الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 75
ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} بَعْدَ أَنْ زَجَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ في الآياتِ السَّابِقَةِ عَنْ أَنْ يُشَبِّهُوا اللهَ بِخَلْقِهِ أَوْ أَنْ يُشَبِّهُوا بِهِ خَلْقَهُ، نَبَّهَهُمْ هنا، وَبَيَّنَّ لَهُمْ شُبَهًا، فَمَثَّلَ حَالَهُمْ فِي ذَلِكَ بِحَالِ مَنْ مَثَّلَ عَبْدًا بِسَيِّدِهِ فِي الْإِنْفَاقِ، فَقَالَ: مَثَلُكُمْ فِي إِشْرَاكِكِمْ بِاللهِ الأَوْثَانَ وَالأَصْنَامَ، مَثَلُ مَنْ سَوَّى بَيْنَ عَبْدٍ مَمْلُوكٍ عَاجِزٍ عَنِ التَّصَرُّفِ، وَبَيْنَ رَجُلٍ حُرٍّ يَمْلِكُ مَالًا يُنْفِقُ مِنْهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يُرِيدُ، فَكَمَا أَنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ هَذِينِ الرَّجُلَيْنِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ تَفَاوُتٍ فِي القُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، كَذَلِكَ لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الإِلَهِ القَادِرِ عَلَى الرِّزْقِ وَالإِفْضَالِ، وَبَيْنَ الأَصْنَامِ التِي لَا تَمْلِكُ شَيْئًا، وَلاَ تَقْدِرُ عَلَى شَيءٍ البتَّة.
قولُهُ: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} أَيْ كَمَا لَا يَسْتَوِي عِنْدَكُمْ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى شَيْءٍ، وَرَجُلٌ حُرٌّ قَدْ رُزِقَ رِزْقًا حَسَنًا، فَكَذَلِكَ أَنَا وَهَذِهِ الْأَصْنَامُ. فَالَّذِي هُوَ مِثَالٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ عَبْدٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَمْلُوكٌ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَالِ، وَلَا مِنْ أَمْرِ نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسَخَّرٌ بِإِرَادَةِ سَيِّدِهِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْعَبِيدَ كُلَّهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي الْإِثْبَاتِ لَا تَقْتَضِي الشُّمُولَ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا تُفِيدُ وَاحِدًا، فَإِذَا كَانَتْ بَعْدَ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ مُضَافَةً إِلَى مَصْدَرٍ كَانَتْ لِلْعُمُومِ الشُّيُوعِيِّ، كَما تقَولُ: أَعْتِقْ رَجُلًا، وَلَا تُهِن رَجُلًا. وَالْمَصْدَرُ كَإِعْتَاقِ رَقَبَةٍ، فَأَيُّ رَجُلٍ أَعْتَقَ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْخِطَابِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا الْمَثَلُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، فَذَهَبَ قَتَادَةُ إِلَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَمْلُوكَ هُوَ الْكَافِرُ، لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ فِي الْآخِرَةِ بِشَيْءٍ مِنْ عِبَادَتِهِ، وَإِلَى أَنَّ مَعْنَى "وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا" الْمُؤْمِنُ. وَالْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ والتَأْويلِ. قَالَ حاتمٌ الْأَصَمُّ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ: الْمُرَادُ بِالْعَبْدِ الْمَمْلُوكِ الَّذِي رُبَّمَا يَكُونُ أَشَدَّ مِنْ مَوْلَاهُ أَسْرًا وَأَنْضَرَ وَجْهًا، وَهُوَ لِسَيِّدِهِ ذَلِيلٌ لَا يَقْدِرُ إِلَّا عَلَى مَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى ضَرْبًا لِلْمِثَالِ. أَيْ فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ وَشَأْنُ عَبِيدِكُمْ فَكَيْفَ جَعَلْتُمْ أَحْجَارًا شُرَكَاءَ للهِ تَعَالى فِي خَلْقِهِ وَعِبَادَتِهِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ وَلَا تَسْمَعُ. فَقَدْ شَبَّهَ حَالَ أَصْنَامِهِمْ فِي الْعَجْزِ عَنْ رِزْقِهِمْ بِحَالِ مَمْلُوكٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُ مَالًا، وَشَبَّهَ شَأْنَ اللهِ تَعَالَى فِي رِزْقِهِ إِيَّاهُمْ بِحَالِ الْغَنِيِّ الْمَالِكِ أَمْرَ نَفْسِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ إِنْفَاقٍ وَغَيْرِهِ، وَمَعْرِفَةُ الْحَالَيْنِ الْمُشَبَّهَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ، وَالْمَقْصُودُ نَفْيُ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ، فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ مُمَاثَلَةَ أَصْنَامِهِمْ للهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلِذَلِكَ أُعْقِبَ بِجُمْلَةِ هَلْ يَسْتَوُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" يَعْنِي الْكَافِرَ إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللهِ "وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا" يَعْنِي الْمُؤمن وَهُوَ الْمَثَلُ فِي النَّفَقَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا" قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ للْكَافِرِ، رَزَقَهُ اللهُ مَالًا، فَلَمْ يُقَدِّمْ فِيهِ خَيْرًا، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِطَاعَةِ اللهِ. "وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا" قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ أَعْطَاهُ اللهُ مَالًا رِزْقًا حَلَالًا، فَعَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللهِ، وَأَخَذَهُ بِشُكْرِ وَمَعْرِفَةِ حَقِّ اللهِ، فَأَثابَهُ اللهُ عَلَى مَا رِزْقِهِ الرِّزْقَ الْمُقِيمَ الدَّائِمَ لأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: "هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا"، قَالَ: لَا وَاللهِ لَا يَسْتَوِيَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا"، وَ {رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} و {مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قَالَ: كُلُّ هَذَا مَثَلُ الإِلَهِ الْحَقِّ، وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُونَهُ الْبَاطِلُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" قَالَ: يَعْنِي بِذَلِكَ الْآلِهَةَ الَّتِي لَا تَمْلُكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَنْفَعُها، "وَمَنْ رَزَقْنَا مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا"، قَالَ: عَلَانيَةً، الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُنْفِقُ سِرًّا وَجَهْرًا للهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" قَالَ الصَّنَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ ضَرَبَ الْأَمْثَالَ عَلَى حَسَبِ الْأَعْمَالِ، فَلَيْسَ عَمَلٌ صَالِحٌ إِلَّا لَهُ الْمَثَلُ الصَّالِحُ، وَلَيْسَ عَمَلُ سُوءٍ إِلَّا لَهُ مَثَلُ سُوءٍ. وَقَالَ: إِنَّ مَثَلَ الْعَالِمِ المُتَفَهِّمِ كَطَريقٍ بَيْنَ شَجَرٍ وَجَبَلٍ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ لَا يُعَوِّجُهُ شَيْءٌ، فَذَلِكَ مَثَلُ العَبْدِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي قَرَأَ الْقُرْآن وَعَمِلَ بِهِ. وَأخرج الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَمْلُوكِ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ؟. قَالَ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" لَا يتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ. وقد فَهِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَمِمَّا قَبْلَهَا نُقْصَانَ رُتْبَةِ الْعَبْدِ عَنِ الْحُرِّ فِي الْمِلْكِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَإِنْ مَلَكَ. قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ وعلى رأْسِهم الإمامُ الأعظمُ أَبو حنيفةَ النُعمانُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الرِّقُّ يُنَافِي الْمِلْكَ، فَلَا يَمْلِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا فِي الْجَدِيدِ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ البَصْريُّ وَابْنُ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم جميعًا. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَمْلِكُ إِلَّا أَنَّهُ نَاقِصُ الْمِلْكِ، لِأَنَّ لِسَيِّدِهِ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْهُ أَيَّ وَقْتٍ شَاءَ، وَهُوَ قَوْلُ الإمامِ مَالِكٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، وَمَنِ اتَّبَعَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ مِنْ رأْيِهِ. وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ ـ أَيْضًا، وَلِهَذَا قَالَوا: لَا تَجِبُ عَلَيْهِ العِبَادَاتُ في الْأَمْوَالِ مِنْ زَكَاةٍ وَكَفَّارَاتٍ، وَلَا مِنْ عِبَادَاتِ الْأَبْدَانِ مَا يَقْطَعُهُ عَنْ خِدْمَةِ سَيِّدِهِ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سَيِّدَهُ لَوْ مَلَّكَهُ جَارِيَةً جَازَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ، وَلَوْ مَلَّكَهُ أَرْبَعِينَ مِنَ الْغَنَمِ فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ لَمْ تَجِبْ عَلَى السَّيِّدِ زَكَاتُهَا لِأَنَّهَا مِلْكُ غَيْرِهِ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِأَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. وَيَقُولُ الإمامُ الْعِرَاقِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ، وَالزَّكَاةُ فِي النِّصَابِ وَاجِبَةٌ عَلَى السَّيِّدِ كَمَا كَانَتْ. وَدَلَائِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ. وَأَدَلُّ دَلِيلٍ لَها قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الروم: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآيةَ: 40، فَقد سَوَّى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ فِي الرِّزْقِ وَالْخَلْقِ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ السَّيِّد)). أَخْرَجَهُ أَبُودَاودَ: (4/28، رقم: 3962)، وابْنُ ماجَهْ: (2/845، رقم: 2529). والنَّسائيُّ في سُننهِ (الكبْرى) حديث: (4961 و 4962)، مِنْ حَدِيثِ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. فَأَضَافَ الْمَالَ إِلَيْهِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَرَى عَبْدَهُ يَتَسَرَّى فِي مَالِهِ فَلَا يَعِيبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ عَبْدًا لَهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَتَيْنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَيْسَ للْعَبْدِ طَلَاقٌ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. وَقَرَأَ "عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ". فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ مَا بِيَدِهِ وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا يَفْعَلُ الْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ مَا لَمْ يَنْتَزِعْهُ سَيِّدُهُ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الْحَمْدُ للهِ عَلَى بَيَانِ الحَقِّ وَوُضُوحِهِ لِأَنَّها نِعْمَةٌ جَلِيلَةٌ يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا، أَوِ الحَمْدُ كُلُّهُ للهِ لا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُ، فَضْلًا عَنِ العِبَادَةِ لأَنَّهُ مَوْلَى النِّعَمِ كُلِّها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أَيْ: لا عِلْمَ لَهُمْ: فَيُضِيفونَ النِّعَمَ إِلَى غَيْرِهِ وَيَعْبُدونَهُ لِأَجْلِها، أَوْ لا يَعْلَمُونَ مَا يَصيرونَ إِلَيْهِ مِنَ العَذَابِ فَيُشْرِكونَ بِهِ.
وَقَدْ جاءَ في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا" فِي رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ وأَرْضَاهُ، وَمَوْلًى لَهُ كَافِرٍ، وَهُوَ أُسَيْدُ بْنُ أَبي الْعيصِ، كَانَ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ، وَكَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَيَكْفُلُهُ وَيَكْفِيهِ الْمُؤْنَةَ، وَكَانَ الآخَرُ يَنْهاهُ عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْمَعْرُوفِ فَنَزَلَتْ فِيهِمَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والضِيَاءُ المَقْدِسيُّ فِي (المًختارَةِ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قَالَ: عُثْمَانَ بْنُ عَفَّان. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ" فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَعَبدِهِ، فِي هِشَامَ بْنِ عُمَرَ، وَهُوَ الَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَفِي عَبْدِ أَبي الجَوْزاءِ الَّذِي كَانَ يَنْهَاهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا} ضَرَبَ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ. وَلفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "مَثَلًا" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "عَبْدًا" بَدَلٌ مِنْ "مَثَلًا" بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ منصوبٌ مثلهُ. و "مَمْلُوكًا" صِفَةٌ أُولى لِـ "عَبْدًا" منصوبٌ مثلهُ.
قولُهُ: {لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لا: نافيةٌ لا عَمَلَ لَهَا، و "يَقْدِرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ عَلَى (عَبْدًا)، و "على" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِـ "يَقْدِرُ"، و " شَيْءٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِـ "عَبْدًا" في محلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا} الوَاوُ: حرفٌ للعَطْفِ، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قولِهِ: "عَبْدًا"، أَوْ هُوَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ. وَ "رَزَقْنَاهُ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٌ هُوَ "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، و "نا" التَعْظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ في مَحَلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّل لـ رَزَقْنَا"، والجُمْلَةُ صِلَةُ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إِنْ كانَتْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً. وَ "مِنَّا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ "رِزْقًا"، و "نَا" ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "رِزْقًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ. و "حَسَنًا" صِفَةٌ لـ "رِزْقًا" منصوبةٌ مثلهُ.
قولُهُ: {فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا} الفَاءُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "هُوَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "يُنْفِقُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، و "مِنْهُ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُنْفِقُ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "سَرًّا" و "جَهْرًا" إِمَّا مَنْصُوبَانِ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ؛ أَيْ: إِنَفَاقَ سِرٍّ وَجَهْرٍ، أَوْ هُما مَنْصُوبانِ عَلَى الحَالِ مِنْ فَاعِلِ "يُنْفِقُ". والجملة الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ، والجَمْلَةُ الاسْمِيَّةُ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ الصِلَةِ "رَزَقْنَاهُ".
قوْلُهُ: {هَلْ يَسْتَوُونَ} هَلْ: حَرْفٌ للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ. و "يَسْتَوُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ، والجُمْلَةُ جُمْلَةٌ إِنْشائِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وإِنَّمَا جُمِعَ الضَمِيرُ فِي "يَسْتَوُونَ" وَإِنْ تَقَدَّمَهُ اثْنَانِ؛ لأَنَّ المُرادَ جِنْسُ العَبيدِ والأَحْرارِ المَدْلُولِ عَلَيْهِما بِـ "عَبْدٌ" وبِـ "مَنْ رَزَقْنَاه" وَقِيلَ: عَلَى الأَغْنِياءِ والفُقَراءِ المَدْلُولِ عَلَيْهِمَا بِهِمَا. وَقِيلَ: اعْتِبارًا بِمَعْنَى "مَنْ" فَإِنَّ مَعْنَاهَا جَمْعٌ، رَاعَى مَعْنَاهَا بَعْدَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهَا.
قولُهُ: {الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الْحَمْدُ: مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وَ "للهِ" اللَّامُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقدَّرٍ للمُبْتَدَأِ، ولفظُ الجلالةِ "الله" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بَلْ" حَرْفُ عَطْفٍ وَإِضْرابٍ للإضْرَابِ الانْتِقالِيِّ. و "أَكْثَرُهُمْ" أَكْثَرُ: مرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها. و "يَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ المبتَدَأِ في محلِّ الرَّفعِ، والجُمْلَةُ الاسْميَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "الْحَمْدُ للهِ" على كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
الموسوعة القرآنية فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيم، سورة النحل، الآية: 7