونَهُ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَمَا يُحَاكُ في صُدورِهم، ويَجُولُ فِي خَوَاطِرِهِمْ، كَمَا يَعْلَمُ مَا يُظْهرونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ منْ أَقْوالٍ، وَما تُبْديهِ جَوَارِحُهِمْ مِنْ أَفْعَالٍ، وَهُوَ مُحْصٍ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَيْهِمْ، وَسَيَجْزِي كُلًّا بِعَمَلِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
فإنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِصِفَةِ الْخَلْقِ دُونَ غَيْرِهِ بِعَدَدٍ مِنَ الْأَدِلَّةِ، ثمَّ باسْتِنْتاجِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مِنَ الآيةِ: 17، قَبْلَها: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ}، وانْتَقَلَ هُنَا إِلَى إِثْبَاتِ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِعُمُومِ الْعِلْمِ.
وَلَمْ يُقَدَّمْ لِهَذَا الْخَبَرِ اسْتِدْلَالًا، وَلَا عُقِّبَ بِالدَّلِيلِ، لِأَنَّهُ مِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ الِانْفِرَادِ بِالْخَلْقِ، فإِنَّ خَالِقَ أَجْزَاءِ الْإِنْسَانِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، يَجِبُ لَهُ أَنْ يَكُونُ عَالِمًا بِدَقَائِقِ حَرَكَاتِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ، وَهِيَ بَيْنَ ظَاهِرٍ وَخَفِيٍّ، فَلِذَلِكَ قَالَ: "وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ"، أَيْ إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ يَسْتَوِي بِالنِسْبِةِ إِلَى عِلْمِهِ المُحيطِ بِسِرُّكم وعَلَنُكم. وَالْمُخَاطَبُ هُنَا هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيَةِ: 17، السَّابِقَةِ: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}. وتَقْديمُ السِّرِّ عَلَى العَلَنِ لِمَا تقدَّمَ غيرَ مَرَّةٍ مِنْ تَحْقيقِ المُسَاواةِ بَيْنَ عِلْمَيْهِ المُتَعَلِّقَيْنِ بِهِمَا عَلى أَبْلَغِ وَجْهٍ، كَأَنَّ عِلْمَهُ بِالسِرِّ أَقْدمُ مِنْهُ بِالْعَلَنِ، أَوْ لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُعْلَنُ فَهُوَ قَبْلَ ذَلِكَ مُضْمَرٌ فِي القَلْبِ، فَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ تَعَالى بِحالَتِهِ الأُولَى أَقْدَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِحَالَتِهِ الثانِيَةِ. وَفِي هَذِهِ الآيَةِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ بِأَنَّ اللهَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَفِيهِ أَيضًا إِعْلَامٌ بِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فَإِنَّهُ يُفِيدُ الْقَصْرَ لِرَدِّ دَعْوَى الشَّرِكَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "يَعْلَمُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على "اللهُ" تعالى، و الجُمْلَةُ الفعليةُ هَذِهِ خَبَرُ المبتدَأِ في محلِّ الرَّفعِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلَّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ؛ لأَنَّ "عَلِمَ" هُنَا بِمَعْنَى عَرَفَ فيتعدَّى، و "تُسِرُّونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ "مَا" فلا محلَّ لها مِنْ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلّ النَّصْبِ، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ مُراعَاةً للفَوَاصِلِ والتَقْديرُ: يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَهُ، و "ما تُعْلِنُونَ" مَعْطوفٌ عَلَى "تُسِرُّونَ" وَإِعْرابُهُ مِثْلهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ فِي تُسِرُّونَ وَتُعْلِنُونَ وَتَدْعُونَ، وَهِيَ قِرَاءَةُ: مُجَاهِدٍ، وَالْأَعْرَجِ، وَشَيْبَةَ، وَأَبِي جَعْفَرٍ، وَهُبَيْرَةَ، عَنْ عَاصِمٍ عَلَى مَعْنَى: قُلْ لَهُمْ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ فِي مَشْهُورِهِ: يَدْعُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ، وَبِالتَّاءِ فِي السَّابِقَتَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَأَصْحَابُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ: (يَعْلَمُ الَّذِي يُبْدُونَ وَمَا يَكْتُمُونَ). وَقَرَأَ طَلْحَةُ: (مَا يُخْفُونَ وَمَا يُعْلِنُونَ)، ثمَّ قرأَ في الآيةِ التي بعدَها (تَدْعُونَ) بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ، وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُخَالِفَتَانِ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ، وَالْمَشْهُورُ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ وَغَيْرِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ. وَقَرَأَ حَفْصٌ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيهِمَا، وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ. وَعَلَى قِرَاءَتِهِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ أَظْهَرُ فِي التَّهْدِيدِ مِنْهَا فِي قصد التَّعْلِيم.