هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هذا شُرُوعٌ في الحديثِ حولَ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ النِّعَمِ الدالَّةِ عَلَى تَوْحِيدِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وهو الماءُ الذي يُنزِلُهُ اللهُ مِنَ السماءِ على الأرضِ وما في ذلكِ مِنْ عظيمِ النِّعَمِ، والمُرادُ مِنَ المَاءِ نَوْعٌ مِنْهُ، وهُوَ المَطَرُ، وقولُهُ: "مِنَ السَّمَاءِ" إِمَّا أَنْ يكونَ السَّحَابُ هوَ المَقْصُودُ بِهِ، وذَلِكَ عَلى سَبيلِ الاسْتِعَارَةِ، أَوِ المَجَازِ المُرْسَلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكونَ المقصودُ هو الجِهةُ المَعْروفُةُ بِـ "السَمَاءِ"، وثمَّةَ مُضافٌ محذوفٌ هنا والتقديرُ: مِنْ جانِبِ السَمَاءِ، أَوْ مِنْ جِهَتِهَا، وحمْلُها عَلَى ذَلِكَ دُونَ هَذَا التقديرِ يَقْتَضِيهُ ظاهِرُ بَعْضِ الأَخْبَارِ، وعَلَى كُلٍّ فـ "مِنْ" للابْتِداءِ، وهو مُتَعَلِقٌ بِمَا بعْدَهُ، وقَدْ تَأَخَّرَ عنْهُ المَفْعُولُ الصَّريحُ لِيَسْتَشْرِفَهُ الذِّهْنُ ويَظْمَأَ إِلَيْهِ العقلُ، فيَتَمَكَّنَ أَتَمَّ تَمَكُّنٍ عِنْدَ وُرُودِهِ عَلَيْهِ.
قولُهُ: {لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ} الشَّرَابُ: اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَهُوَ السائلُ الْمَائِعُ الَّذِي تَشْتَفُّهُ الشَّفَتَانِ، وَتُبْلِغُهُ الْحَلْقَ، فَيُبْلَعُ دُونَ مَضْغٍ، وفيهِ حياةُ كلِّ حيٍّ مِنْ إِنْسَانٍ وحيوانٍ ونَبَاتٍ، قالَ تَعَالَى في الآيةِ: 30، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياءِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. وَالماءُ هُوَ مَا يَسْتَقِرُّ في الأَرْضِ مِنَ غُدْرَانٍ، وتَشْرَبُونَ مِنْهُ، وتَسْقُونَ أَنْعَامَكم. فَـ "لَكُمْ" مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَرابٌ" وقُدِّمَ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، و "مِنْهُ" خَبَرُهُ مُقَدَّمٌ عليهِ كَذَلِكَ، وَ "مِنْ" تَبْعِيضَيَّةٌ. وَهذا التَقْدِيمُ هُوَ الذي سَوَّغَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ هُنَا نَكِرَةً، وَالجُمْلَةُ صِفَةٌ لِـ "مَاءً".
