لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ
(25)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهم كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لِيَحْمِلُوا: اللَّامُ هيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَصِفُوا الْقُرْآنَ بِكَوْنِهِ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ لِأَجْلِ أَنْ يَحْمِلُوا الْأَوْزَارَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ عَاقِبَتُهُمْ ذَلِكَ حَسُنَ ذِكْرُ هَذِهِ اللَّامِ كَقَوْلِهِ منْ سورةِ الْقَصَصِ: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} الآيَةَ: 8، وقيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا. وقيلَ: هِيَ لامُ الأَمْرِ، والمَعْنَى التَهْدُّدُ بِكُفْرِهِمْ. و "أَوْزَارَهُمْ" آثَامُهُمْ وَذُنُوبُهُمْ. و "أَوْزار" جَمْعُ وِزْرِ، وَهُوَ الحِمْلُ الثَّقيلُ. وَقدِ اسْتُعْمِلَ فِي الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ، لِأَنَّهُ يُثْقِلُ فَاعِلَهُ عَنِ الْخَلَاصِ مِنَ الْأَلَمِ وَالْعَنَاءِ والعَذَابِ، وأَصْلُه اسْتِعَارَةٌ وذَلِكَ بِتَشْبِيهِ الْجُرْمِ وَالذَّنْبِ بِالْوِزْرِ. وَحَمْلُ الْأَوْزَارِ تَمْثِيلٌ لِحَالَةِ وُقُوعِهِمْ فِي تَبِعَاتِ جَرَائِمِهِمْ بِحَالَةِ حَامِلِ الثِّقْلِ لَا يَسْتَطِيعُ تَفَصِّيًا (تخلُّصًا) مِنْهُ، فَلَمَّا شُبِّهَ الْإِثْمُ بِالثِّقْلِ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الْوِزْرُ شُبِّهَ التَّوَرُّطُ فِي تَبِعَاتِهِ بِحَمْلِ الثِّقْلِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، وَحَصَلَ مِنْ الِاسْتِعَارَتَيْنِ الْمُفَرَّقَتَيْنِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ لِلْهَيْئَةِ كُلِّهَا. وَمثلُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ شائعٌ في القُرآنِ الكريمِ، مِنْ ذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى في سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فِي سُورَةِ} الآية: 31. كَمَا يُعَبِّرُ عَنِ الذُّنُوبِ بِالْأَثْقَالِ، ومنْ ذَلِكَ قَولُهُ في سُورَة العَنْكَبُوت: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ} الآية: 13. وَأخرج ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: "لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهم كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ" الْآيَةَ، قَالَ: حَمَّلَهُمْ ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ وَذُنوبَ مَنْ أَطاعَهُمْ، وَلَا يُخَفِّفُ ذَلِكَ عَمَّنْ أَطاعَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ليحملوا أوزارهم كَامِلَةً" الْآيَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فاتُّبِعَ كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزارِ مَنْ اتَّبَعَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارهم شَيْءٌ. وَأَيُّمَا دَاعٍ إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ، فَلَهُ مِثْلُ أُجُورِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهم شَيْءٌ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّهُ يَتَمَثَّلُ للْكَافِرِ عَمَلُهُ فِي صُورَةِ أَقْبَحِ مَا خَلَقَ اللهُ وَجْهًا، وأَنْتَنِهِ رِيحًا، فَيَجْلِسُ إِلَى جَنْبِهِ كُلَّمَا أَفْزَعَهُ شَيْءٌ زَادَهُ، وَكُلَّما تَخَوَّفَ شَيْئًا زَادَهُ خَوْفًا، فَيَقُولُ: بِئْسَ الصَّاحِبُ أَنْتَ، وَمَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: وَمَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ كَانَ قَبيحًا فَلِذَلِكَ تَراني قَبيحًا، وَكَانَ مُنْتِنًا فَلِذَلِكَ تَراني مُنْتِنًا. طَأْطِئْ إِلَيَّ أَرْكَبْكَ فَطَالَمَا رَكِبْتَني فِي الدُّنْيَا، فَيَرْكَبُهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالى: "لِيَحْمِلوا أوزارَهم كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَة"، وأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ المُبارَكِ في الزُّهْدِ الرقائقِ. وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ التَّمْثِيلِ أَنْ تَكُونَ الِاسْتِعَارَةُ التَّمْثِيلِيَّةُ صَالِحَةً لِلتَّفْرِيقِ إِلَى عِدَّةِ تَشَابِيهَ أَوِ اسْتِعَارَاتٍ. وَلَقَدْ قَالُوا مَا قَالُوهُ عَنِ الرَّسُولِ وَعَنِ القُرْآنِ، وَعَنْ رِسَالَةِ اللهِ، لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ أَنْ يَتَحَمَّلُوا آثَامَهُمْ وَخَطَايَاهُمْ، وَأَوْزَارَ كُفْرِهِمْ. وَ "كامِلَةً" مَعْنَاهُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُخَفِّفُ مِنْ عِقَابِهِمْ شَيْئًا، بَلْ يُوصِلُ ذَلِكَ الْعِقَابَ بِكُلِّيَّتِهِ إِلَيْهِمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يُسْقِطُ بَعْضَ الْعِقَابِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ لَوْ كَانَ هَذَا الْمَعْنَى حَاصِلًا فِي حَقِّ الْكُلِّ، لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ بِهَذَا التَّكْمِيلِ مَعْنًى، وَقَوْلُهُ: وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ مَعْنَاهُ: وَيَحْصُلُ لِلرُّؤَسَاءِ مِثْلُ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ.
