وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ
(16)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَعَلَامَاتٍ} الْعَلَامَاتُ: الْأَمَارَاتُ الَّتِي أَلْهَمَ اللهُ النَّاسَ أَنْ يَضَعُوهَا أَوْ يَتَعَارَفُوهَا لِتَكُونَ دَلَالَةً عَلَى الْمَسَافَاتِ وَالْمَسَالِكِ الْمَأْمُونَةِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَتَتْبَعُهَا السَّابِلَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: الْعَلَامَاتُ مَعَالِمُ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، أَيْ: جَعَلَ لِلطَّرِيقِ عَلَامَاتٍ يَقَعُ الِاهْتِدَاءُ بِهَا. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وعلاماتٍ"، أَنَّهُ قال: يَعْنِي مَعَالِمَ الطُّرُقِ بِالنَّهَارِ، "وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" يَعْنِي بِاللَّيْلِ. وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرظي، وَالْكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَرَادَ بِالْعَلَامَاتِ الْجِبَالَ، فَالْجِبَالُ تَكُونُ عَلَامَاتِ النَّهَارِ، وَالنُّجُومُ عَلَامَاتُ اللَّيْلِ. فقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وعَلاماتٍ" قَالَ: الْجِبَال. وأَخرْجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وعَلاماتٍ" قَالَ: أَنهَارُ الْجِبَالِ. هذا ومَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْقِ اللهِ هُوَ أَيْضًا عَلاماتٌ تَدَلُّ عَلَى ضَرورَةِ أَنْ تَرَوُا المَنَافِعَ التي أَوْدَعَها اللهُ فِيما خَلَقَ لَكُمْ؛ وَتَهْتَدوا إِلَى الإِيمانِ بِإِلَهٍ مُوجِدٍ لِهَذِهِ الأَشْيَاءِ لِصَالِحِكُمْ. ومَا سَبَقَ مِنْ عَلاماتٍ مَقَرُّهُ الأَرْضُ، سَوَاءٌ الجِبَالُ أَوِ الأَنْهَارُ أَوِ السُّبُلُ؛ وَمِنَ الْعَلَامَاتِ الرِّيَاحُ يُهْتَدَى بِهَا. وَفِي الْمُرَادِ بِالِاهْتِدَاءِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْأَسْفَارِ، وهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. والثَّانِي فِي تحديدِ الْقِبْلَةِ للصلاةِ. وَقدْ أَضَافَ لَهَا في هَذِهِ الآيَةِ الحَقُّ ـ سُبْحانَهُ، عَلامَةً تُوجَدُ في السَّمَاءِ، وَهِيَ النُّجومُ.
وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: "وَعَلاماتٍ" ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: "وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ". وَعَلَى الْأَوَّلِ: أَيْ وَجَعَلَ لَكمْ عَلاماتٍ ونُجومًا تَهْتَدُونَ بِهَا.
وَهَذَا أَيْضًا يُخَرَّجُ مَخْرَجَ ذِكْرِ المِنَنِ والنِّعَمِ عَلى العِبادِ؛ لأَنَّهم لَوْلَا مَا جَعَلَ اللهُ أَعْلامًا فِي البِحارِ والقِفَارِ، يَعْرِفُونَ بِهَا السُّلوكَ فِيها؛ وَإِلَّا لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مَعْرِفَةَ الطُرُقِ فِي البِحَارِ وَالبَرَارِي.