قوْلُهُ: {ومِنْهُ شَجَرٌ} أَيْ: مِنَ الماءِ مَا يَنْتَشِرُ فِي الأَرْضِ، فيَنْبُتُ الشَجَرُ مِنْهُ والنَبَاتُ جميعُهُ، فَإنَّ كَلِمَةَ "شَجَر" تَشْمَلُ جَميعَ أَنْواعِ النَبَاتِ وأَصنافِهِ. لأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ قالوا: الشَجَرُ أَصْنَافٌ، فَأَمَّا جِلُّ الشَّجَرِ، فِالعَظيمَةُ مِنْهُ التي تَبْقَى عَلَى الشِتَاءِ وتتحمَّلُ انْخِفَاضَ درجاتِ الحرارةِ طوالَ هَذا الفَصْلِ، وأَمَّا دِقُّهُ فَصِنْفانِ: أَحَدُهُما يَبْقَى لَهُ في الشِتَاءِ أَرُومَةٌ، وَيَنْبُتُ فِي الرَّبيعِ، ومِنْهَا مَا لا يَبْقَى لَهُ سَاقٌ في الشِتَاءِ؛ مثلُ البَقُولِ وأَشباهِهِ. وقال أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْضِ فَهُوَ شَجَرٌ، لقولِ النَّمِرِ بْنِ تَوْلَبٍ:
نُطْعِمُها اللَّحْمَ إِذَا عَزَّ الشَّجَرْ ......... والخَيْلُ في إطْعامِها اللَّحْمَ ضَرَرْ
يَعْني أَنَّهُمْ يُسْقُونَ الخَيْلَ اللَّبَنَ إَذا أَجْدَبَتِ الأَرْضُ، وَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي هَذِهِ الآيَةِ: يَعْنِي الكَلَأَ. وبِهِ فُسِّرَ في قَوْلِهِ: ((لا تَأْكُلُوا ثَمَنَ الشَّجَرِ فإِنَّهُ سُحْتٌ))، ولَعَلَّ ذَلِكَ لأَنَّهُ جاءَ فِي الحَديثِ النَّهيُ عَنْ مَنْعِ فَضْلِ المَاءِ كَمَنْعِ فَضْلِ الكَلَأِ، وتَشَارُكُ النَّاسِ فِي المَاءِ والكَلَأِ والنَّارِ، وَأَبْقاهُ بَعْضُهُمْ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُ مَجَازًا شَامِلًا، فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ زَنْجَوَيْهِ في الأَمْوالِ لَهُ: (2/671)، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "لَا نَأْكُلُ ثَمَنَ الشَّجَرِ فَإِنَّهُ سُحْتٌ". قَالَ: يَعْنِي الْكَلَأَ وَنَحْوَهُ. وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي ثَمَنِ الْمَاءِ، أَنْ قَيِّمْ أَرْضَهُ بِالْوَهْطِ، كَتَبَ إِلَيْهِ يُخْبِرُهُ، أَنَّهُ سَقَى أَرْضَهُ وَفَضَلَ مِنَ الْمَاءِ فَضْلٌ، وَيَطْلُبُ بِثَلَاثِينَ أَلْفًا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو أَنْ لَا تَبِعْهُ، وَلَكِنِ أَقِمْ قِلْدَكَ ـ قَالَ أَبُو أَحْمَدَ: الْقِلْدُ: النَّوَائِبُ الَّتِي يُسْقَى فِيهَا، ثُمَّ اسْقِ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْهَى عَنْ فَضْلِ الْمَاءِ.
قوْلُهُ: {فِيهِ تُسِيمُونَ} أَيْ: تَرْعَوْنَ أَنْعَامَكم. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "فِيهِ تُسِيمونَ" قَالَ: تَرْعَونَ فِيهِ أَنْعَامَكُمْ. وَأَخْرَجَ الطَسْتِيُّ أَيْضًا عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فِيهِ تُسِيمُونَ" قَالَ: فِيهِ تَرْعَوْنَ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ قَالَ: نَعَم. أَمَا سَمِعْتَ الْأَعْشَى (ميمونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ) وَهُوَ يَقُولُ:
وَمَشَى الْقَوْمُ بِالْعِمَادِ إِلَى الْمَرْعَى ........... وَأَعْيَا الْمُسِيمَ أَيْنَ الْمَسَاقُ
ويُقالُ: أَسَامَ مَاشِيتَهُ، وَسَوَّمَها، إذا جَعَلَهَا تَرْعَى. وسامَتْ بِنَفْسِها، فَهِيَ سَائمَةٌ، وَسَوَامٌ، إذا رَعَتْ حَيْثُ شَاءتْ. وأَصْلُ ذَلِكَ مِنَ السُّومَةِ أَيْ: العَلامَةِ، وَهِيَ كالسِمَةِ، لأنَّ المَوَاشِيَ تُؤَثِّرُ في الأَرْضِ والأَمَاكِنِ التي تَرْعَاهَا فتتركُ فيها عَلامَاتٍ.
