وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ
(56)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} فِي هَذِهِ الْآيَةِ الكريمَةِ شَرْحٌ لتَفَاصِيلَ أَقْوَالِ المُشْرِكِينَ وَبَيانٌ لِفَسَادِهَا وَسَخَافَتِهَا. وأَوَّلُ هَذِهِ السَّخافاتِ أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ حقيقةَ أُلُوهِيتِهِم وغَيْرِهمْ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ تَعَالى مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهَا، وَيجوزُ أَنْ يكونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّصِيبِ، الْبَحِيرَةَ، وَالسَّائِبَةَ، وَالْوَصِيلَةَ، وَالْحَامُ، وَذَلِكَ مَعَ مَا يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى. وَالثَّالِثُ: رُبَّمَا اعْتَقَدُوا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ أَنَّهُ إِنَّمَا حَصَلَ بِإِعَانَةِ بَعْضِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَجِّمِينَ يُوَزِّعُونَ مَوْجُودَاتِ هَذَا الْعَالَمِ عَلَى الْكَوَاكِبِ السَّبْعَةِ، فَيَقُولُونَ لِزُحَلَ كَذَا مِنَ الْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَشْيَاءُ أُخْرَى فكذا هَهُنَا. وهَذَا إِذا كانَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: "لِما لَا يَعْلَمُونَ" عائدًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيَةِ: 54، السَّابِقَةِ: {إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْلَمُونَ. وَيجوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْأَصْنَامِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ الْأَصْنَامُ مَا يَفْعَلُ عُبَّادُهَا. والأوَّلُ أرجحُ لأَنَّ نَفْيَ الْعِلْمِ عَنِ الْحَيِّ حَقِيقَةٌ، وَعَنِ الْجَمَادِ مَجَازٌ. وَأَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: "وَيَجْعَلُونَ" يَعُودُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَكَذَلِكَ هو فِي قَوْلِهِ: "لِما لَا يَعْلَمُونَ". ثمَّ إِنَّ قَوْلَهُ: "لِمَا لَا يَعْلَمُونَ" جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جمْعَ المُذكَّرِ السَّالِمِ، وَهُوَ أَلْيَقُ بِالْعُقَلَاءِ مِنْهُ بِالْأَصْنَامِ لأنَّها جَمَادَاتٌ، وَقَيلَ بَلِ الثَّانِي هو الأَرجَحُ لِأَنَّنا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ افْتَقَرْنَا إِلَى إِضْمَارٍ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ حَقًّا، وَلَا يَعْلَمُونَ فِي طَاعَتِهِ نَفْعًا وَلَا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهُ ضَرَرًا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ خَلَقَهُمْ وَيَضُرُّهُمْ وَيَنْفَعُهُمْ، ثُمَّ يَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَنْفَعُهُمْ وَيَضُرُّهُمْ نَصِيبًا. وَثَانِيهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهِيَّتَهَا. وَثَالِثُهَا: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ السَّبَبَ فِي صَيْرُورَتِهَا مَعْبُودَةً. وَرَابِعُهَا: الْمُرَادُ اسْتِحْقَارُ الْأَصْنَامِ حَتَّى كَأَنَّهَا لِقِلَّتِهَا لَا تَعْلَمُ. فَيكونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ إِلَهًا، أَوْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ كَوْنَهُ نَافِعًا ضَارًّا. أَمَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ هذا الضَميرَ عَائِدٌ إِلَى الْأَصْنَامِ، لَمْ نَفْتَقِرْ إِلَى الْإِضْمَارِ فيكونُ التَّقْدِيرُ: وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا عِلْمَ لَهَا وَلَا فَهْمَ. ثمَّ إِنَّهُ لَوْ كَانَ الْعِلْمُ مُضَافًا إِلَى الْمُشْرِكِينَ لَفَسَدَ الْمَعْنَى، لَأَنَّ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ يَجْعَلُوا نَصِيبًا مِنْ رِزْقِهِمْ لِمَا لَا يَعْلَمُونَهُ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} يُقْسِمُ اللهُ تَعَالَى بِنَفْسِهِ العَظيمَةِ المُقدَّسَةِ بأَنَّهُ سَيَسْأَلُهُمْ، فِي وَقْتِ هَذَا السُّؤَالِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَقَعُ السُّؤَالُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ، وَقِيلَ عِنْدَ عَذَابِ الْقَبْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَقَعُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ بِمَا يَجْرِي هُنَاكَ مِنْ ضُرُوبِ التَّوْبِيخِ عِنْدَ المَسْأَلَةِ، فَهُوَ إِلَى الْوَعِيدِ أَقْرَبُ. وَهَذَا تَهْدِيدٌ ووعيدٌ مِنْهُ شَدِيدٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَهْدِيدٍ، وليس على سبيلِ الاسْتِعلامِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، وَ "يَجْعَلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالفَاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. ولَعَلَّهَا مَعْطوفَةٌ عَلَى مَا سَبَقَ بِحَسَبِ المَعْنَى، أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلونَ مِنَ اللُّجوءِ إِلَى اللهِ تَعَالى عِنْدَ مَسِّ الضُرِّ، ومِنَ الإِشْرَاكِ بِهِ عِنْدَمَا كَشَفَهُ، ويَجْعَلونَ .. إلخ. و "لِمَا" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَجعلونَ"، و "ما" مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى "الذي" مَبْنِيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، ويجوزُ أنْ تُعْرَبَ نَكِرةً موصوفةً. و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يَعْلَمُونَ" مثلُ "يَجعلونَ"، والمَفعولُ بِهِ محذوفٌ والتقديرُ: للأَصْنامِ التي لا تَعْلَمُ عِبادتَهم إِيَّاها، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" إِنْ كانتْ مَوصولَةً، أَوْ صِفَةٌ لَهَا إِنْ كانَتْ نَكِرةً مَوْصوفةً. و "نَصِيبًا" منصوبٌ على المَفْعوليَّةِ لِـ "يجعلون". و "مِمَّا" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "نَصِيبًا"، و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفةً. و "رَزَقْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نا" التعظيم ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ بالمفعوليَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" إنْ أُعْرِبَتْ مَوصولَةً، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ إِنْ أُعْرِبَتْ نَكِرةً مَوْصوفةً، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: مِمَّا رَزَقْناهمْ إِيَّاهُ.
قولُهُ: {تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} تَاللهِ: التاءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ مَحذوفٍ تقديرُهُ: أُقْسِمُ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذوفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَتُسْأَلُنَّ" اللامُ: هي المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، و "تُسْأَلُنَّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مُغَيَّرُ الصِيغَةِ (مبنيٌّ للمفعول) مَرْفُوعٌ وعَلامةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخرِهِ، وقد حُذِفَتْ لِتَوالي الأَمْثالٍ، فالأصْلُ فيهِ: "لَتُسْأَلُونَنَّ"، وواوُ الجَمَاعَةِ المَحْذوفَةِ لالتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والنونُ هيَ نونُ التوكيدِ الثقيلَةُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ واقعةٌ جَوابًا للقَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "عَمَّا" عن: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِـ "تُسْأَلُنَّ" عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِلفعلِ "تُسْأَلُ"، و "مَا" و "ما" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، ويجوزُ أَنْ تكونَ نَكِرةً مَوْصُوفةً، أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ. وَ "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ وهيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. وَ "تَفْتَرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجملةُ في مَحَلِّ النَّصِبِ خبرُ "كانَ"، وجُمْلَةُ "كانَ" صِلَةٌ لِـ "ما" فليسَ لها محلٌّ مِنَ الإعرابِ، إِنْ أَعْرِبَتْ "ما" اسْمًا مَوْصُولًا، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحذوفٌ، والتقديرُ: عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرونَهُ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحْلِّ الجَرِّ إِنْ أُعْرِبَتْ نَكِرَةً موصوفةً. ويجوزُ أنْ تكونَ "ما" مصْدَريَّةً كما تقدَّمَ فيكونُ المَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "ما" وجملةِ "كنتم تفترون" بعدَهَا فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرّ والتقديرُ: تَاللهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنِ افْتِرائكم.