قولُهُ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} يَعْنِي بِاللَّيْلِ، وَالنَّجْمُ يُرَادُ بِهِ النُّجُومُ. وَجُمْلَةُ "وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَ {أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ} منَ الآيةِ التي قبلَها، لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى: وَهَدَاكُمْ بِالنَّجْمِ فَأَنْتُمْ تَهْتَدُونَ بِهِ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ بِالِاهْتِدَاءِ فِي اللَّيْلِ لِأَنَّ السَّبِيلَ وَالْعَلَامَاتِ إِنَّمَا تَهْدِي فِي النَّهَارِ، وَقَدْ يَضْطَرُّ السَّالِكُ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا، فَمَوَاقِعُ النُّجُومِ عَلَامَاتٌ لِاهْتِدَاءِ النَّاسِ السَّائِرِينَ لَيْلًا، تَعْرِفُ بِهَا السَّمَوَاتِ، وَأَخَصُّ مَنْ يَهْتَدِي بِهَا الْبَحَّارَةُ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْإِرْسَاءَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَهُمْ مُضْطَرُّونَ إِلَى السَّيْرِ لَيْلًا، وَهِيَ هِدَايَةٌ عَظِيمَةٌ، فِي وَقْتِ ارْتِبَاكِ الطَّرِيقِ عَلَى السَّائِرِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ الْمُتَعَلِّقُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَبِالنَّجْمِ" تَقْدِيمًا يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ، وَكَذَلِكَ بِالْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "هُمْ يَهْتَدُونَ". وَالتَّعْرِيفُ فِي "النَّجْمِ" تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ النُّجُومُ الَّتِي تَعَارَفَهَا النَّاسُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا مِثْلُ الْقُطْبِ، والثُريَّا وغيرِهما. وَقد تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها}، الآية: 97. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى "هُمْ يَهْتَدُونَ" لِمُجَرَّدِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، إِذْ لَا يَسْمَحُ الْمَقَامُ بِقَصْدِ الْقَصْرِ. كما أَنَّهُ يُفِيدُ الاخْتِصاصَ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: فإنْ قُلْتَ: قولُهُ: "وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" مُخْرَجٌ عَنْ سَنَنِ الخِطابِ، مُقَدَّمٌ فِيهِ النَّجْمُ، مُقْحَمٌ فيهِ "هم"، كأَنَّهُ قِيلَ: وبِالنَّجْمِ خُصوصًا هَؤُلاءِ خُصُوصًا يَهْتَدونَ، فَمَنِ المُرادُ بِهِمْ؟ قُلْتُ: كَأَنَّه أَرادَ قُرَيْشًا، كانَ لَهُمُ اهْتِداءٌ بِالنُّجومِ فِي مَسائرِهم، وَكانَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ، فَكانَ الشُّكْرُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ وأَلْزَمَ لَهُمْ.
وَعَدَلُهُ عَنِ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ الْتِفَاتًا، يُومِئُ إِلَى فَرِيقٍ خَاصٍّ، وَهُمُ السَّيَّارَةُ وَالْمَلَّاحُونَ، فَإِنَّ هِدَايَتَهُمْ بِهَذِهِ النُّجُومِ لَا غَيْرَ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْجَدْيُ وَالْفَرْقَدَانِ. وَقِيلَ: الثُّرَيَّا. وقَالَ الشَّاعِرُ ذُو الرُّمَّةِ:
حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ ..... وَغُودِرَ الْبَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ
أَيْ مِنْهُ مَلْوِيٌّ وَمِنْهُ مَحْصُودٌ، وَإنَّما يكونُ ذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا.
وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ شُبْرُمَةَ:
إِذَا طَلَبَ الْجَوْزَاءُ وَالنَّجْمُ طَالِعٌ .......... فَكُلُّ مَخَاضَاتِ الْفُرَاتِ مَعَابِر
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: الْعَلَامَاتُ الْجِبَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: هِيَ النُّجُومُ، لِأَنَّ مِنَ النُّجُومِ مَا يُهْتَدَى بِهَا، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَةً لَا يُهْتَدَى بِهَا، وَقَالَهُ أيضًا قَتَادَةُ، وَإبراهيمُ النَّخَعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قولِهِ تَعَالَى: "وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" قَالَ: ((هُوَ الْجَدْيُ يَا بْنَ عَبَّاسٍ، عَلَيْهِ قِبْلَتُكُمْ وَبِهِ تَهْتَدُونَ فِي بَرِّكُمْ وَبَحْرِكُمْ)). وذَلكَ أَنَّ آخِرَ الجَدْيِ بَنَاتُ نَعْشٍ الصُغْرَى، والقُطْبُ الذي تَسْتَوي عَليْهِ القِبْلَةُ بَيْنَهُمَا. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلُهُ: "وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" مُخْتَصٌّ بِالْبَحْرِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْبَحْرِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ يَسِيرُونَ فِيهِ يَهْتَدُونَ بِالنَّجْمِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَرَادَ بِالْكُلِّ النُّجُومَ، مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَرَادَ بِالنَّجْمِ، الثُّرَيَّا، وَبَنَاتِ نَعْشٍ، وَالْفَرْقَدَيْنِ، وَالْجَدْيَ، يُهْتَدَى بِهَا إِلَى الطُّرُقِ وَالْقِبْلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِنَّمَا خَلْقَ اللهُ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: لِتَكُونَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَمَعَالِمَ لِلطُّرُقِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وَأخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ) عَن إِبْرَاهِيم النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وعلاماتٍ" قَالَ: هِيَ الأَعْلامُ الَّتِي فِي السَّمَاء، "وبالنَّجْم ِهُمْ يَهْتَدُونَ" قَالَ: يَهْتَدُونَ بِهِ فِي الْبَحْر فِي أَسْفَارِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ" قَالَ: مِنْهَا مَا يَكونُ عَلامَةً، وَمِنْهَا مَا يُهْتَدَى بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ مَنَازِل الْقَمَرِ. وقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا جَمِيعُ النُّجُومِ فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا الْعَارِفُ بِمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْجَنُوبِيِّ وَالشَّمَالِيِّ مِنْهَا، وَذَلِكَ قَلِيلٌ فِي الْآخَرِينَ. وَأَمَّا الثُّرَيَّا فَلَا يَهْتَدِي بِهَا إِلَّا مَنْ يَهْتَدِي بِجَمِيعِ النُّجُومِ. وَإِنَّمَا الْهُدَى لِكُلِ أَحَدٍ بِالْجَدْيِ وَالْفَرْقَدَيْنِ، لِأَنَّهَا مِنَ النُّجُومِ الْمُنْحَصِرَةِ الْمَطَالِعِ الظَّاهِرَةِ السَّمْتِ الثَّابِتَةِ فِي الْمَكَانِ، فَإِنَّهَا تَدُورُ عَلَى الْقُطْبِ الثَّابِتِ دَوَرَانًا مُحَصَّلًا، فَهِيَ أَبَدًا هُدَى الْخَلْقِ فِي الْبَرِّ إِذَا عَمِيَتِ الطُّرُقُ، وَفِي الْبَحْرِ عِنْدَ مَجْرَى السُّفُنِ، وَفِي الْقِبْلَةِ إِذَا جُهِلَ السَّمْتُ، وَذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِأَنْ تَجْعَلَ الْقُطْبَ عَلَى ظَهْرِ مَنْكِبِكَ الْأَيْسَرِ فَمَا اسْتَقْبَلْتَ فَهُوَ سَمْتُ الْجِهَةِ.
وَحُكْمُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَرَاهَا وَيُعَايِنَهَا، فَيَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُهَا وَإِصَابَتُهَا، وَقَصْدُ جِهَتِهَا بِجَمِيعِ بَدَنِهِ. الْثاني: أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا، فَيَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ نَحْوَهَا وَتِلْقَاءَهَا بِالدَّلَائِلِ، وَهِيَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالرِّيَاحُ وَكُلُّ مَا يُمْكِنُ بِهِ مَعْرِفَةُ جِهَتِهَا، وَمَنْ غَابَتْ عَنْهُ وَصَلَّى مُجْتَهِدًا إِلَى غَيْرِ نَاحِيَتِهَا وَهُوَ مِمَّنْ يُمْكِنُهُ الِاجْتِهَادُ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَإِذَا صَلَّى مُجْتَهِدًا مُسْتَدِلًّا، ثُمَّ انْكَشَفَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاتِهِ، أَنَّهُ صَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ، أَعَادَ إِنْ كَانَ فِي وَقْتِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى فَرْضَهُ عَلَى مَا أُمِرَ به.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ هُوَ مُطْلَقٌ يَدْخُلُ فِيهِ السَّيْرُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْلَى، لِأَنَّهُ أَعَمُّ فِي كَوْنِهِ نِعْمَةً وَلِأَنَّ الِاهْتِدَاءَ بِالنَّجْمِ قَدْ يَحْصُلُ فِي الْوَقْتَيْنِ مَعًا، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَجْعَلُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا عَمِيَتْ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِالنُّجُومِ وَبِالْعَلَامَاتِ الَّتِي فِي الْأَرْضِ، وَهِيَ الْجِبَالُ وَالرِّيَاحُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، لِأَنَّهُ كَمَا يُمْكِنُ الِاهْتِدَاءُ بِهَذِهِ الْعَلَامَاتِ فِي مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ، فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي مَعْرِفَةِ طَلَبِ الْقِبْلَةِ للصَّلاةِ.
