إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(40)
قولُهُ ـ تَعاَلَى شَأْنُهُ: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} اسْتِئْنافٌ مَرْدُودٌ إِلَى قَوْلِهِ من الآيةِ: 38، السابِقَةِ: {لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا} لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ التَكْوينِ عَلى الإِطْلاقِ، إِبداءً وَإِعادَةً، بَعْدَ التَنْبِيهِ عَلَى آنِيَّةِ البَعْثِ، ومِنْهُ تَظْهَرُ كَيْفِيَّةُ حدوثِهِ. فَبَيَّنَ لِأُلائكَ المُنْكِرينَ للبَعْثِ، المُقْسِمينَ عَلَى عَدَمِ حُصُولِهِ كَيْفِيَّةَ تحقُّقِ ذَلِكَ، لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ. فإنَّ تَكْوينَ اللهِ تعالى بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
قولُهُ: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ سُهُولَةَ الْخَلْقِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يبْعَثَ مَنْ يَمُوتُ، فَلَا صعوبةَ في ذلكَ، ولا تَعَبَ عَلَيْه وَلَا نَصَبَ فِي إِحْيَائِهِمْ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْدِثُهُ، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ "كُنْ فَيَكُونُ"، فإنَّهُ بمجرِّدِ توجُّهِ الإرادةِ الإلهيَّةِ عليهِ بالكَيْنُونَةِ يَتَكَوَّنُ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: (أَوْقَعَ لَفْظَ "الشَّيْءِ" عَلَى الْمَعْلُومِ عِنْدَ اللهِ قَبْلَ الْخَلْقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا وُجِدَ وَشُوهِدَ).
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ: "كُنْ" مَخْلُوقًا لَاحْتَاجَ إِلَى قَوْلٍ ثَانٍ، وَالثَّانِي إِلَى ثَالِثٍ، وَهكَذا يَتَسَلْسَلُ وَهوَ مُحَالٌ.
وَفِي الآيةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ، مُرِيدٌ لِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ كُلِّهَا، خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، نَفْعِهَا وَضُرِّهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ يَرَى فِي سُلْطَانِهِ مَا يَكْرَهُهُ وَلَا يُرِيدُهُ فَلِأَحَدِ شَيْئَيْنِ: إِمَّا لِكَوْنِهِ جَاهِلًا لَا يَدْرِي، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مَغْلُوبًا لَا يُطِيقُ، وَالأَمْرَيْنِ محالٌ فِي حقِّهِ تعالى، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عندنا عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ لِاكْتِسَابِ الْعِبَادِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ وَهُوَ غَيْرُ مُرِيدٍ لَهُ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَفْعَالِنَا يَحْصُلُ عَلَى خِلَافِ مَقْصُودِنَا وَإِرَادَتِنَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنِ الْحَقُّ ـ سُبْحَانَهُ، مُرِيدًا لَهَا لَكَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ تَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ، وَهَوَ قَوْلُ الطَّبِيعِيِّينَ، الذينَ قالوا بالصُدْفةِ، وأَمَّا أَهْلُ التوحيدِ فقدْ أَجْمَعوا عَلى خِلافِ ذَلِكَ وقالوا بِفَسادِهِ.
قولُهُ تَعاَلَى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وَ "مَا" كافَّةٌ لِـ " إِنَّ" عَنِ العَمَلِ، وهذا التركيبُ لإفادةِ الحصْرِ. و "قَوْلُنَا" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ. و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "لِشَيْءٍ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَوْلُنَا"، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. وهَذِهِ اللامُ هي لامُ التَبْليغِ كَاللامِ التي فِي قولِكَ: قُلْتُ لَهُ قُمْ. وقد جَعَلَها الزَّجَّاجُ للسَبَبِ، أَيْ: لِأَجْلِ شَيْءٍ، أَنْ نَقُولَ لِأَجْلِهِ. وَلَيْسَ بِوَاضِحٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وقولُهُ تَعَالى "أَنْ نَّقُولَ" يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ المَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قالَ: قَوْلُنا، ولكنَّ "أنْ" مَعَ الفِعْلِ تُعْطِي اسْتِقْبالًا لَيْسَ فِي المَصْدَرِ فِي أَغْلَبِ أَمْرِها، وقدْ تَجِيءُ في مَوَاضِعَ لا يُلْحَظُ فِيها الزَمَنُ كَهَذِهِ الآيَةِ، وَكَقَوْلِهِ تعالى منْ سُورةِ الرُّوم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّماءُ والأَرْضُ بِأَمْرِهِ} الآية: 25، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. قالَ الشَّيْخُ أبو حيَّان الأنْدلُسيُّ: وَقَوْلُهٌ: (فِي أَغْلَبِ أَمْرِهَا) لَيْسَ بِجَيِّدٍ بَلْ تَدُلُّ عَلَى المُسْتَقْبَلِ في جَميعِ أُمورِها، وقوله: (وقدْ تَجيءُ) إِلى آخِرِهِ. لَمْ يُفْهَمْ ذَلِكَ مِنْ "أَنَّ"، إِنَّما فُهِمَ مِنْ نِسْبَةِ قِيامِ السَّماءِ والأَرْضِ بِأَمْرِ اللهِ لأَنَّهُ لا يَخْتَصُّ بالمُسْتَقْبَلِ دونَ الماضي في حَقِّهِ تَعَالى، ونَظيرُهُ قولُهُ: {وَكَانَ الله غَفُورًا رَّحِيمًا} فـ "كانَ" تَدُلُّ عَلَى اقْتِرانِ مَضْمونِ الجُمْلَةِ بالزَمَنِ الماضي، وَهُوَ تَعَالى مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ فِي كُلِّ زَمَنٍ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمَانِ، مُجَرَّدٌ عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَرْفِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَوْلُنَا". و "أَرَدْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ لِـ "إِذَا" والتقديرُ: وَقْتَ إِرادَتِنا إِيَّاهُ.
قولُهُ: {أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أَنْ: حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "نَقُولَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ". وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعودُ عَلَى "اللهُ" تَعَالَى. و "لَهُ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَقُولَ" ويقالُ في هذِهِ اللامِ ما قيلَ في اللامِ الأولى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "كُنْ" فِعْلُ أَمْرٍ تامٍّ بِمَعْنَى "أُحْدُثْ" مبنيٌّ على السكونِ، وقد حذفت الواوُ منْ وسطِهِ لالتقاءِ الساكنينِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى الشَّيْءِ، وهذهِ الجُمْلَةُ الفعليَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ مَقُولُ "قُلْ". وَجُمْلَةُ "نَقُولَ" مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلَى الخَبَرِيَّةِ، والتقديرُ: إِنَّما قَوْلُنَا لِشِيءٍ وَقْتَ إِرادَتِنَا إِيَّاهُ قَوْلُنَا لَهُ "كُنْ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "فَيَكُونُ" الفاءُ: عاطِفَةٌ، و "يكونُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ تَامٌ، مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "شيءٍ"، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُملةٍ مُقَدَّرَةٍ تَدُلُّ عَلَيْها الفاءُ، والتقديرُ: فَنَقُولُ ذَلِكَ فَيَكونُ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ "فيكونُ" جَوابًا لِشَرْطٍ مَحْذوفٍ، والتَقديرُ: فإِذا قُلْنَا ذَلِكَ فَهْوَ يَكونُ، واللهُ أَعْلَمُ.
قرَأَ الْعامَّةُ: {فَيَكُونُ} بِالرَّفْعِ أَيْ فَهُوَ يَكُونُ. وَقرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ "فَيَكُونَ" بالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "نَقُولَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ جَوَابُ "كُنْ".