قولُهُ: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أَيْ: وَلِيَتَحَمَّلُوا مَعَهَا مِنْ خَطَايَا وَأَوْزَارِ الذِي يُضِلُّونَهُمْ، وَيَحْمِلُونَهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهم كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ" يَقُولُ: يَحْمِلُونَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ ذُنُوبَ الَّذينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُون} الآيةَ: 13، مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوت. و "بِغَيْرِ عِلْمٍ" أَيْ يُضِلُّونَ الْخَلْقَ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْآثَامِ، إِذْ لَوْ عَلِمُوا لَمَا أَضَلُّوا. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَحْمِلُونَ وِزْرَ مَنْ أَضَلُّوهُ وَلَا يَنْقُصُ مِنْ إِثْمِ المُضَلِّ شَيْءٌ. فقد أَخْرَجَ الأَئِمَّةُ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، عَنْ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنْ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى، فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنْ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (5/175، برقم: 21568) قالَ ابنُ حَجَر الهَيْثَمِيُّ: (10/240): رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحيحِ. وأَخْرَجَهُ الطَبَرانِيُّ: (2/151، برقم: 1634)، وأَبو نُعَيْمٌ في الحِلْيَةِ (1/162)، مِنْ حديثِ أَبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وأَخْرَجَهُ ابْنُ ماجَهْ في سُنَنِهِ (1/75، بِرَقم: 205) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، وأَخرجَهُ مُسْلمٌ في صحيحِهِ (2674) في العلم، باب: مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً ومَا بَعْدَها، بِمَعْناهُ. والتِرْمِذِيُّ: (2674) في العِلْمِ، بابُ: ما جاءَ فِيمَنْ دَعَا إِلَى الهُدَى فاتُّبِعَ، أَوْ إِلَى ضَلالَةٍ: (5/43)، والنَّسائيُّ بالرِّوايَةِ الثانيَةِ: الزَّكاة، التَحْريضُ عَلَى الصَدَقَةِ: (5/75). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا الطَبَرِيُّ في تفسيرِهِ: (14/96) بِنَصِّهِ، وأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي حاتِمٍ في تَفْسِيرِهِ. ولَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْعِقَابَ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ الْأَتْبَاعُ إِلَى الرُّؤَسَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِعَدْلِ اللهِ تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ النَّجْمِ: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعَى} الآيةَ: 39، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الإسراء: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} الْآية: 15، بَلِ الْمَعْنَى: أَنَّ الرَّئِيسَ إِذَا وَضَعَ سُنَّةً قَبِيحَةً عَظُمَ عِقَابُهُ، حَتَّى أَنَّ ذَلِكَ الْعِقَابَ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِكُلِّ مَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَتْبَاعِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَلَفْظَةُ: "مِنْ" فِي قَوْلِهِ: "وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ" لَيْسَتْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِلتَّبْعِيضِ لَخَفَّ عَنِ الْأَتْبَاعِ بَعْضُ أَوْزَارِهِمْ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)). وَلَكِنَّهَا لِلْجِنْسِ، أَيْ لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الْأَتْبَاعِ. وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يَعْنِي أَنَّ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءَ إِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذَا الْإِضْلَالِ جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ عَلَى ذَلِكَ الْإِضْلَالِ، وقِيلَ هِيَ لِلسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْعَطْفِ وَحَرْفُ الْجَرِّ بَعْدَهُ إِذْ لَا بُدَّ لِحَرْفِ الْجَرِّ مِنْ مُتَعَلِّقٍ. وَتَقْدِيرُهُ: وَيَحْمِلُوا. وَمَفْعُولُ الْفِعْلِ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَفْعُولُ نَظِيرِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَيَحْمِلُوا أَوْزَارًا نَاشِئَةً عَنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ، أَيْ نَاشِئَةً لَهُمْ عَنْ تَسَبُّبِهِمْ فِي ضَلَالِ الْمُضَلَّلِينَ ـ بِفَتْحِ اللَّامِ. فَإِنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي إِضْلَالِ هؤلاءِ يَقْتَضِي مُسَاوَاةَ الْمُضَلِّلِ لِلمُضَلَّلِ فِي جَرِيمَةِ الضَّلَالِ، إِذْ لَوْلَا إِضْلَالُهُ إِيَّاهُ لَاهْتَدَى بِنَظَرِهِ في الأَمْرِ بِعَقْلِهِ، أَوْ بِسُؤَالِ النَّاصِحِينَ. و "بِغَيْرِ عِلْمٍ" أَيْ: لَمْ يَعْلَمُوا بِأَنْ تَصِيرَ أَوْزارُهم عَلَيْهِمْ، أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا يَلْحَقُ بِهِمْ.
قولُهُ: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أَيْ: بِئْسَ مَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الذُّنوبِ والآثامِ والمَعَاصِي. أَيْ: بِئْسَ الْأَوْزارُ الَّتي يَحْمِلُونَها. وَهَذَا تَذْيِيلٌ افْتُتِحَ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ "أَلَا" وذلك اهْتِمَامًا بِمَا تَتَضَمَّنُهُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهِ، أَوْ للإقلاعِ عَنْهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ المُباركةِ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوت: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} الآيَةَ: 13، وقولُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ طه: {وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلًا} الآية: 101.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهم كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لِيَحْمِلُوا: اللامُ: هيَ لامُ كيْ حَرْفُ جَرٍّ وعاقِبَةٍ، أَيْ: كانَ عاقِبَةُ قَوْلِهم ذَلِكَ، لأَنَّهمْ لَمْ يَقُولُوا "أَساطِيرُ" لِيَحْمِلوا، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ القَصِصِ: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} الآية: 8، وكقولِ أَبي العَتَاهِيَة:
لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ ................... لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَاب
ويَجُوزُ أَنَّ هذهِ اللام للتَعْليلِ، وفِيهِ حينئذٍ وجهانِ: أَحَدُهُما: أَنَّهُ تَعْلِيلٌ مَجَازِيٌّ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: واللَّامُ للتَعْليلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكونَ غَرَضًا، نَحْوَ قولِكَ: خَرَجْتُ مِنَ البَلَدِ مَخافَةَ الشَرِّ. وثانيهُما: أَنَّهُ تَعْليلٌ حَقيقَةً. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعْدَ حِكايَةِ وَجْهِ لامِ العاقِبَةِ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ صَريحَ لامِ كَيْ، عَلى مَعْنَى: قَدَّرَ هَذَا لِكَذَا. انْتَهَى. لَكِنَّهُ لَمْ يُعَلِّقْها بـ "قالوا" إِنَّما قَدَّرَ لَهَا عِلَّةَ "كَيْلا"، وَهوَ قَدَّرَ هَذَا، وَعَلى قَوْلِ الزَمَخْشَرِيِّ يَتَعَلَّقُ بـ "قالوا"؛ لأَنَّها لَيْسَتْ لِحَقِيقَةِ العِلَّةِ. وَ "كامِلَةً" حالٌ. أَوْ أَنَّ هَذِهِ اللام هيَ لامُ الأَمْرِ الجَازِمَةُ عَلَى مَعْنَى الحَتْمِ عَلَيْهِمْ، والصَّغارِ المُوجِبِ لَهُم، وَعَلى هَذَا فَقَدْ تَمَّ الكلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ "الأوَّلين"، ثمَّ اسْتُؤْنِفَ أَمْرُهُمْ بِذَلِكَ. و "يَحْمِلُوا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ منْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَة جَوازًا بَعْدَ لامِ كَيْ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَفْريقِ. و "أَوْزارَهم" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "كَامِلَةً" مَنْصوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ "أَوْزارَ". و "يَوْمَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَحْمِلوا"، وهو مُضافٌ. و "الْقِيَامَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ صِلَةُ "أنْ" المُضْمَرَةِ، و "أنْ" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِاللامِ، والتقديرُ: قالوا لِصَيْرُورَةِ عَاقِبَتِهمْ حَمْلَهم أَوزارَهم يومَ القيامَةِ.
قولُهُ: {وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} الواوُ: حرفُ عطفٍ، وَ "مِنْ" حرفٌ جَرٍّ للتَبْعِيضِ متعلِّقٌ بـ "يَحْمِلوا"، أَيْ: وَبَعْضَ أَوْزَارِ الذَينَ. وَقَدَّرَ أَبُو البَقاءِ مَفْعُولًا حُذِفَ وَهَذِهِ صِفَتُهُ، أَيْ: وَأَوْزَارًا مِنْ أَوْزَارِ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ "مِثلَ" أَيْضًا. وقدْ مَنَعَ الوَاحِدِيُّ أَنْ تَكونَ "مِنْ" هذه للتَبْعيضِ، قالَ: لأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ تَخْفيفَ الأَوْزارِ عَنِ الأَتْباعِ، وَهوَ غَيْرُ جائزٍ لِقَوْلِهِ ـ عَليْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ((مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارِهم شَيْءٌ)). لَكِنَّها للجِنْسِ، أَيْ: لِيَحْمِلُوا مِنْ جِنْسِ أَوْزَارِ الأَتْباعِ. قالَ الشَّيْخُ: والَّتي لِبَيانِ الجِنْسِ لا تَتَقَدَّرُ هَكَذَا، إِنَّما تَتَقَدَّرُ: والأَوْزارُ التي هِيَ أَوْزارُ الذينَ، فهوَ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى كَقَوْلِ الأَخْفَشِ، وإِنِ اخْتَلَفَا في التَقْديرِ. أَنَّ "مِنْ" مَزيدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ الأَخْفَشِ، أَيْ: وَأَوْزارَ "الذينَ" عَلَى مَعْنَى: وَمِثْلَ أَوْزَارِ، كَقَوْلِهِ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((كانَ عَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها)). و "أَوْزَارِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على الفتحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "يُضِلُّونَهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بِغَيْرِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بحَالٍ إِمَّا مِنْ فاعِلِ "يُضِلُّونَهُمْ"، أَيْ: يُضِلُّونَ مَنْ لا يَعْلَمُ أَنَّهم ضُلاَّلٌ، قالَهُ الزَمَخْشَرِيُّ. أَوْ مِنَ الفاعِلِ، ورُجِّحَ هَذَا بِأَنَّهُ هوَ المُحَدَّثُ عَنْهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الكلامُ فِي إِعْرابِ نَحْوَ "سَاءَ مَا يَزِرِونَ"، وأَنَّها قَدْ تَجْرِي مَجْرَى "بِئْسَ". وَ "غَيْرِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، و "عِلْمٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أَلَا: حَرْفُ تَنْبيهٍ، و "سَاءَ" فِعْلٌ ماضٍ مِنْ أَفْعالِ الذَّمِّ، مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا، لِشِبَهِهِ بِالمثل، تقديرُهُ: (هوَ) يَعودُ عَلى الشَّيْءِ المُبْهَمِ الذي يُفَسِّرُهُ التَمْييزُ، و "مَا" نَكِرَةٌ مَوْصوفَةٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى التَمْييزِ لِفَاعِلِ "سَاءَ". و "يَزِرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "مَا"، والرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: أَلَا ساءَ الشَّيْءُ شَيْئًا يَزورَنَهُ، والمَخْصُوصُ بالذَّمِّ مَحْذوفٌ تَقديرُهُ: حِمْلَهُمْ هَذَا، وَأَمَّا جُمْلَةُ "سَاءَ" جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.