أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(17)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} أَفَمَنْ يَخْلُقُ كلَّ هَذِهِ المَخَلوقَاتِ العَجِيبَةَ، وَيُنْعِمُ كلَّ هَذِهِ النِّعَمَ الجَسيمَةَ العَظِيمَةَ، كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا أَبَدًا، وهو مخلوقٌ كَغَيْرِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلاَ لِغيرِهِ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا؟. فكيف يُسَوَّى هذا المخلوقُ بِخَالقِهِ العَظِيمِ، بَلْ يُعْبَدَ مَعَهُ أو مِنْ دونِهِ؟. وقد جاء هذا التبكيتُ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ أُقِيمَتِ الدَّلَائِلُ عَلَى انْفِرَادِ اللهِ بِالْخَلْقِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 3، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ العَظيمَةِ: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ}. وَقَدْ ثَبَتَتِ الْمِنَّةُ وَحُقَّ الشُّكْرُ، فَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ هَاتَينِ الْجُمْلَتَينِ لِتَكُونَا كَالنَّتِيجَتَيْنِ لِلْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ إِنْكَارًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ. فَالِاسْتِفْهَامُ عَنِ الْمُسَاوَاةِ هنا للإنْكَارِ عليهم، أَيْ لَا يَسْتَوِي مَنْ يَخْلُقُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ. وَالْكَافُ لِلْمُمَاثَلَةِ، وَهِيَ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ حَيْثُ جَعَلُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً شَرِيكَةً للهِ تَعَالَى. وَمِنْ مَضْمُونِ الصِّلَتَيْنِ يُعْرَفُ أَيُّ الْمَوْصُولَيْنِ أَوْلَى بِالْإِلَهِيَّةِ فَيَظْهَرُ مَوْرِدُ الْإِنْكَارِ. وَحِينَ كَانَ الْمُرَادُ بِمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامَ كَانَ إِطْلَاقُ "مَنْ" الْغَالِبَة فِي الْعَاقِلِ مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ أَفَمَنْ يَخْلُقُ. فإِنْ أُرِيدَ بـ "مَنْ لا يَخْلُق" جميعُ ما عُبِدَ مِنْ دونِ اللهِ، كانَ وُرُودُ "مَنْ" واضِحًا، لأَنَّ العاقِلَ يُغَلَّبُ عَلَى غَيْرِهِ إِذَا اجْتَمَعَا، فَيُعَبَّرُ عَنِ الجَميعِ بـ "مَنْ" وَلَوْ جِيْءَ بـ "ما" أَيْضًا لَجَازَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الأَصْنَامُ فَفِي إِيقاعِ "مَنْ" عَلَيْهمْ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: إِجْراؤهم لَهَا مُجْرَى أُولِي العِلْمِ فَي عِبادَتِهم إِيَّاهَا وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ كما هي في قوْلِ العَبَّاسِ بْنِ الأَحْنَفِ:
بَكَيْتُ إِلَى سِرْبِ القَطَا إِذْ مَرَرْنَ بِي ........ فَقُلْتُ وَمِثْلي بالبُكاءِ جَدِيرُ
أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ......... لَعَلِّي إِلَى مَنْ قَدْ هَوَيْتُ أَطِيرُ
فَأَوْقَعَ عَلَى السِّرْبِ "مَنْ" لَمَّا عَامَلَهَا مُعامَلَةَ العُقَلاءِ.
الثاني: المُشَاكَلَةُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَنْ يَخْلُق.