وَقَدْ ذُكِرَ الِامْتِنَانُ بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ فِي قَوْلِهِ مِنْ سورةِ الأنعامِ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ الْآيَةَ: 97.
قولُهُ تَعَالَى: {وَعَلاماتٍ} الواوُ: حرفُ عطْفٍ، و "عَلاماتٍ" مَعْطُوفٌ عَلَى "سُبُلًا" مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها مَنْصُوبٌ مِثْلهُ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ تَنْوينُ الكَسْرِ نِيَابَةً عَنِ الفَتْحِ لأَنَّهُ جَمْعُ المُؤَنَّثِ السَّالِمُ.
قوْلُهُ: {وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} الواوُ: استئنافيَّةٌ، وَ "بالنَّجْمِ" الباءُ: جرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ "يَهْتَدونَ" الآتي بَعْدَهُ. وَ "النَّجْمِ" اسمٌ مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ، مبْنِيٌّ عَلَى السُكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ "يَهْتَدونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وجُمْلَةُ "يَهْتَدُونَ" في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ "هُمْ"، وُالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {وبِالنَّجْمِ} بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكونِ الجِيمِ بالتَوْحيدِ فَقِيلَ: المُرادُ بِهِ كَوْكَبٌ بِعَيْنِهِ كالجَدْيِ أَوِ الثُّرَيَّا. وَقِيلَ: بَلْ هوَ اسْمُ جِنْسٍ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ "وَبِالنُّجْمِ". وقرَأَ الْحَسَنُ: "وبالنُجُمَ" بِضَمِّ النُّونِ وَالْجِيمِ جَمِيعًا وَمُرَادُهُ النُّجُومُ، فَقَصَرَهُ، وهذا كَمَا قَالَ الأَخْطلُ:
إِنَّ الْفَقِيرَ بَيْنَنَا قَاضٍ حَكَمْ .............. أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ
يُريدُ النُّجومَ، كَقَوْلِ الراجِزِ:
حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ............. أَهْوَى لأَدْنَى فقْرَةٍ عَلى شَفَقْ
يُريدُ الحُلُوقَ. كَذَلِكَ الْقَوْلُ لِمَنْ قَرَأَ" النُّجْمُ" إِلَّا أَنَّهُ سَكَّنَ اسْتِخْفَافًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النُّجُمُ جَمْعُ نَجْمٍ كَسُقُفٍ وَسَقْفٍ.
فأَمَّا قِراءَةُ الضَمَّتَيْنِ فَفِيها تَخْريجانِ، أَظْهَرُهُما: أَنَّها جَمْعٌ صَريحٌ، لأنَّ "فَعْلًا" يُجْمع على "فُعُل" نَحْوَ: "سَقْفٍ" و "سُقُف"، و "رَهْن" و "رُهُن". والثاني: أَنَّ أَصْلَهُ النُّجومُ، وَ "فَعْل" يُجْمَعُ عَلَى "فُعُول" نحوَ: "فَلْس" و "فُلُوس"، ثُمَّ خُفِّفَ بِحَذْفِ الواوِ ،كَمَا قالوا: "أَسَد" و "أُسُود" و "أُسُد". قالَ أَبو البَقاءِ العُكْبُريُّ: وقالوا في "خِيام" "خِيَم"، يَعْنِي أَنَّهُ نَظِيرُهُ، مِنْ حَيْثُ حَذَفوا حرْفَ المَدِّ مِنهُ. وَقالَ ابْنُ عُصْفورٍ: إِنَّ قولَهم "النُّجُم" مِنْ ضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَأَنْشَدَ بيتَ الأخطلِ المتقدِّمَ:
إِنَّ الْفَقِيرَ بَيْنَنَا قَاضٍ حَكَمْ .............. أَنْ تَرِدَ الْمَاءَ إِذَا غَابَ النُّجُمْ
وأَمَّا قِراءَةُ الضَمِّ والسُّكونِ، فَفِيها وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أَنَّهَا تَخْفيفٌ مِنَ الضَمِّ. والثاني: أَنَّها لُغَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ.