تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(63)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِ أُمَّةِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مُقْسِمًا عَلَى ذَلِكَ وَمُؤَكِّدًا بِالْقَسَمِ وَبِـ "قَدِ" الَّتِي تَقْتَضِي تَحْقِيقَ الْأَمْرِ، وذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّا كَانَ يَنَالُهُ مِنْ جَهَالَاتِ قَوْمِهِ بما يَنسِبونَهُ إِلَى اللهِ تَعَالى مِنَ المُسْتَحيلاتِ التي زَيَّنَها لَهُمُ الشَّيْطَانُ، كما زَيَّنَ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وتَمَادِيَهُمْ عَلَى كُفْرِهِم. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُعَزِّي اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَذَا، يَقُولُ: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ" يَعْني رُسُلًا وَأَنْبِياءَ مِنْ قَبْلِكَ. وَوَجْهُ الْخِطَابِ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَصْدِ وُصُولِهِ إِلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ الكريمَ مُنَزَّلٌ لِهِدايَتِهِمْ. وإِذا وَرَدَتِ التَّاءُ الْمُثَنَّاةُ في القسَمِ فإِنَّما شَأْنُها أَنْ تَقَعَ فِي قَسَمٍ عَلَى مُسْتَغْرَبٍ، وَمَصَبُّ الْقَسَمِ هُنَا هُوَ الْمُفْرَدُ بِقَوْلِهِ: "فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ" لِأَنَّ تَأْثِيرَ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ لَهُم أَعْمَالَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ مِنْ إِرْشَادِ رُسُلِهِمْ لَهُمْ أَمْرٌ عَجِيبٌ.
قولُهُ: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} أيْ: حَسَّنَهَا لَهُمْ، وشَجَّعَهُمْ عَلَيْها، وَحَثَّهُمْ، حَتَّى عَصَوْا ربَّهم، وَكذَّبوا أَنْبِيَاءَهُ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ جَوَابِ الْقَسَمِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَرْسَلْنَا فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ. وَتَزْيِينُ الشَّيْطَانِ أَعْمَالَهُمْ لهم كِنَايَةٌ عَنِ الْمَعَاصِي. فَمِنْ ذَلِكَ عَدَمُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ وَهُوَ كَمَالُ التَّنْظِيرِ. وَمِنْهَا الِابْتِدَاعَاتُ الْمُنَافِيَةُ لِمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ـ عَلَيْهِمُ الصلاةُ والسَّلَامُ، مِثْلُ ابْتِدَاعِ الْمُشْرِكِينَ الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَلَكُوا مَسْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي زَيَّنَّ لَها الشَّيْطَانُ أَعْمَالَها.
قولُهُ: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} أَيْ: هوَ مُتَوَلِّي أُمُورهِمُ الْيَوْمَ في الدُنْيا، أَيْ: نَاصِرُهُم فيها بحَسَبِ زَعْمِهِمْ. فهِيَ حِكَايَةُ حَالٍ مَاضِيَةٍ، أَيْ: لَا نَاصِرَ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ إِلَّا هُوَ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ "يَوْم" مُعَرَّفًا بِالأَلِفِ واللَّامِ للإِشَارَةِ للمَاضِي إِلَّا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، نَحْوَ: ذَلِكَ الْيَوْم. ويجوزُ أَنْ يكونَ عَبَّرَ بِـ "الْيَوْمِ" عَنْ وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَمُحَاوَرَةِ الرُّسُلِ لَهُمْ، أَوْ حِكَايَةُ حَالٍ آتِيَةٍ وَهِيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ نَصْرِ نَفْسِهِ، فَكَيْفَ يَنْصُرُ غَيْرَهُ؟. وقدْ أُطْلِقَ اسْمُ "اليَوْمَ" عَلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ اليَوْمِ. وَ "الْ" فِيهِ لِلْعَهْدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الْمَشْهُودُ، فَهُوَ وَلِيُّهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، أَيْ: قَرِينُهُمْ، وَبِئْسَ الْقَرِينُ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي "وَلِيُّهُمْ" إِلَى أُمَمٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ الضَّمِيرُ إِلَى مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَأَنَّهُ زَيَّنَ لِلْكُفَّارِ قَبْلَهُمْ أَعْمَالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّ هَؤُلَاءِ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ: فَهُوَ وَلِيُّ أَمْثَالِهِمُ الْيَوْمَ). وَفِيهِ بُعْدٌ، لِاخْتِلَافِ الضَّمَائِرِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ هُنَا تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وَلَا إِلَى حَذْفِ الْمُضَافِ.
