َقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بقولِهِ في الآيةِ 36، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركة: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ. فبَعْدَ أَنْ أُشْبِعَ اللهُ ـ جَلَّ جَلالُهُ، الْقَوْلُ فِي إِبْطَالِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ الذي كانَ منتَشِرًا بَيْنَ القَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ، وَأُتْبِعَهُ بِإِبْطَالِ الِاخْتِلَاقِ عَلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْقُرْآنِ الكريمِ، نَهَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُبارَكَةِ الْناسَ أَنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ إِلَهًا غَيْرَهُ. فَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِبْطَالِ نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الشِّرْكِ كانَ مُتَّبَعًا عِنْدَ بعضِ القَبَائِلَ مِنَ الْعَرَبِ، وَهُوَ عبادةُ إِلَهَيْنِ إِلَهٌ لِلْخَيْرِ وَإِلَهٌ للشَّرِّ، مُتَأَثِّرينَ بذلكَ بِالفُرْسِ كَبَني بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ وَبَنِي تَمِيمٍ، فَقَدْ دَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْمَجُوسِيَّةِ، التي كانتْ تُثْبِتُ وُجودَ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ: إِلَهًا لِلْخَيْرِ وَهُوَ النُّورُ، وَإِلَهًا لِلشَّرِّ وَهُوَ الظُّلْمَةُ، أَيِ الْمَزْدَكِيَّةِ وَالْمَانَوِيَّةِ زَمَنَ كِسْرَى أَبْرُويِشَ وكِسْرَى أَنُو شُرْوَانَ، فَسمُّوا إِلَهُ الْخَيْرِ الذي لَا يَصْدُرُ مِنْهُ غَيْرُ النِّعَمِ الْخَيْراتِ (يَزْدَان)، وَسَمُّوا إِلَهَ الشَّرِّ الذي لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا الْآلَامُ الشُّرُّورُ (آهْرُمُنُ). وَقدْ زَعَمُوا أَنَّ يَزْدَانَ كَانَ مُنْفَرِدًا بِالْإِلَهِيَّةِ، وَكَانَ لَا يَخْلُقُ إِلَّا الْخَيْرَ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْعَالَمِ إِلَّا الْخَيْرُ، فَخَطَرَ فِي نَفْسِهِ مَرَّةً خَاطِرُ شَرٍّ فَتَوَلَّدَ عَنْهُ إِلَهٌ آخَرُ شَرِيكٌ لَهُ هُوَ إِلَهُ الشَّرِّ. وَمَعَ ذَلِكَ فلَمْ يُعَدُّوا مِنْ عَبَدَةِ الطَّاغُوتِ لأَنَّهمْ لَمْ يَجْعَلوا لِهَذَيْنِ الإلَهَيْنِ صُوَرًا مُجَسَّمَةً، فإِنَّ اسْمِ الطَّاغُوتِ اخْتَصَّ بِالصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ الْمَعْبُودَةِ. فَهَذَا الدِّينُ ـ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، يُشْبِهُ الْأَدْيَانَ الَّتِي لَا تَعْبُدُ صُوَرًا مَحْسُوسَةً. وَقد ذَكَر أَبُو العَلاءِ الْمَعَرِّي هَذِهِ العَقِيدَةَ فِي لُزُومِيَّاتِهِ فَقَالَ:
فَكَّرَ يَزْدَانُ عَلَى غِرَّةٍ ........................ فَصِيغَ مِنْ تَفْكِيرِهِ أَهْرُمُنْ
وَقدْ أُكِّدَتْ صِيغَةُ التَّثْنِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ "إِلهَيْنِ" بِلَفْظِ "اثْنَيْنِ" لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الِاثْنِينِيَّةَ مَقْصُودَةٌ بِالنَّهْيِ إِبْطَالًا لِنَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِالنَّهْيِ عَنْ تَعَدُّدِ الْإِلَهِ بَلِ خَصَّ هَذَهِ العَقيدَةَ وَهِيَ قَوْلُ الْمَجُوسِ بِوجودِ إِلَهَيْنِ، بِهَذا النَهْيِ الْخَاصِّ. ولِذَلِكَ فقد نَهى النبيُّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، سعدَ بْنَ وقاصٍ أَنْ يَدْعُوَ بِأُصْبعيْهِ ابتعادًا عنْ هَذِهِ العقيدةِ ونفيًا لَهَا حتَّى لا يُظَنَّ بأَنّهُ مُؤمنٌ بها فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بِسَعْدٍ وَهُوَ يَدْعُو بِأُصْبُعَيْهِ فَقَالَ لَهُ: يَا سَعْدُ أَحَدٌ أَحَدٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانُوا إِذا رَأَوْا إِنْسَانًا يَدْعُو بِأُصْبُعَيْهِ ضَرَبُوا إِحْدَاهُمَا، وَقَالُوا: "إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ أَيضًا، عَنْ أُمِّ المُؤمنينَ السيدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، أَنَّها قَالَت: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ يُدْعَى هَكَذَا، وَأَشَارَتْ بِأُصْبَعٍ وَاحِدَةٍ. وَأَخْرَجَ أَيَضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: الْإِخْلَاصُ يَعْنِي الدُّعَاءَ بالإِصْبَعِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَوْلَهُ: الْإِخْلَاصُ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ، وَالدُّعَاءُ هَكَذَا يَعْنِي بِبُطُونِ كَفَّيْهِ، وللاسْتِخَارَةِ هَكَذَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَوَلَّى ظَهْرَهُمَا وَجْهَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: الدُعَاءُ هَكَذَا ـ وَأَشَارَ بِأُصْبَعٍ وَاحِدَةٍ، مَقْمَعَةُ الشَّيْطَانِ.
وَقالَ الزمخشَريُّ فِي (الْكَشَّافِ) بِأَنَّ "اثْنَيْنِ" جاءَ لِدَفْعِ احْتِمَالِ إِرَادَةِ الْجِنْسِ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا. وَإِذْ نُهُوا عَنِ اتِّخَاذِ إِلَهَيْنِ فَقَدْ دَلَّ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى إِبْطَالِ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ كَثِيرَةٍ.
قولُهُ: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أَيْ: إِنَّ الْمَعْبُودَ الْمُسْتَحِقَّ لِأَنْ يُعْبَدَ هُوَ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِيَدِهِ الضُّرُّ وَالنَّفْعُ. وَقدْ جاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الذِّكْرِ الحكيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا} الآيَةَ: 22، وَجاءِ بعدها في الآيَةِ: 39، منَ السورةِ ذاتِها: {وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا}. وَكقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ (ق): {الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} الآيَةَ: 26]، وَكقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الذارياتِ: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} الآيتانِ: (50 و 51). وَبَيَّنَ ـ سبحانَهُ، فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ اسْتَحَالَةَ تَعَدُّدِ الْأَلِهَةِ عَقْلًا، فقالَ في سُورةِ الإسْراءِ: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} الآيةَ: 42، وَقَالَ في سُورةِ الأَنْبِياءِ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} الآية: 22، وَقَالَ في سورةِ المُؤمِنُون: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآيتانِ: (91 و 92)، وَالْآيَاتُ في هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ "إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ" بَيَانًا لِجُمْلَةِ "لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ"، فَهيَ مَقُولَةٌ لِفِعْلِ "وَقالَ اللهُ" لِأَنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ تَابِعٌ لِلْمُبَيَّنِ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَبِذَلِكَ أُفِيدَ بِالْمَنْطُوقِ مَا أُفِيدَ قَبْلُ بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ. وَالضَّمِيرُ مِنْ قَوْلِهِ "إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ" عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: "وَقالَ اللهُ" أَيْ قَالَ اللهُ: إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، وَهَذَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ فِي حِكَايَةِ الْقَوْلِ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ بِالْمَعْنَى كَمَا هُنَا، وَكقَوْلِهِ مِنْ سُورَة الْمَائِدَة: {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} الآية: 117، وقد جاءَ ذَلِكَ حِكَايَةً عَنْ سيِّدِنا عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَـ {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} مُفَسِّرٌ لقولِهِ قَبْلَهُ {مَا قُلْتُ لَهُمْ إلَّا مَا أَمَرْتَنِي}، فَفِي "أَمَرْتَنِي" مَعْنَى الْقَوْلِ، وَاللهُ قَالَ لَهُ: قُلْ لَهُمُ اعْبُدُوا اللهَ رَبَّكَ وَرَبَّهُمْ، فَحَكَاهُ بِالْمَعْنَى، فَقَالَ: "رَبِّي". وَالْقَصْرُ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ" قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، أَيِ: اللهُ مُخْتَصٌّ بِصِفَةِ تَوَحُّدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِإِبْطَالِ دَعْوَى تَثْنِيَةِ الْإِلَهِيَّةِ. وَحَصْرُ صِفَةِ الْوَحْدَانِيَّةِ فِي اسْمِ عَلَمِ الْجَلَالَةِ بِالنَّظَرِ إِلَى أَنَّ مُسَمَّى ذَلِكَ الْعَلَمِ مُسَاوٍ لِمُسَمَّى إِلَهٍ، إِذِ الْإِلَهُ مُنْحَصِرٌ فِي مُسَمَّى ذَلِكَ الْعَلَمِ.
قوْلُهُ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ" فَيَكُونُ "فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، وَيَكُونُ فِي ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ قَوْلِهِ: "فَارْهَبُونِ" الْتِفَاتٌ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى فِعْلِ "وَقالَ اللهُ" فَلَا يَكُونُ مِنْ مَقُولِ الْقَوْلِ، أَيْ "قَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ" فَلَا تَرْهَبُوا غَيْرِي. وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ الْتِفَاتٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. وَقد تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" بِصِيغَةِ الْقَصْرِ، أَيْ قَصْرَ قَلْبٍ، إِضَافِيًّا، أَيْ قَصَرَ الرَّهْبَةَ التَّامَّةَ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَلَا اعْتِدَادَ بِقُدْرَةِ غَيْرِهِ عَلَى ضُرِّ أَحَدٍ. وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الَّذِينَ يَرْهَبُونَ إِلَهَ الشَّرِّ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَرْهُوبُ. وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ فِي قَوْلِهِ: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْحَصْرِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَمْرِ بِالرَّهْبَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى كَوْنِهَا مِنَ اللهِ يُفْهَمُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِقَصْرِ الرَّغْبَةِ عَلَيْهِ لِدَلَالَةِ قَصْرِ الرَّهْبَةِ عَلَى اعْتِقَادِ قَصْرِ الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَيُفِيدُ الرَّدَّ عَلَى الَّذِينَ يَطْمَعُونَ فِي إِلَهِ الْخَيْرِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الرَّهْبَةِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ (المزْدكيَّةِ) أَنْ تَكُونَ عِبَادَتُهُمْ عَنْ خَوْفِ إِلَهِ الشَّرِّ، لِأَنَّهُمْ فِي أَمْنٍ مِنْ إِلَهَ الْخَيْرِ، فَهُوَ مَطْبُوعٌ عَلَى الْخَيْرِ بحَسَبِ اعتقادِهم. وَقَدْ جاءَ الضَمِيرُ في "فَإِيَّايَ" الْتِفَاتًا مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ، لِمُنَاسَبَةِ انْتِقَالِ الْكَلَامِ مِنْ تَقْرِيرِ دَلِيلِ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تعالى عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ إِلَى تَعْيِينِ هَذَا الْوَاحِدِ، بِأَنَّهُ اللهُ مُنَزِّلُ الْقُرْآنِ تَحْقِيقًا لِتَقْرِيرِ الْعَقِيدَةِ الْأَصْلِيَّةِ. وَفِي هَذَا الِالْتِفَاتِ اهْتِمَامٌ بِالرَّهْبَةِ لِمَا فِي الِالْتِفَاتِ مِنْ هَزِّ فَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ، ولَفْتِ عِنَايَتِهم. وَاقْتَرَنَ فِعْلِ "فَارْهَبُونِ" بِالْفَاءِ لِيَكُونَ تَفْرِيعًا عَلَى التَفْرِيعِ الأَوَّلِ، فَيُفِيدُ التأكيدَ عَلَى التَّأْكِيدِ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ "ارْهَبُونِ" بِالْمَفْعُولِ لَفْظًا يَجْعَلُ الضَّمِيرَ الْمُنْفَصِلَ الْمَذْكُورَ قَبْلَهُ فِي تَقْدِيرِ مَعْمُولٍ لِفِعْلٍ آخَرَ، أَيْ: فَإِيَّايَ ارْهَبُوا فَارْهَبُونِ، أَيْ: لقد أَمَرْتُكُمْ بِأَنْ تَقْصُرُوا رَهْبَتَكُمْ عَلَيَّ، فَارْهَبُونِ امْتِثالًا لِأَمْرِي.
قولُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "قَالَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ. وَلفظُ الجلالةِ "اللهُ" مرفوعٌ بالفاعليَّةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، وَ "لَا" ناهِيَةٌ جازِمَةٌ. وَ "تَتَّخِذُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بها، وعَلامَةُ جَزمِهِ حذفُ النُّونِ منْ آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. والفِعلُ "لَا تَتَّخِذُوا" يَتَعَدَّى إِلى مَفْعولٍ واحِدٍ، لأَنَّهُ بِمَعْنَى "لا تَعْبُدُوا". ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ مُتَعَدِّيَةً لِاثْنَيْنِ، والثاني مِنْهُما مَحْذوفٌ، أَيْ: لا تَتَّخذوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ مَعْبودًا. وَ "إِلَهَيْنِ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ مثنَّى. و "اثْنَيْنِ" صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِـ "إِلَهَيْنِ" منصوبةٌ مِثْلهُ وعلامةُ النَّصْبِ الياءُ لأنَّهُ مُلْحَقٌ بالمثنَّى، وقالَ أَبو البقاءِ العُكْبُريُّ بِأَنَّهُ هوَ المَفْعُولُ الأَوَّلُ، وإِنَّما أُخِّرَ، والأَصْلُ هُوَ: لا تَتِّخِذُوا اثْنَيْنِ إِلَهَيْنِ. وَفِي قولِهِ هذا بُعْدٌ، إِذْ لا مَعْنَى لهُ البَتَّةَ. أَمَّا الزَمَخْشَرِيِّ فيُفْهِمُ مِنْ كلامِهِ أَنَّ "اثْنَيْنِ" هُنَا لَيْسَ تَأْكِيدًا فقَدْ قالَ: (فإِنْ قُلْتَ: إِنَّما جَمَعوا بَيْنَ العَدَدِ والمَعْدودِ فِيما وَراءَ الواحِدِ والاثْنَيْنِ، فقالوا: عِنْدِي رِجَالٌ ثَلاثَةٌ وأَفْراسٌ أَرْبَعَةٌ؛ لأَنَّ المَعْدودَ عَارٍ عَنِ العَدَدِ الخاصِّ، فَأَمَّا رَجُلٌ ورَجُلانِ وَفَرَسٌ وَفَرَسانِ فمَعْدودانِ فِيهِمَا دَلالَةً عَلى العَدَدِ، فَلا حاجَةَ أَنْ يُقالَ: رَجُلٌ واحِدٌ، ورَجُلانِ اثْنانِ، فَمَا وَجْهُ قوْلِهِ تَعَالَى "إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ"؟ قلتُ: الاسْمُ الحامِلُ لِمَعْنَى الإِفْرادِ أَوِ التَثْنِيَةِ دَلَّ عَلى شَيْئَيْنِ: عَلَى الجِنْسِيَّةِ والعَدَدِ المَخْصوصِ، فإِذا أُريدَتِ الدَّلالَةُ عَلى أَنَّ المَعْنِيَّ بِهِ مِنْهُما والذي يُساقُ إِلَيْهِ الحَديثُ هوَ العَدَدُ، شُفِعَ بما يُؤَكِّدُ العَدَدَ، فَدَلَّ بِهِ عَلى القَصْدِ إِلَيْهِ والعِنايَةِ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قلْتَ: إِلَه، وَلَمْ تُؤَكِّدْهُ بِواحِدٍ لَمْ يَحْسُنْ، وَخُيِّلَ أَنَّكَ تُثْبِتُ الإِلَهِيَّةَ لا الوَحْدانِيَّةَ). وَقالَ أَبُو حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ: (لمَّا كانَ الاسْمُ المَوْضُوعُ للإِفرادِ والتَثْنِيَةِ قَدْ يُتَجَوَّزُ بِهِ، فَيُرادُ بِهِ الجِنْسُ نَحْوَ قولِكَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، وَنِعْمَ الرَّجُلانِ الزَّيْدانِ، ونحْوَ قوْلِ نَصْرِ بْنِ سَيَّار:
فإنَّ النارَ بالعُوْدَيْنِ تُذْكَى .................... وإنَّ الحربَ أَوَّلُها الكلامُ
أَكَّدَ المَوْضوعَ لَهُما بالوَصْفِ، فَقِيلَ: "إلهَيْنِ اثْنَينِ"، وَقيلَ: إِلَهٌ واحِدٌ). والجُمْلةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إِنَّمَا: كافَّةٌ ومكفوفةٌ تُفيدُ الحَصْرٍ، و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. و "إِلَهٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "وَاحِدٌ" صِفَةٌ لِـ "إِلَهٌ" مَرْفوعةٌ مثله، والجُمْلةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قَالَ".
قولُهُ: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} الفاءُ: واقِعَةٌ فِي جَوَابِ شَرْطٍ مَحْذوفٍ والتقديرُ: إِنْ كُنْتم راهِبينَ شَيْئًا فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، وَ "إِيَّايَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ بَعْدَهُ، والتقديرُ: فإِيَّايَ ارْهَبُوا، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ جَوابُ الشَّرْطِ المَحْذوفُ، أَيْ: إِنْ نَالَكُمُ الخَوْفُ فَارْهَبونِي أَنَا دُونَ سِوَايَ. وَجُمْلَةُ الشَّرْطِ المَحْذِوفِ تِلْكَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القَولِ لِلفِعْلِ "قالَ". وَ "فَارْهَبُونِ" الفاءُ: هنا للتَزْيِينِ فهيَ إِذًا زائدةٌ، وَ "ارْهَبُونِ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ منَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ، وَ "النُّونُ" هَذِهِ هيَ نُونُ الوِقايَةِ، ويَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ اجْتِزاءً عَنْها بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقايَةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
فالقاعدَةُ النَّحْوِيَّةُ، تقضي بِأَنَّ المَفْعُولَ إِذَا كانَ ضَميرًا مُنْفَصِلًا وكانَ الفِعْلُ مُتَعَدِّيًا لِوَاحِدٍ وَجَبَ تَأْخِيرُ الفِعْلِ نَحْوَ قولِهِ تعالى مِنْ سورةِ الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} الآيَةَ: 5، ولا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ كَقَوْلِ الراجزِ حَمِيدٍ الأَرْقَط:
أَتَتْكُ عَيرٌ تَقْطَعُ الأَرَاكا .........................إِلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إيَّاكا
فهُوَ شاذٌّ لا يُقاسُ عَلَيْهِ.