وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ
(57)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَناتِ} الجَعلُ: هُنَا النِسْبةُ بالقولِ، فقد كانَ الكفَّارُ ـ أَوْ فَريقٌ مِنْهُم ـ وَهُمْ قبائلُ كِنَانَةَ وخُزَاعَةَ، يَعْتَقِدُونَ أَنَّ للهِ بَنَاتٍ إِنَاثًا هُنَّ المَلائِكَةُ، مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} الآيةَ: 158. وكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى في سُورَةِ الزُّخرُفِ بِقَوْلِهِ: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} الْآيَةَ: 19، فَزَعَمُوا الْأَوْلَادَ للهِ تعالى، فَنَسَبُوا لَهُ أَضْعَفَ الْوَلَدَيْنِ وَهُوَ الْأُنْثَى الَّتِي كانوا يَأْنَفُونَ مِنْهَا ويَحْتَقِرُونَها ويَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ كما قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ في الآيةِ التي تَلِيهَا: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}، ذَلِكَ لِأَنَّ الْكَآبَةَ وَشِدَّةَ الْحُزْنِ تَجْعَلُ لَوْنَ الْوَجْهِ أقرابَ للسَّوادِ، وَكَظِيمٌ: سَاكِتٌ مُمْتَلِئٌ حُزْنًا لا يبوحُ بِمُصِيبَتِهِ، ولا يشرحُ حالَهُ. أَوْ مُمْتَلِئٌ غَيْظًا عَلَى امْرَأَتِهِ الَّتِي وَلَدَتْ لَهُ الْأُنْثَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "ويَجْعَلُونَ للهِ الْبَنَاتِ" يَقُول: يَجْعَلُونَ لَهُ الْبَنَاتِ يَرْضَوْنَهُنَّ لَهُ وَلَا يَرْضَوْنَهُنَّ لأَنْفُسِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ للرَّجُلِ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ أَمْسَكَهَا عَلَى هُونٍ، أَوْ دَسَّها فِي التُّرَابِ وَهِيَ حَيَّةٌ.
قولُهُ: {سُبْحانَهُ} تَنْزيهٌ مِنْهُ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، لذاتِهِ العليَّةِ عنْ كلِّ مَّا زَعَمَهُ المُشْرِكُونَ، وما يَزْعُمُونَ، ومَا نَسَبُوهُ لِذاتِهُ المُقدَّسَةِ العَظيمَةِ مِنَ الولَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لا يَلِيقُ بِقُدْسِيَّةِ ذَاتِهِ وعَظَمَتِها مِنَ صفاتِ الحوادِثِ وغيرِها مِنَ المُسْتَحِيلاتِ.
قولُهُ: {وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} أَيْ: يَشْتَهُونَ لأَنْفُسِهِمُ الْأَبْنَاءَ الذُّكُورَ، وذَلِكَ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِالْبَنَاتِ. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلَهُم مَا يَشْتَهُونَ" قَالَ: يَعْنِي بِهِ الْبَنِينَ. وَهَذَا مِنْهُمْ إِمْعَانٌ فِي التَمَادِي بإِفْسَادِ مُعْتَقَدِهِمْ بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ. وَإِلَّا فَإِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سَوَاءٌ، وذَلِكَ لِلِاسْتِوَاءِ فِي التَّوَلُّدِ الَّذِي هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْحُدُوثِ وصفاتِ الحَوادِثِ، أَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ فَمُنَزَّهٌ عَنْهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَناتِ} الواوُ: للعَطْفِ، و "يَجْعَلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "يَجْعَلُونَ" مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "للهِ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "الْبَنَاتِ" منصوبٌ بالمَفْعولِيَّةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرةُ نيابةً عنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّثِ السَّالمُ.
قولُهُ: {سُبْحانَهُ} مَصْدَرٌ نَائِبٌ عَنِ الْفِعْلِ مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا والتقديرُ: أُسَبِّحُ اللهَ سُبْحَانًا، وُجُمْلَةُ التَسْبيحِ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ وَقَعَتْ جَوَابًا عَنْ مَقَالَتِهِمُ السَّيِّئَةِ، فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} الوَاوُ: حليَّةٌ، و "لَهُم" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مَّا" مَوصُولَةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، أو نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. وجَوَّزَ الفَرَّاءُ، والحَوْفيُّ، والزَمَخْشَرِيُّ، والعُكْبُريُّ أَنْ تَكونَ "ما" مَنْصُوبَةَ المَحَلِّ عَطْفًا عَلَى "البَنَاتِ"، وَ "لهم" عَطْفٌ عَلَى "اللهِ"، أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ.
قالَ الشَّيْخُ أبو حيّان الأندلُسيُّ في تفسيرِهِ (البحرُ المُحيطُ): وَقَدْ ذَهَلُوا عَنْ قاعِدَةٍ نَحْوِيَّةٍ: وَهُوَ أَنَّهُ لا يَتَعَدَّى فِعْلُ المُضْمَرِ المُتَصِّلِ إِلَى ضَميرِهِ المُتَصِلِ إِلَّا في بابِ "ظَنَّ" وَفِي "عَدَمِ" و "فَقَدَ"، وَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَدَّى الفِعْلُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِحَرْفِ الجَرِّ، فَلَا يَجُوزُ: زَيْدٌ ضَرَبَهُ، أَيْ: ضَرَبَ نَفْسَهُ، وَلا: زَيْدٌ مَرَّ بِهِ، أَيْ: مَرَّ بِنَفْسِهِ، وَيَجُوزُ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قائِمًا، و زَيْدٌ فَقَدَهُ، و عَدِمَهُ، أَيْ: ظَنَّ نَفْسَهُ قائمًا، وَفَقَدَ نَفْسَهُ، وَعَدِمَهَا. وإِذا تَقَرَّرَ هَذَا فَجَعْلُ "ما" مَنْصُوبَةً عَطْفًا عَلَى "البَنَاتِ" يُؤَدِّي إِلَى تَعَدَّي فِعْلِ المُضْمَرِ المُتَّصِلِ، وَهُوَ وَاوُ "يَجْعَلونَ" إِلَى ضَميرِهِ المُتَّصِلِ، وَهُوَ "هم" في "لهم". ومَا ذَكَرَهُ الشيْخُ ـ رَحِمَهُ اللهُ، يَحْتَاجُ إِلَى شيءٍ مِنَ التَوْضِيحٍ، فإنَّهُ لا يَجُوزُ تَعَدَّي فِعْلِ المُضْمَرِ المُتَّصِلِ، ولا فِعْلِ الظاهِرِ إِلى ضَميرِهِما المُتَّصِلِ، إِلَّا في بابِ "ظَنَّ" وأَخَواتِها مِنْ أَفْعَالِ القُلوبِ، وَفِي "فَقَدَ" و "عَدِمَ"، فَلا يَجُوزُ أنْ تقولَ: زَيْدٌ ضَرَبَهُ، وَلا "ضَرَبَهُ زَيْدٌ، أَيْ: ضَرَبَ نَفْسَهُ. ويَجُوزُ قولُكَ: زَيْدٌ ظَنَّهُ قَائمًا، وظَنَّهُ زَيْدٌ قائمًا، وَزَيْدٌ فَقَدَهُ وعَدِمَهُ، وفَقَدَهُ وعَدِمَهُ زَيْدٌ، ولا يَجُوزُ تَعَدَّي فِعْلِ المُضْمَرِ المُتَّصِلِ إِلى ظاهِرِهِ فِي بابٍ مِنَ الأَبْوابِ، ولا يَجوزُ: زَيْدًا ضَرَبَ، أَيْ: ضَرَبَ نَفْسَهُ.
وفي قولنا: (إِلَى ضَمِيرِهِمَا المُتَّصِلِ) قَيْدَانِ أَوَّلُهُمَا: كَوْنُهُ ضَمَيرًا، فَلو كَانَ ظَاهِرًا كالنَّفسِ لَمْ يَمْتَنِعْ نَحْوَ قولِكَ: (زَيْدٌ ضَرَبَ نَفْسَهُ)، وَ (ضَرَبَ نَفْسَهُ زَيْدٌ). وثانيهُما: كَوْنُهُ مُتَّصِلًا، فَلو كانَ مُنْفَصِلًا جازَ نَحْوَ: (زيدٌ مَا ضَرَبَ إِلَّا إِيَّاهُ)، و (ما ضَرَبَ زَيْدٌ إِلَّا إِيَّاهُ)، وعِلَلُ هَذِهِ المَسْأَلَةِ وأَدِلَّتُها مَوْضُوعُها غَيْرُ هَذَا المَوْضُوعِ.