قولُهُ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الآخرةِ، وهو عذابُ نارِ جَهَنَّمَ. والآيَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ دَاخِلٌ فِي الْكَلَامِ الاعْتِرَاضِيِّ، قُصِدَ مِنْها تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ، وَكُفْرَهُمْ، وسُوءَ أَعْمَالِهِمْ، وَأَحْكَامِهِمْ، بِحَالِ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ مِنْ قَبْلِهِمُ، مِنَ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ، الَّذِينَ اسْتَزلَّهُمُ الشَّيْطَانُ، كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَمِنَ الأُمَمِ الْحَاضِرَةِ، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
قولُهُ تَعَالى: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} تَاللهِ: التاءُ: حرفُ جَرٍّ للقَسَم مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والتقديرُ: أُقْسِمُ، وَلَفْظُ الجلالةِ مُقْسَمٌ بِهِ مجرورٌ بالتَّاءِ. و "لَقَدْ" اللامُ: هي المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "قَدْ" حَرْفٌ للتَحْقِيقِ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، و "أُمَمٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "أُمَمٍ"، و "قَبْلِكَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والكافُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ.
قولُهُ: {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} الفاءُ: للعَطفِ، وَ "زَيَّنَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ. و "لَهُمُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "زَيَّنَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ: للجمعِ المُذكَّرِ. و "الشَّيْطَانُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "أَعْمَالَهُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ بِهِ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ: لتذكيرِ الجمعِ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَرْسَلْنَا"، على كونِها جَوابَ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} فَهُوَ: الفاءُ: حرفُ عطْفٍ وتفريعٌ، و "هو" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "وَلِيُّهُمُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والمِيمُ للجمعِ المُذكَّرِ. وَ "الْيَوْمَ" مَنْصوبٌ عَلى الظَرْفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِالخبَرِ "وَليُّهُم". وَ "الْ" هُنَا لِلْعَهْدِ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "زَيَّنَ" مُفَرَّعَةٌ عَلَيْهَا فهيَ مثلُها لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ حكايةَ حَالٍ مَاضِيَةٍ، أَيْ: فَهُوَ نَاصِرُهُم، أَوْ حكايةَ حَالٍ آتِيَةٍ، ويُرادُ بِـ "اليَوْمَ" يَوْمُ القِيَامَةِ، هَذَا إِذا أَعَدْنا الضَمِيرَ عَلَى "أُمَم"، وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَجَوَّزَ أبو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَعُودَ الضميرُ عَلَى قُرَيْشٍ، فَيَكونَ حَكايَةَ حالٍ حاضِرةٍ لا مَاضِيَةٍ، ولا آتِيَةٍ، وَجَوَّزَ أَيْضًا أَنْ يَعودَ الضميرُ عَلَى "أُمم" ولكنْ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، والتقديرُ: فَهُوَ وَلِيٌّ أَمْثالِهِمُ اليَوْمَ. وَاسْتَبْعَدَ الشيْخُ أبو حيَّانٍ الأندلُسِيُّ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الذي حَمَلَهُ عَلى ذَلِكَ هو قَوْلُهُ "اليومَ" فَإِنَّهُ ظَرْفٌ حَالِيٌّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ عَلَى حِكَايَةِ الحَالِ المَاضِيَةِ أَوِ الحالِ الآتِيَةِ.
قولُهُ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الواوُ: للعطْفِ، و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ عطفٍ متعلِّقٌ بخبرٍ مقدَّمٍ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجَرِّ، والميمُ لتذْكيرِ الجمعِ. و "عَذَابٌ" مرفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤخَّرٌ. و "أَلِيمٌ" صِفَةٌ لـ "عَذَابٌ" مرفوعةٌ مثلهُ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا.