وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
(58)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الوَاوُ للْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ اقْتَضَى الْإِطَالَةَ بِهَا أَنَّهَا مِنْ تَفَاريعِ شِرْكِهِمْ، فَهِيَ لذَلِك جَديرةٌ بِأَنْ تَكُونَ مَقْصُودَة بِالذكر كأخواتها. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ مَعْطُوفَةً عَلَى الجُمْلَةِ التي قبلَها: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} الَّتِي هِيَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُفِيتُ قَصْدَهَا بِالْعَدِّ. وَهَذَا الْقَصْدُ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ مَآلُ الِاعْتِبَارَيْنِ وَاحِدًا فِي حَاصِلِ الْمَعْنَى. والبِشَارَةُ: هي الإِخْبَارُ، وإِنَّما تَكونُ بِالخَيْرِ، وقَدْ عَبَّرَ اللهُ تَعَالى عَنْ وِلادَةِ الأُنثى بالبُشْرى؛ لأَنَّهَا بِشارةٌ بٍسَلامَةِ أُمِّها، ولأَنَّها في ذَاتِهَا رِزْقٌ مِنَ اللهِ تَعَالى، ولأَنَّها قَلْبُ أُمٍّ يَكونُ لَهُ فَضْلُ حَنَانٍ وشَفَقَةٍ، لِذلك جاءَ التَعْبيرُ بِـ "بُشِّرَ"، ولَرُبَّما كانَ المُرادُ التعريضَ والتهكُّمَ بِهمْ كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عِمْرانٍ وغيرِها: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآيةَ: 21. فَالتَّعْبِيرُ بِالبِشارَةِ هنا يُفِيدُ التَعْرِيضَ بِالتَّهَكُّمِ بِهِمْ إِذْ يَعُدُّونَ الْبِشَارَةَ مُصِيبَةً وَذَلِكَ مِنْ تَحْرِيفِهِمُ الْحَقَائِقَ. وَالتَّعْرِيضُ مِنْ أَقْسَامِ الْكِنَايَةِ وَالْكِنَايَةُ تُجَامِعُ الْحَقِيقَةَ. فإِنَّهم كانوا يَرَوْنَ أَنَّ وِلادَةَ الأُنْثَى لَهُمْ خَطْبٌ جَسِيمٌ عَلَيْهم وكَرْبٌ عَظِيمٌ. وكانَ مِنْ الوَاجِبِ عَلَيهِمُ اسْتِقْبالُها بالبَهْجَةِ وَالسُّرورِ والفَرَحِ، كَمَا تُسْتَقْبَلُ البِشَارَةُ فِي العادَةِ، وَلَكِنَّهمُ اسْتَقْبَلُوهَا بِالغَضَبِ والنُّفُورِ وَالحُزْنِ الشَّديدِ، كَمَا تُسْتَقْبَلُ المُصِيبَةُ، بالنَقْمَةِ على مَنْ بَشَّرَهمْ الكُرْهِ لِمَا بُشِّرُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعالى: "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ" قَالَ: هَذَا صَنِيعُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَخْبَرَهُمُ اللهُ بِخُبْثِ صَنيعِهم. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ، وَقَضَاءُ اللهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، ولَعَمْرِي مَا نَدْرِي أَنَّهُ لَخَيْرٌ، لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ غُلَامٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمُ اللهُ بِصَنيعِهم لِتَجْتَنِبُوهُ، وَتَنْتَهُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَحَدُهم يَغْذُو كَلْبَهُ، ويَئِدُ ابْنَتَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَقْتُلُونَ مَا وُلِدَ لَهُمْ مِنْ جَارِيَةٍ فَيَدُسُّونَها فِي التُّرَابِ وَهِيَ حَيَّةٌ حَتَّى تَمُوتَ.
قولُهُ: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} أَيْ: بَقِيَ وَجُهُ الواحِدِ مِنْهُمْ مُسْوَدًّا حَنِقًا عَلَى امْرَأَتِهِ لأنَّها وَلَدَتْ لَهُ أُنْثى، وهذا مِنْ عماءِ جَاهِلِيَّتِهم، وكأَنَّ المَرْآةَ بيدِها أَنْ تَلِدَ ما تَشَاءُ. رَوَى ابْنُ الأَعْرابيِّ عَنْ أَبي شُبَيْلٍ قالَ: كانَ عِنْدَنَا رَجُلٌ مِئْنَاثٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً فصَبَرَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ جَارِيَةً فَصَبَرَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ جَارِيَةً فَهَجَرَهَا وَتَحَوَّلَ عَنْهَا إِلَى بَيْتٍ قَريبٍ مِنْهَا، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَنْشَأَتْ تَقُولَ:
مَا لِأَبي الذَّلْفَاءِ لا يَأْتِينَا .................... وَهُوَ فِي الْبَيْتِ الذي يَلِيَنا
يَغْضَبُ إِنْ لَمْ نَلِدِ الْبَنِينَا .................... وَإِنَّمَا نُعْطِي الَّذِي أُعْطِينَا
وَاسْوِدادُ الوَجْهِ انْقِباضُهُ وتلبُّدُهُ واحْتِقانُ الدَمِ فِيهِ حَتَّى لَيَبْدُو أَقربَ للسَّوادِ، وذَلِكَ مِنْ شِدَّةِ الغَيْظِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ لَقِيَ مَكْرُوهًا: قَدِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ غَمًّا وَحُزْنًا، قالَ الزَّجَّاجُ. وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ سَوَادُ اللَّوْنِ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ.
قولُهُ: {وَهُوَ كَظِيمٌ} أَيْ: وَهُوَ مُمْتَلِئٌ غَيْظًا، يَكادُ يَنْفَجِرُ مِنْ شدَّةِ غيظِهِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ كَظْمِ القِرْبَةِ حينَ تَمْتَلِئُ بالماءِ، ثُمْ تُكْظَمُ، أَيْ: يُرْبَطُ فُوهَا. وهكذا يَبْدُو الغَضَبَانُ منْتَفِخَ العروقِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْمَغْمُومُ الَّذِي يُطْبِقُ فَاهُ فَلَا يَتَكَلَّمُ مِنَ الْغَمِّ، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الْكِظَامَةِ وَهُوَ شَدُّ فَمِ الْقِرْبَةِ حَتَّى لا يَخْرَجَ الماءُ منها. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "كَظِيمٌ" بِمَعْنَى "فاعِل"، وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى "مَفْعول" كما في قولِهِ تعالى مِن سورةِ القلَمِ: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} الآيةَ: 48.
أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعالى: "وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ" قَالَ: هَذَا صَنِيعُ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَخْبَرَهُمُ اللهُ بِخُبْثِ صَنيعِهم. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَرْضَى بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ، وَقَضَاءُ اللهِ خَيْرٌ مِنْ قَضَاءِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ، ولَعَمْرِي مَا نَدْرِي أَنَّهُ لَخَيْرٌ، لَرُبَّ جَارِيَةٍ خَيْرٌ لأَهْلِهَا مِنْ غُلَامٍ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَكُمُ اللهُ بِصَنيعِهم لِتَجْتَنِبُوهُ، وَتَنْتَهُوا عَنْهُ، فَكَانَ أَحَدُهم يَغْذُو كَلْبَهُ، ويَئِدُ ابْنَتَهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. وَ "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمَانِ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الظرفيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بـ "ظَلَّ". وَ "بُشِّرَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ عَلَى الفَتْحِ. وَ "أَحَدُهُمْ" نِائبٌ عنِ الفاعِلِ مرفوعٌ، مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ لِتَذْكِيرِ الجَمْعِ. والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "إِذَا"، وَ "بِالْأُنْثَى" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بُشِّرَ"، وهو لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْبِشَارَةِ، وَعُلِّقَتْ بِذَاتِ الْأُنْثَى. وَالْمُرَادُ بِوِلَادَتِهَا، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ، و "الْأُنْثَى" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الكسْرةُ المقدَّرةُ على آخِرِهِ، لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} ظَلَّ: فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وهو مِنْ أَفْعَالِ الْكَوْنِ، أَخَوَاتِ "كَانَ" الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ فَاعِلِهَا بِحَالَةٍ لَازِمَةٍ، فَلِذَلِكَ تَقْتَضِي فَاعِلًا مَرْفُوعًا يُدْعَى اسْمًا، وَحَالًا لَازِمًا لَهُ مَنْصُوبًا يُدْعَى خَبَرًا، لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِخَبَرِ الْمُبْتَدَأِ. وَقد سَمَّاهَا النُّحَاةُ لِذَلِكَ نَوَاسِخَ لِأَنَّهَا تَعْمَلُ فِيمَا لَوْلَاهَا لَكَانَ مُبْتَدَأً وَخَبَرًا فَلَمَّا تَغَيَّرَ مَعَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ سُمِّيَتْ نَاسِخَةً لِرَفْعِهِ، كَمَا سُمِّيَتْ "إِنَّ" وَأَخَوَاتُهَا وَ "ظَنَّ" وَأَخَوَاتُهَا كَذَلِكَ. وَيُسْتَعْمَلُ ظَلَّ بِمَعْنَى صَارَ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ عَلى بابِها مِنْ كَوْنِها تَدُلُّ عَلَى الإِقامَةِ نَهَارًا عَلى الصِّفَةِ المُسْنَدَةِ إِلَى اسْمِهَا. وَ "وَجْهُهُ" المَشْهُورُ المُتَبَادِرُ إِلى الذِّهْنِ أَنَّهُ اسْمُها اسْمُهُ مَرْفُوعٌ بِهِ. ويَجُوزُ: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الضَمِيرِ المُسْتَتِرِ فِي "ظَلَّ" بَدَلُ بَعْضٍ مِن ْكُلِّ، والتَقديرُ: ظَلَّ أَحَدُهُمْ وَجْهُهُ، أَيْ: ظَلَّ وَجْهُ أَحَدِهِم. وهُوَ مُضَافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "مُسْوَدًّا" خَبَرُهُ منصوبٌ. والجمْلةُ جَوابُ "إذا" الظَرْفِيَّةِ.
قولُهُ: {وَهُوَ كَظِيمٌ} الوَاوُ: حاليَّةٌ. و "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. وَ "كَظِيمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهذهِ الجملةُ الاسْميَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ هاءِ الضَميرِ في "وَجْهُهُ"، أَوْ في "ظَلَّ". قَالَ العُكْبُريُّ: فَلَوْ قُرِئِ "مُسْوَدٌّ" بِالرَّفْعِ لَكَانَ مُسْتَقِيمًا، عَلَى أَنْ تَجْعَلَ اسْمَ "ظَلَّ" مُضْمَرًا، والجُمْلَةُ خَبَرُهَا.