وقالَ مَكِيّ: وهَذَا لا يَجُوزُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، كَمَا لا يَجوزُ: (جَعَلْتُ لِي طَعَامًا)، إِنَّما يَجوزُ: (جَعَلْتُ لِنَفْسي طَعَامًا)، فَلَوْ كانَ لَفْظُ القُرْآنِ "ولأَنْفُسِهم مَا يَشْتَهُونَ" جَازَ مَا قالَهُ الفَرَّاءُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ. وَهَذَا أَصْلٌ يَحْتاجُ إِلَى تَعْليلٍ وَبَسْطٍ كَثيرٍ. ومَا أَشَارَ إِلَيْهِ مكيّ مِنَ المَنْعِ فقدْ عَرَفْتَهُ. وقالَ الشَّيْخُ أبو حيَّانٍ ـ بَعْدَ مَا حَكَى عَنِ الفَرَّاءِ وَمَنْ تَبِعَهُ أَنَّ "ما" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: وَقالَ العُكْبُريُّ ـ بعدَ أَنْ حَكاهُ: وَفيه نَظَرٌ. ولم يَجْعَلِ العُكْبُريُّ النَّظَرَ في هَذا الوَجْهِ، إِنَّما جَعَلَهُ في تَضْعيفِهِ بِكونِهِ يُؤدِّي إِلَى تَعَدِّي فِعْلِ المُضْمَرِ المُتَّصِلِ إِلَى ضَميرِهِ المُتَّصِلِ في غَيْرِ مَا اسْتُثْنِيَ فإِنَّهُ قالَ: وَضَعَّفَ قوْمٌ هَذا الوَجْهَ وَقالُوا: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَقَالَ: "وَلأَنْفُسِهم"، وفيهِ نَظَرٌ. فَجَعَلَ النَّظَرَ فِي تَضْعِيفِهِ وليسَ فِيهِ.
ورُبَّما يُقالُ: وَجْهُ النَّظَرِ المُمْتَنِعُ هو تَعَدَّي ذَلِكَ الفِعْلِ، أَيْ: وُقُوعُهُ عَلَى مَا جُرَّ بِالحَرْفِ نَحْوَ: (زَيْدٌ مَرَّ بِهِ) فإنَّ المُرورَ واقِعٌ بِزَيْدٍ، وَأَمَّا مَا نَحْنُ فِيهِ فَلَيْسَ الجَعْلُ واقِعًا بالجاعِلِينَ، بَلْ بِمَا يَشْتَهُونَ، وكانَ الشَّيْخُ أبو حيَّان يَعْتَرَضُ دائمًا عَلَى القاعِدَةِ المُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى منْ سورةِ مريم: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآية: 25، وبقولِهِ مِنْ سورةِ القصص: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} الآية: 32، والجَوَابُ عَنْهُمَا مَا تَقَدَّمَ: وَهُوَ أَنَّ الهَزَّ والضَّمَّ لَيْسَا وَاقِعَينِ بالكافِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا هَذا فِي مَكانٍ آخَرَ، وإِنَّما أَعَدْتُهُ لِصُعُوبَتِهِ وَخُصُوصِيَّةِ هَذا بِزِيَادَةِ فائدةٍ. وَ "يَشْتَهُونَ" مِثْلُ "يَجْعَلُونَ" والجُمْلةُ صِلَةُ "مَّا" فَلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ أَوِ الرّابِطُ مَحْذوفٌ والتَقديرُ: مَا يَشْتَهٌونَهٌ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ الرَّفْعِ، إنْ أُعْربتْ نَكِرَةً موصوفةً. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ الواوِ في "يَجْعَلونَ". وَتَقْدِيمُ الْخَبَرِ فِي هذهِ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التهكُّمِ بِهِم.