بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
(44)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ تَسْلِيَةٌ لِسَيِّدِنَا ونبيِّنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورَدٌّ عَلَى المُشْرِكِينَ فِيمَا أَثَارُوهُ حَوْلَهُ مِنْ شُبُهَاتٍ. و "الْبَيِّنَاتُ" الْحُجَجُ وَالْبَرَاهِينُ والمُعجزاتُ. وَ "الزُّبُرُ" جمعُ "زَبُورٍ" وَهُوَ الْكِتابُ، مُشْتَقٌّ مِنَ "الزَّبْرِ" أَيِ الْكِتَابَةِ، فَـ "فَعُولُ" بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ". و "الزُّبُرِ" هي الْكُتُبُ الَّتِي كُتِبَ فِيهَا مَا أُوحِيَ إِلَى الرُّسُلِ، كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ، وَتَوْرَاةِ مُوسَى، وَإِنْجيلِ عِيسَى الذي كَتَبَهُ الْحَوَارِيُّونَ مِمَّا أَوَحى اللهُ إِلَى عِيسَى، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْهُ عِيسَى ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ جميعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَن مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "بِالْبَيِّنَاتِ" قَالَ: الْآيَاتِ، و "الزُّبُرِ" قَالَ: الْكُتُب. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَنْ أَصْحَابِهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: "بِالْبَيِّنَاتِ والزُّبُرِ" قَالَ: "الْبَينَات" الْحَلَال وَالْحرَامُ الَّذِي كَانَتْ تَجِيءُ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ. و "الزُّبُرِ" كُتُبُ الْأَنْبِيَاءِ: و "أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ" قَالَ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَلَعَلَّ عطفَ "الزُّبُرِ" عَلَى "الْبَيِّناتِ" هو مِنْ عَطْفِ التَقْسِيمِ بِقَصْدِ التَّوْزِيعِ، أَيْ أَنَّ الرُسُلَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَيْهِمْ، قد جاءَ بَعْضُهُمْ مَصْحُوبًا بِالْبَيِّنَاتِ، وَبَعْضُهُمْ جاءَ بِالْأَمْرَيْنِ مَعًا، لِأَنَّهُ قد يَجِيءُ رُسُولٌ بِدُونِ كِتَابٍ، كَرَسُولِ أَهْلِ الرَّسِّ حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ، وَ رَسُولِ بَني عَبْسٍ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ. كما أَنَّ سيِّدَنا نُوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَذْكُرِ اللهُ لَهُ كِتَابًا. وَقَدْ تكونُ "الزُّبُر" خَاصَّةً بِالْكُتُبِ الْوَجِيزَةِ الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا شَرِيعَةٌ وَاسِعَةٌ، كَصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَزَبُورِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَ "بِالْبَيِّناتِ" مُتَعَلِّقٌ بـ "أَرْسَلْنا". وَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ إِلَّا رِجَالًا ـ أَيْ غَيْرَ رِجَالٍ، فَـ "إِلَّا" هنا بِمَعْنَى "غَيْر"، كَما هِيَ في قَوْلِنَا: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ). وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ "أَرْسَلْنا" أَيْ: أَرْسَلْنَاهُمْ بالبَيِّناتِ والزُّبُرِ. وَعَلَيْهِ فإنَّ "بِالْبَيِّناتِ" لا يِتَعَلَّقُ بـ "أَرْسَلْنا" الْأَوَّلِ، لِأَنَّ مَا قَبْلَ "إِلَّا" لَا يَعْمَلُ فِيمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِـ "أَرْسَلْنَا" الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ: أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ. وَقِيلَ: الباءُ في "بِالْبَيِّناتِ" زائدةٌ، و "الْبَيِّناتِ" مَفْعُولٌ بِـ "تَعْلَمُونَ"، أَوْ هو نَصْبٌ على الاخْتِصاصِ بِإِضْمَارِ أَعْنِي، فهُوَ كَقَولِ أَعْشَى تَمِيمٍ:
وَلَيْسَ مُجِيرًا إِنْ أَتَى الْحَيَّ خَائِفُ ............. وَلَا قَائِلًا إِلَّا هُوَ المُتَعَيَّبَا
أَيْ: أَعْنِي الْمُتَعَيَّبَ.
قولُهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} الذِّكْرُ: هو الْكَلَامُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذْكَرَ، أَيْ يُتْلَى وَيُكَرَّرَ. وَإِنَّما سُمِّيَ "الذِّكْرَ" لأَنَّ فيهِ تَذْكيرٌ للغافِلينَ، وَتَنْبِيهٌ للسَّاهِينَ، وفِيهِ الْأَحْكَامُ والقَصُّ وَالوَعْدُ وَالوَعِيدُ. وَفي قولِهِ: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ" عَقِبَ قَوْلِهِ: "بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ" فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ صَلَواتُ اللهُ وَسَلَامُهُ، مُشتملٌ على الاثنينِ معًا فهُوَ بَيِّنَةٌ وَزَبُورٌ مَعًا، أَيْ هُوَ مُعْجِزَةٌ وَكِتَابُ شَرْعٍ. وَذَلِكَ مِنْ مَزَايَا الْقُرْآنِ الكريمِ الَّتِي لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا كِتَابٌ آخَرُ، وَلَا مُعْجِزَةٌ أُخْرَى، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى في سُورةِ العَنْكَبُوت: {وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ برقم: يُؤْمِنُونَ} الآيتان: (50 و 51). وَفِي الْحَدِيثِ الشَّريفِ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيءٌ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (2/341، برقم: 8472) والبُخاريُّ في صَحِيحِهِ: (4981)، (7274)، ومُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ: (1/134، برقم: 152)، مِنْ حديثِ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} التَّبْيِينُ: إِيضَاحُ الْمَعْنَى. وَالتَّعْرِيفُ فِي "النَّاسِ" لِلْعُمُومِ، أَيْ: للنَّاسِ كافَّةً، وَيَدْخُلُ فِيهم أَهْلُ مَكَّةَ دُخولًا أَوَّلِيًّا. و "مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ" أَيْ: ما نَزَلَ إليهمْ في ذَلِكَ الذِكْرِ ـ المتقدِمِ الحديث عنهُ، مِنَ الشرائعِ الأَحْكامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوالِ النَّاسِ في القُرونِ السابقةِ الذينَ أَهْلَكهُمُ اللهُ بِأَلوانٍ مِنَ العَذَابِ بِحَسَبِ أَعْمالِهم، وأنواعِ كفرِهم، عَلَى وَجْهِ التَفْصِيلِ بَيَانًا شافِيًا، كَمَا دلَّتْ عليْهِ صِيغَةُ التَفْعيلِ في الفِعْلَيْنِ: "تُبَيِّنَ" و "نُزِّلَ". فَالرَّسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُبَيِّنٌ عَنِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مُرَادَهُ مِمَّا أَجْمَلَهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يُفَصِّلْهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعالى: "لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نزل إِلَيْهِم" قَالَ: مَا أَحَلَّ لَهُم وَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِم، قَالَ: أَرْسَلَهُ اللهُ إِلَيْهِم لِيَتَّخِذُ بِذَلِكَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِم.
قولُهُ: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أَيْ: لَأَنْ يَتَأَمَّلوا فَيَتَنَبَّهُوا للحَقائقِ وَمَا فيهِ مِنَ العِبَرِ، ويَحْتَرِزُوا عَمَّا يُؤَدِّي إِلى مِثْلِ مَا أَصابَ الأَوَّلِينَ مِنَ العَذَابِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالىَ: "لَعَلَّهُم يتفكرون" قَالَ: يُطِيعونَ.
قولُهُ تَعَالَى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} بِالْبَيِّنَاتِ: الباء: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِمَحْذوفِ صِفَةٍ لِـ "رِجَالًا"، أيْ: رِجَالًا مُلْتَبِسينَ بالبَيِّنَاتِ، أَيْ: مُصاحِبينَ لَهَا، وَهَذَا أَحْسَنُ الأَعَاريبِ فِيهِ، السَّالِمُ مِنَ الاعْتِراضِ، وفيهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ أُخْرَى غيرَ هذَا الوَجْهِ هيَ:
أَوَّلُها: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَرْسَلْنا" داخِلًا تَحْتَ حُكْمِ الاسْتِثْناءِ مَعَ "رَجالًا"، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنا إِلَّا رِجالًا بِالبَيِّناتَ، كَما تقولُ: وَمَا ضَرَبْتُ إِلَّا زَيْدًا بالسَّوْطِ. لأَنَّ أَصْلَهُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا بِالسَّوْطِ. وَضَعَّفَهُ أَبُو البَقَاءِ بِأَنَّ مَا قَبْلَ "إِلَّا" لا يَعْمَلُ فِيما بَعْدَها عندهم إِذا تَمَّ الكلامُ عَلَى "إِلَّا" ومَا يَلِيهَا. قالَ: إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جاءَ في الشِّعْرِ للشاعِرِ يَزيدِ بْنِ الطَّثْرِيَّةِ:
نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارَتَهمْ ................... ولَا يُعَذِّبَ إِلَّا اللهُ بالنَّارِ
قال الشَّيْخُ أبو حيَّان الأندلسيُّ: ومَا أَجازَهُ الحُوفِيُّ والزَمَخشَرَيُّ لا يُجيزُهُ البَصْريُّونَ، إِذْ لا يُجيزونَ أَنْ يَقَعَ بَعْدَ "إِلَّا" إِلَّا مُسْتَثْنًى أَوْ مُسْتَثْنى مِنْهُ، أَوْ تابِعٌ لِذَلِكَ، ومَا ظُنَّ بِخِلافِهِ قُدِّرَ لَهُ عَامِلٌ. وَأَجازَ الكِسائِيُّ أَنْ يَلِيَها مَعْمُولُ مَا قَبْلها مَرْفوعًا ومَنْصوبًا ومَخْفوضًا، نَحْوَ قولِكَ: مَا ضَرَبَ إِلَّا عَمْرًا زَيْدٌ، وَمَا ضَرَبَ إِلَّا زَيْدٌ عَمْرًا، ومَا مَرَّ إِلَّا زَيْدٌ بِعَمْرٍو، ووَافَقَهُ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ في المَرْفوعِ، والأَخْفَشُ فِي الظَّرْفِ وعَديلِهِ، فَمَا لاقاهُ يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ الكِسَائِيِّ والأَخْفَشِ.
ثانيها: أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِأَرْسَلْنا أَيْضًا، إِلَّا أَنَّهُ بِنِيَّةِ التَقْديمِ قَبْلَ أَداةِ الاسْتِثْناءِ والتَقديرُ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ إِلَّا رِجالًا، حَتَّى لا يَكونَ مَا بَعْدَ "إِلَّا" مَعْمُولَيْنِ مُتَأَخِّرَيْنِ لَفْظًا وَرُتْبَةً، داخِلَيْنِ تَحْتَ الحَصْرِ لِمَا قَبْلَ "إِلَّ"، حَكاهُ ابْنُ عَطِيَّةَ.
ثالثُها: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ "نُوحِي" كَمَا تَقُولُ: أُوْحِيَ إِلَيْهِ بِحَقٍّ. ذَكَرَهُ الزَمَخْشَرِيُّ وأَبُو البَقاءِ العُكْبُريُّ.
رابِعُها: أَنَّ الباءَ مَزِيدَةٌ فِي "بالبيِّناتِ" وَعَلى هَذَا فَيَكونُ "بالبَيِّناتِ" هوَ القائمَ مَقامَ الفاعِلِ لأَنَّها هِيَ المُوْحاةُ.
خامسُها: أَنَّ هذا الجَارِّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعِلِ، وَهوَ "إليهم"، وهذانِ الوجهانِ (الرابعُ والخامسُ) ذَكَرَهُمَا أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ جِدًّا مَعْنًى وَصِناعَةً.
السادِسُ: أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "لا تَعْلَمُونَ"، عَلى أَنَّ الشَّرْطَ فِي مَعْنَى التَبْكِيتِ والإِلْزامِ، كَمَا يَقُولُ الأَجِيرُ: إِنْ كُنْتُ عَمِلْتُ لَكَ فَأَعْطِني حَقِّي. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: وَقَوْلُهُ: "فاسْأَلوا أَهْلَ" اعْتِراضٌ عَلَى الوُجُوهِ المُتَقَدِّمَةِ. ويَعْنِي بِقَوْلِهِ "فاسألوا" الجَزَاءَ وَشَرْطَهُ، وأَمَّا عَلَى الوَجْهِ الأَخِيرِ، فَعَدَمُ الاعْتِراضِ واضِحٌ.
السابعُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ جَوابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: بِمَ أُرْسِلوا؟ فَجَاءَ الجوابُ: أُرْسِلوا بالبَيِّناتِ والزُّبُرِ. كذا قَدَّرَهُ الزَمَخْشَرِيُّ، وَهوَ أَحْسَنُ مِنْ تَقْديرِ أَبي البَقاءِ: "بُعِثُوا"، لِمُوافَقَتِهِ للدَّالِّ عَلَيْهِ لَفْظًا ومَعْنًى. و "الْبَيِّنَاتِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ. وَ "وَالزُّبُرِ" الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "الزُّبُرِ" مَعْطُوفٌ عَلَى البَيِّنَاتِ مَجْرورٌ مِثْلهُ؛ أَيْ: رِجَالًا مُتَلَبِّسينَ بالبَيِّناتِ الزُّبُرِ.
قولُهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} الواوُ: حرفٌ للعطْفِ، وَ "أَنْزَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، وَ "نا" التَعظيمِ هذهِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. وَ "إِلَيْكَ" إِلى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَنْزَل"، وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الذِّكْرَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُملةُ معطوفةٌ عَلى جُملةِ قولِهِ مِنَ الآيَةِ التي قبْلَها: {وَمَا أَرْسَلْنَا} عَلى كونِها جُمْلةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا، مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ، و "تُبَيِّنَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ "كَيْ"، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقدرُهُ (هو) يَعودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. و "لِلنَّاسِ: اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تُبَيِّنَ"، وَ "النَّاسِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ أَوْ مَوْصُوفةٌ، مَبْنيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ، وجُمْلةُ "تُبَيِّنَ" مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ، أَيْ: لِتَبِيينِكَ للنَّاسِ، وهذا الجارُّ والمَجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلْنا" منَ الآيةِ التي قبلَها. وَ "نُزِّلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ (مُغيَّرُ الصِّيغَةِ)، ونائبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "مَا"، و "إِلَيْهِمْ" إِلى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُزِّلَ"، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، وجُمْلَةُ "نُزِّلَ" صِلَةٌ لِـ "مَا" الموصولةِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا إنْ كانتْ نَكِرَةً موصوفةً.
قولُهُ: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الوَاوُ: للعَطْفِ. وَ "لَعَلَّهُمْ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "يَتَفَكَّرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ خَبَرُ "لعلَّ" في محلِّ الرَّفعِ، وجُمْلَةُ "لَعَلَّ" في مَحَلِّ الجَرِّ بِلامِ التَعْليلِ المُقَدَّرَةِ، والتقديرُ: ولِإرادَةِ تَفَكُّرِهمْ فِيهِ؛ لأَنَّ "لعلَّ" مُسْتَعارَةٌ هُنَا لِمَعْنَى الإرادَةِ، والجارُّ المُقَدَّرُ مَعْطوفٌ عَلى الجَارِّ والمَجْرورِ في قولِهِ: "لِتُبَيِّنَ" والتقديرُ: وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِكْرَ لِتَبْيينِكَ لَهُمْ، ولإرادَةِ تَفَكُّرِهمْ فِيهِ.