لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لا جَرَمَ} معناهُ: بَلَى، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "لَا جَرَمَ" يَقُولُ: بَلَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا جَرَمَ" يَعْنِي الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاك ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَا جَرَمَ" قَالَ: لَا كَذِبَ. وما يَأْتي بَعْدَ "لَا جَرَمَ" هوَ حَقٌّ ثابتٌ، فإنَّ "لا" نَافِيَةٌ، وَ "جَرَمَ" مِنَ "الجَريمَةِ"، وهي كَسْرُ شَيْءٍ مُؤْمَنٍ بِهِ لِسَلامَةِ المَجْمُوعِ. ومَا بَعْدَ "لاَ جَرَمَ" هُنَا هوَ: أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ. وكُلُّ آياتِ القُرْآنِ التي وَرَدَ فِيها قوْلُهُ: "لَا جَرَمَ" تُؤدِّي هَذَا المَعْنَى، كقولِهِ تعالى بعدَ ذلك في الآيةِ 62، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ}.
وَأَصْلُ الْجَرَمِ ـ بِالتَّحْرِيكِ: هُوَ "الْبُدُّ". وَكَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى صَارَ بِمَعْنَى حَقًّا. أَيْ: حقًّا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَعْلَمُ بِأَنَّ إِصْرَارَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ الضالَّةِ لَيْسَ لِأَجْلِ شُبْهَةٍ تَصَوَّرُوهَا، أَوْ إِشْكَالٍ تَخَيَّلُوهُ، بَلْ هي لِأَجْلِ تَقْلِيدِ آبائهمْ وأجدادِهمْ وَنُصْرَةِ مَذَاهِبِ أُولئكَ الْأَسْلَافِ الضالةِ، وَلِتَكَبُّرِهم واسْتِكْبارِهمْ عَلَى الحَقِّ، وَلِنُفورِهِمْ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ والتمَسُّكِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: {أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ مُتَعَلِّقٍ بِـ "جَرَمَ". وَخَبَرُ "لَا" النَّافِيَةِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مَوْجُودٌ. وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ. وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ فِي أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَوْ لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ، أَيْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ. وَجُمْلَةُ "أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ" خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْوَعِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يُخْفُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِنْكَارِ والاستكبار وَغَيرهمَا بالمؤاخذة بِمَا يخفون وَمَا يظهرون من الْإِنْكَار وَالِاسْتِكْبَارِ وَغَيْرِهِمَا مُؤَاخَذَةِ عِقَابٍ وَانْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ وَالتَّذْيِيلِ لَهَا، لِأَنَّ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلًا وَهُوَ قَادِرٌ يُجَازِي فَاعِلَهُ بِالسُّوءِ. و "ما يُسِرُّونَ" أَيْ: ما يُخْفُونَهُ ويَتَسَتَّرُونَ عَلَيْهِ ويكتمونَهُ مِنْ فاسِدِ العقائدِ، ومَكائدِ الشَرِّ، وسُوءِ الطَوِيَّةِ، و "مَا يُعْلِنُونَ" أَيْ: ما يَنْطِقُونَ بِهِ مِنْ أَقْوالٍ ويُبْدُونَهُ مِنْ أَفْعَالٍ.
قولُهُ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} أَيْ لَا يُثِيبُهُمْ وَلَا يُثْنِي عَلَيْهِمْ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ الْعُمُومُ. وَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعِقَابِ لَهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. والاسْتِكْبارُ مِنْ أَبْغضِ الأشياءِ إِلى اللهِ تَعَالَى بَعْدَ الشِّرْكِ. لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَا يَدْخُلُ حَظِيرَة الْقُدْسِ مُتَكَبِّرٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: المُتَكَبِّرونَ يُجْعَلُونَ يَوْم الْقِيَامَةِ فِي تَوابِيتَ مِنْ نَارٍ، فَتُطْبَقُ عَلَيْهِم. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، والدارِمِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ ماجَةُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ ثَوْبَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ فَارَقَ الرُّوحُ جَسَدَهُ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ، الْكِبْرُ، وَالدَّيْنُ، والغُلولُ. فَقدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ" قَالَ: هَذَا قَضَاءُ اللهِ الَّذِي قَضَى "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ"، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّهُ لَيُعْجِبُني الْجَمَالُ، حَتَّى أَوَدُّ أَنَّ عِلاقَةَ سَوْطِي وشِراكَ نَعْلي حَسَنٌ، فَهَلْ تَرْهَبُ عَلَيَّ الْكِبْرَ؟. فَقَالَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَيْفَ تَجِدُ قَلْبَكَ؟)). قَالَ: أَجِدُهُ عَارِفًا للحَقِّ مُطْمَئِنًّا إِلَيْهِ. قَالَ: ((فَلَيْسَ ذَاكَ بِالْكِبْرِ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ أَنْ تَبْطَرَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ فَلَا تَرَى أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْكَ، وَتَغْمِصَ الْحَقَّ فَتُجاوِزَهُ إِلَى غَيْرِهِ)). وأَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/151، برقم: 17504). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ)). فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، الرَّجُلُ يُحِبُ أَنْ يَكونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنًا، فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الْجَمالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَأَحْمَدُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبي رَيْحَانَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((لَا يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ الْجَنَّةَ)). قَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَن أَتَجَمَّلَ بِعِلاقَةِ سَوْطِي، وَشَسْعِ نَعْلي. فَقَالَ: ((إِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِالْكِبْرِ، إِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، إِنَّمَا الْكِبْرُ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمَصَ النَّاسَ بِعَيْنَيْهِ)). وللحديثِ أَطْرافٌ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ كَانَ يَجْلِسُ إِلَى الْمَسَاكِين ثمَّ يَقُولُ: "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرينَ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عَليٍّ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ لَمْ يُكْتَبْ مُسْتَكْبِرًا: مَنْ رَكِبَ الْحِمَارَ وَلمْ يَسْتَنْكِفْ، وَمَنِ اعْتَقَلَ الشَّاةَ واحْتَلَبَها، وأَوْسَعَ للمِسْكِينِ وَأَحْسَنَ مُجَالَسَتَهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعْبِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حمار الْمُجَاشِعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِي خِطْبَتِهِ: ((إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)). وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، رَفعَهِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَقُولُ اللهُ تعالى: (مَنْ تَوَاضَعَ لِي هَكَذَا ـ وَأَشَارَ بِباطِنِ كَفِّهِ إِلَى الأَرْض، وَأَدْنَاهُ مِنَ الأَرْضِ، رَفَعْتُهُ هَكَذَا ـ وَأَشَارَ بِباطِنِ كَفِّهِ إِلَى السَّمَاءِ ـ وَرَفَعَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ)). وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ البغداديُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ تَوَاضَعُوا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ اللهُ، وَقَالَ: انْتَعِشْ رَفَعَكَ اللهُ فَهُوَ فِي نَفْسِهِ صَغِيرٌ وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ عَظِيمٌ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللهُ، وَقَالَ: اخْسَأْ خَفَضَكَ اللهُ، فَهُوَ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ صَغِيرٌ وَفِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ حَتَّى لَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِم مِنْ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ)). وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَفِي رَأْسِهِ سِلْسِلَتانِ ـ سِلْسِلَةٍ فِي السَّمَاءِ، وسَلْسِلَةٍ فِي الأَرْضِ، وَإِذا تَوَاضَعَ العَبْدُ رَفَعَهُ الْمَلَكُ الَّذِي بِيَدِهِ السِلْسِلَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَإِذا تَجَبَّرَ جَذَبَتْهُ السِلْسِلَةُ الَّتِي فِي الأَرْضِ)). وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا وَفِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ ـ الْحِكْمَةُ بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِنْ تَوَاضَعَ قِيلَ للْمَلَكِ: ارْفَعْ حِكْمَتَهُ، وَإِنِ ارْتَفَعَ قِيلَ للْمَلَكِ: ضَعْ حِكْمَتَهُ)). وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ أَيضًا عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَكَبَّرَ تَعَظُّمًا وَضَعَهُ اللهُ، وَمَنْ تَواضَعَ للهِ تَخَشُّعًا رَفَعَهُ اللهُ)). وَأَخرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ عَطاءَ بْنِ يَسَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوْصَى نُوحٌ ابْنَهُ فَقَالَ: (إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ وقاصِرُهَا عَلَيْكَ حَتَّى لَا تَنْسَى، أُوصِيكَ بِاثْنَتَيْنِ، وأَنْهاكَ عَنِ اثْنَتَيْنِ، فَأَمَّا اللَّتَانِ أُوصِيكَ بِهِما، فَإِنِّي رَأَيْتُهُما يُكْثِرانِ الوُلوجَ عَلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَأَيْتُ اللهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يَسْتَبْشِرُ بِهِما، وَصَالِحُ خَلْقِهِ، قُلْ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْخَلْقِ وَبِهَا يُرْزَقُ الْخَلْقُ، وَقُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَريكَ لَهُ، فَإِنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَوَ كُنَّ حَلَقَةً لَقَصَمَتْها، وَلَوْ كُنَّ فِي كَفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ. وَأَمَّا اللَّتَانِ أَنْهَاكَ عَنْهُمَا، فالشِّرْكُ وَالْكِبْرُ). فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يَا رَسُولَ اللهِ، الْكِبْرُ أَنْ يَكونَ لِي حُلَّةٌ حَسَنَةٌ أَلْبسُها؟. قَالَ: ((لَا إِنَّ اللهَ جَميلٌ يُحِبَّ الْجَمالَ)). قَالَ: فالكِبْرُ أَنْ يَكونَ لي دَابَّةٌ صَالِحَةٌ أَرْكَبُها؟. قَالَ: ((لَا)). قَالَ: فالكِبْرُ أَنْ يَكونَ لِي أَصْحَابٌ يَتْبَعوني، وأُطْعِمُهم؟. قَالَ: ((لَا)). قَالَ: فَأَيُّما الْكِبْرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: ((أَنْ تَسْفَهَ الْحَقَّ وَتَغْمِصَ النَّاسَ)). وَعَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَرَّ بِمَسَاكِينَ قَدْ قَدَّمُوا كِسَرًا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ يَأْكُلُونَ فَقَالُوا: الْغِذَاءَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، فَنَزَلَ وَجَلَسَ مَعَهُمْ وَقَالَ: "إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ" فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: قَدْ أَجَبْتُكُمْ فَأَجِيبُونِي، فَقَامُوا مَعَهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَطْعَمَهُمْ وَسَقَاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ وَانْصَرَفُوا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَكُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّسَتُّرُ مِنْهُ وَإِخْفَاؤُهُ إِلَّا الْكِبْرَ، فَإِنَّهُ فِسْقٌ يَلْزَمُهُ الْإِعْلَانُ، وَهُوَ أَصْلُ الْعِصْيَانِ كُلِّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصحيح ((إِنَّ المُتَكَبِّرينَ يُحْشَرُونَ أَمْثَالَ الذَّرِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطَؤُوهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ لِتَكَبُّرِهِمْ)). أَوْ كَمَا قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تُصَغَّرُ لَهُمْ أَجْسَامُهُمْ فِي الْمَحْشَرِ حَتَّى يَضُرَّهُمْ صِغَرُهَا وَتُعَظَّمُ لَهُمْ فِي النَّارِ حتى يضرهم عظمها)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} لَا جَرَمَ: اسْمٌ مُرَكَّبٌ تَرْكِيبَ أَحَدَ عَشَرَ، وبَعْدَ التَرْكيبِ صارَ مَعْنَاهَا مَعْنَى فِعْلٍ، وَهُوَ فِعْلٌ مَاضٍ بِمَعْنَى "حُقَّ" مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، و "أَنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُا منصوبٌ بها، و "يَعْلَمُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِ من الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على "اللهَ" تَعَالى. والجملةُ في محلِّ الرفعِ خبرُ "أنَّ" وجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلَى الفَاعِلِيَّةِ لِـ "لَا جَرَمَ"، والتَقْديرُ: حُقَّ وثَبتَ عِلْمُ اللهِ، و "مَا" اسمٌ مَوْصُولٌ أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، مَفْعُولُ "يَعْلَمُ"، و "يُسِرُّونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجملةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتَقديرُ: مَا يُسِرُّونَهُ. و "وَمَا يُعْلِنُونَ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا يُسِرُّونَ" ولهُ مالهُ مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ اسمُها، و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يُحِبُّ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تعالى. و "الْمُسْتَكْبِرِينَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ" وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {أَنَّ اللهَ} بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، وقرأَ عِيسى الثَّقَفِيُّ "إِنَّ اللهَ"، بكسْرها، عَلَى الاسْتِئْنافِ. وقِيلَ: لِجَرَيانِ "لا جَرَمَ" مَجْرَى القَسَمِ فَتُتَلَقَّى بِمَا يُتَلَقَّى بِهِ. وَاستشْهدوا بقَولِ بَعْضِ العَرَبِ: لا جَرَمَ واللهِ لا فارَقْتُكَ. وهذا الشاهِدُ، يُضْعِفُ كَوْنَها للقَسَمِ لِتَصْريحِهِ بالقَسَمِ بَعْدَهَا، وإِنْ كانَ أَبو حيَّان الأنْدَلُسِيُّ أَتَى بِذَلِكَ مُقَوِّيًا لِجَرَيانِها مَجْرى القَسَمِ، واللهُ أَعْلَمُ.