لَقَدْ بَيَّنَ ـ جَلَّ جَلالُهُ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إنزالَهُ الماءَ مِنَ السماءِ شرابًا سائغًا لِبَنِي آدَمَ ولِمَواشِيهِمْ وحَيَوانَاتِهِمْ، إِنْبَاتَهُ بِهِ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَمَا تَأْكُلُهُ مَوَاشِيهمْ مِنَ الْمَرْعَى حفاظًا عَلَى حياتِهِمْ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ تَعَالَى عَلَى بَنِي آدَمَ، وَمِنْ أَوْضَحِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الْمُسْتَحِقُّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ ويَعْبُدونَهُ، وَقد جاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ كتابِهِ العزيزِ، كَقَوْلِهِ في الآيَتَيْنِ: (53 و 54) مِنْ سُورَةِ طَهَ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى}، وهَذَا كَقَوْلِهِ في الآية: 30، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياء: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}، وكقولِهِ مِنْ سُورَةِ: النَّمْلِ: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} الآية: 60، وقولِهِ مِنْ سورةِ السَّجْدَةِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ} الآية: 27، وَقَوْلِهِ منْ سُورةِ (ق): {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ ..} الْآيَات: (9 ـ 11)، وقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ النَبَأِ: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} الآيات: (14 ـ 16)، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ النازعات: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} الآيات: (30 ـ 33). وَالْآيَاتُ بِمِثْلِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وقد أَشَارَ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، فِي هَذِهِ الْآيَاتِ المباركاتِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُورَةِ الكَريمَةِ إِلَى بَرَاهِينِ الْبَعْثِ الثَّلَاثَةِ. التي أَوَّلُها: خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وثانيها: خَلْقُ الْإِنْسَانِ مِنْ نُطْفَةٍ ابْتِداءً، لِأَنَّ مَنِ اخْتَرَعَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ ما اخترعَ ثَانِيةً. وثالثُها: إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا، فَهَذِهِ الْبَرَاهِينُ الثَّلَاثَةُ يَكْثُرُ جِدًّا الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْبَعْثِ مِنْ بعدِ المَوْتِ.
وَثمَّةَ بُرْهَانٌ رَابِعٌ يَكْثُرُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَى الْبَعْثِ أَيْضًا، وَلَا ذِكْرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ إِحْيَاءُ اللهِ بَعْضَ الْمَوْتَى فِي دَارِ الدُّنْيَا، فإِنَّ مَنْ أَحْيَا نَفْسًا وَاحِدَةً بَعْدَ مَوْتِهَا قَادِرٌ عَلَى إِحْيَاءِ جَمِيعِ النُّفُوسِ. وَقَدْ ذَكَرَ ـ تَعَالَى، هَذَا الْبُرْهَانَ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فقَالَ في الآيَةِ: 56: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وقَالَ في الآيةِ: 73: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقَالَ في الآيةِ: 243: {فَقَالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}، وقَالَ في الآيةِ: 259: {فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وقَالَ في الآيةِ: 260 مِنْهَا: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
والنَّظَرُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَاجِبٌ، لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ تَقْتَضِي الْوُجُوبَ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَصْرِفُهَا عَنِ الْوُجُوبِ. فَاللهُ ـ جَلَّ جَلالُهُ، أَمَرَ الْإِنْسَانَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى طَعَامِهِ الَّذِي بِهِ حَيَاتُهُ، وَيُفَكِّرَ فِي الْمَاءِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِنْبَاتِ حُبِّهِ مَنْ أَنْزَلَهُ؟ ثُمَّ بَعْدَ إِنْزَالِ الْمَاءِ وَرَيِّ الْأَرْضِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى شَقِّ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ وَإِخْرَاجِهِ مِنْهَا؟ ثُمَّ مِنْ يَقْدِرُ عَلَى إِخْرَاجِ الْحَبِّ مِنْ ذَلِكَ النَّبَاتِ؟ ثُمَّ مِنْ يَقْدِرُ عَلَى تَنْمِيَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ!؟ قال في الْآيَةَ: 9، منْ سورةِ الأَنْعَامِ: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ..}، وَكذَلِكَ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ (عَبَسَ): {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} الآيات: (24 ـ 32). وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى كلِّ إِنْسَانِ بالغٍ راشِدٍ مُكلَّفٍ النَّظَرُ فِي الشَّيْءِ الَّذِي خَلَقَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الطارِقِ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} الآيَةَ: 5، وَكما ترى فإنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ يَأْمُرُ بالنَّظَرِ فِي ذَلِكَ، وَلَا دَلِيلَ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ، فهُوَ إذًا وَاجِبٌ. واللهُ أَعَلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ} هُوَ: ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ. و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرفعِ خَبَرُ المُبتدأِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "أَنْزَلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ، و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ"، و "السَّمَاءِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، و "مَاءً" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، و "لَكُمْ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ"، وعَلَيْهِ فَـ "شَرَابٌ" مُبْتَدَأٌ وَ "مِنْهُ" خَبَرُهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، والجُمْلَةُ صِفَةٌ لِـ "ماءً" أَوْ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذوفِ صِفَةٍ لِـ "مَاءً"، فَيَكُونُ "شرابٌ" فاعِلًا بِالظَّرْفِ، وَ "مِنْهُ" حَالٌ مِنْ "شَرابٍ". وَ "مِنْ" الأُولَى للتَبْعِيضِ، وَكَذَا الثانِيَةُ عِنْدَ بَعْضِهم، لَكِنَّهُ مَجَازٌ لأَنَّهُ لَمَّا كانَ سَقْيُهُ بالماءِ، جُعِلَ كَأَنَّهُ مِنَ المَاءِ، كَقَوْلِ الراجِزِ يصِفُ مَطَرًا:
أَقْبَلَ في المُسْتَنِّ مِنْ سَحَابَهْ ................... أَسْنِمَةُ الآبَالِ فِي رَبَابَهْ
قولُهُ في (رَبابَه) أَيْ: في سَحابَةٍ، ويَعْنِي بِهِ المَطَرَ الذي يَنْبُتُ بِهِ الكَلَأُ الذي تَأْكُلُهُ الإِبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها. وقالَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ الأَنْبَارِيِّ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، إِمَّا مِنَ الأَوَّلِ، يَعْنِي قَبَلَ الضَميرِ، أَيْ: مِنْ سَقْيِهِ وجِهَتِهِ شَجَرٌ، وإِمَّا مِنَ الثاني، يَعْنِي قبل شَجَرٍ، أَيْ: شُرْبُ شَجَرٍ أَوْ حَيَاةُ شَجَرٍ. وَجَعَلَ أَبُو البَقَاءِ الأُولَى للتَبْعِيضِ والثانِيَةَ للسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: بِسَبَبِهِ، ودَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ}. وَكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والمِيمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ:{مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} مِنْهُ: "منْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، وَ "مِنْ" هُنا ابْتِدائِيَّةٌ، وَ "شَرَابٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةٌ لِـ "مَاءً" أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. ويَصِحُّ أَنْ يَكونَ "لَكُمْ" خَبَرًا مُقَدَّمًا لِـ "شَرَابٌ"، وَ "مِنْهُ" حَالًا مِنَ الضَميرِ المُسْتَكِنِّ فِي الخَبَرِ، وَ "مِنْ" تَبْعِيضِيَّةٌ عَلَى هَذَا الوَجْهِ. وَ "مِنْهُ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَهِي هُنَا سَبَبِيَّةٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "شَجَرٌ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا، و "فِيهِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "تُسِيمُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفْعَالِ الخَمْسَةِ، والواوُ، وواوُ الجَماعةِ، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صَفَةٌ لِـ "شَجَرٌ" في محلِّ الرَّفْعِ.
قرَأَ العامَّةُ: {تُسِيمونَ} بِضَمِّ أَوَّلِهِ مِنْ قولكَ: أَسَامَ الراعي مَاشِيَتَهُ، إِذَا أَرْسَلَها لِتَرْعَى، وَقرأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "تَسيمُونَ" بِفَتْحِها، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مُتَعَدِّيًا، ويَكونُ وَزْنُ "فَعَلَ" و "أَفْعَل" بِمَعْنى، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ لازِمًا عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: تَسِيْمُ مواشِيَكُمْ.