الثالثُ: تَخْصيصُهُ بِمَنْ يَعْلَم، والمَعْنَى: أَنَّهُ إِذا حَصَلَ التَبَايُنُ بَيْنَ مَنْ يَخْلُقُ وبَيْنَ مَنْ لا يَخْلُقُ مِنْ أُولِي العِلْمِ، وأَنَّ غيْرَ الخالِقِ لَا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ البَتَّةَ، فَكَيْفَ تَسْتَقيمُ عِبادَةُ الجَمَادِ المُنْحَطِّ رُتْبَةً، السَّاقِطِ مَنْزِلَةً عَنِ المَخْلُوقِ مِنْ أُولي العِلْمِ، كَقَولِهِ تعالى مِنَ سُورةِ الأَعْرَافِ: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} إلى آخِرِهِ الآية: 195، وَأَمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ "مَنْ" عَلَى غَيْرِ العاقلِ مِنْ غيرِ شَرْطٍ، كَقُطْرُبٍ فَلا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْويلٍ. قالَ أَبُو القاسِمِ الزَمَخْشَرِيُّ في تَفْسيرِهِ المُسمَّى (الكشَّاف): (فإِنْ قُلْتَ: هُوَ إِلْزامٌ للذينَ عَبَدُوا الأَوْثانَ وَنَحْوَها، تَشْبيهًا بِاللهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، وَقَدْ جَعَلُوا غَيْرَ الخَالِقِ مِثْلَ الخَالِقِ، فَكانَ حَقُّ الإِلزامِ أَنْ يُقالَ لَهُمْ: أَفَمَنْ لا يَخْلُقُ كَمَنْ يَخْلُقُ؟ قُلْتُ: حِينَ جَعَلوا غَيْرَ اللهِ مِثْلَ اللهِ تعالى، لِتَسْمِيَتِهم باسْمِهِ، والعِبَادةِ لَهُ، جَعَلُوهُ ـ تعالى، مِنْ جِنْسِ المَخلوقاتِ، وَشَبِيهًا بِهَا، فَأَنْكَرَ اللهُ تعالى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ"، الآيةَ.
قولُهُ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ هَذِهِ النِّعَمَ، وَهَذِهِ القُدْرَةِ العَظِيمَةِ لِتُدْرِكُوا أَنَّ العِبَادَةَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ لِغَيْرِ اللهِ تَعَالى فَهُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَى خَلْقِهِ. أَمَّا الأَصْنَامُ وَالأَوْثَانُ فَإِنَّهَا حِجَارَةٌ لاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَضُرُّ، وَكلُّ ما سواهُ منْ مخلوقاتِهِ لاَ يَسْتَطِيعُ لنفسِهِ شَيْئًا ولا لِغَيْرِهِ. وَفُرِّعَ عَلَى إِنْكَارِ التَّسْوِيَةِ اسْتِفْهَامٌ عَنْ عَدَمِ التَّذَكُّرِ فِي انْتِفَائِهَا. فَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى انْتِفَاءِ التَّذَكُّرِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِينَ، فَهُوَ إِنْكَارٌ عَلَى إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ التَّذَكُّرِ فِي ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ" قَالَ: اللهُ هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ، وَهَذِهِ الْأَوْثَانَ الَّتِي تُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ تُخْلَقُ وَلَا تَخْلُقُ شَيْئًا، وَلَا تَمْلُكُ لأَهْلِهَا ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، قَالَ اللهُ: "أَفلا تذكرُونَ".
قولُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} أَفَمَنْ: الهَمْزَةُ للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، والفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، والتَقْديرُ: أَتُتَصَوَّرُ المُشَابِهَةُ وَالمُشَارَكَةُ بَيْنَ الخَالِقِ وَغَيْرِهِ بَعْدَ ظُهُورِ الدَلائِلِ؟. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ، و "يَخْلُقُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "كَمَن" الكافُ حرفُ جَرٍّ وتَشْبِيهٍ، مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يَخْلُقُ" مِثْلُ سابقِهِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذَوفَةِ.
قولُهُ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} أَفَلَا: الهمزَةُ: للاسْتِفْهامِ التَوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلى مَحْذوفٍ، والفاء: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، و "لا" نَافِيَةٌ لا عملَ لها. و "تَذَكَّرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وأَصْلُ هَذِهِ الكلِمةِ "تَتَذَكَّرونَ" فَدُغِمَتِ التَّاءُ الأُولَى بالثانِيَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، والتَقْديرُ: أَلَا تُلاحِظونَ القُدْرَةَ الباهِرَةَ للخَالِقِ ـ سُبْحَانَهُ، والعَجْزَ الظاهِرَ للأَصْنَامِ، أَفَلَا تَذَكُرونَ ذَلِكَ، فَتَعْرِفونَ فَسَادَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ.