وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
(68)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أَيْ: أَلْهَمَهَا، وَقَذَفَ في قُلوبِها، وعَلَّمَها بِوَجْهٍ لا يَعْلَمُهُ إِلَّا العَليمُ الخَبيرُ. وَهُوَ مَا يَخْلُقُهُ اللهُ تَعَالَى فِي قلْبِ خلقِهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى منْ سورةِ الشَّمسِ: "وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواهَا" الآيتانِ: (7 و . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" قَالَ: أَلْهَمَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيضًا عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: النَّحْلُ دَابَّة أَصْغَرُ مِنَ الجُنْدُبِ، ووَحْيُهُ إِلَيْهَا قَذْفٌ فِي قُلُوبِها. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" قَالَ: أَلْهَمَهَا إِلْهامًا، وَلَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهَا رَسُولًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَأوحى رَبك إِلَى النَّحْلِ" قَالَ: أَمْرَهَا أَنْ تَأْكُلَ مِنْ كُلِّ الثَمَراتِ، وَأَمَرَها أَنْ تَتَّبِعَ سُبُلَ رَبِّهَا ذُلُلًا. وَكذَلِكَ الْبَهَائِمُ وَمَا يَخْلُقُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ، فِي نفوسِهَا مِنْ دَرْكِ مَنَافِعِهَا، وَاجْتِنَابِ مَضَارِّهَا، وَتَدْبِيرِ مَعَاشِهَا. وَقَدْ أَخْبَرَ ـ عَزَّ في علاهُ، بِذَلِكَ عَنِ الأرضِ الْمَوَاتِ أَيضًا فَقَالَ في سورةِ الزلْزلةِ: "يومئذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها" الآيتان: (4 و 5). قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي الْمَوَاتِ قُدْرَةٌ لَمْ يُدْرَ مَا هِيَ، لَمْ يَأْتِهَا رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى عَرَّفَهَا ذَلِكَ، أَيْ أَلْهَمَهَا. فَأَطْلَقَ اللهُ ـ تَعَالى، الْوَحْيَ هُنَا عَلَى التَّكْوِينِ الْخَفِيِّ الَّذِي أَوْدَعَهُ فِي طَبِيعَةِ النَّحْلِ، بِحَيْثُ تَنْسَاقُ إِلَى عَمَلٍ مُنَظَّمٍ مُرَتَّبٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ آحَادُهَا، تَشْبِيهًا لِلْإِلْهَامِ بِكَلَامٍ خَفِيٍّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ التَّرْتِيبَ الشَّبِيهَ بِعَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ، أَوِ الْمُؤْتَمَرِ بِإِرْشَادِ الْآمِرِ، الَّذِي تَلَقَّاهُ سِرًّا، فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ. والوَحْيُ في اللُغَةِ العربيَّةِ إِلْقاءُ المَعْنَى مِنَ المُوحِي إِلَى المُوحَى إِلَيْهِ فِي خَفَاءٍ، كما تقدَّم، فَمِنْ ذَلِكَ وَحيُهُ تَعَالى إِلَى أَنْبِيائِهِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِوِساطَةِ المَلَاكِ، ومِنْهُ وَحْيُ الرُّؤْيَا، ووَحْيُ الإِلْهَامِ. وَيَأْتي الوَحْيُ أَيْضًا بِمَعْنَى الأَمْرِ، كَمَا مِنْ قولِهِ تَعَالى في سُورةِ الزَّلْزَلَةِ: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} الآيَةَ: 5. والوَحيُ الإِشَارَةُ أَيضًا، قَالَ ـ جَلَّ وعَلا، مِنْ سُورَةِ مَرْيَم ـ عليها السَّلامُ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيًا} الآية: 11، فـ {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} أَيْ: أَشَارَ إِلَيْهِمْ. كَمَا تُطْلِقُهُ العَرَبُ أَيْضًا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ لَبِيدٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ: فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ............ خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيَّ سِلَامُهَا
فَـ "الْوُحِيَّ" فِي هذا الْبَيْتِ (بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ) جَمْعُ "وَحْيٍ" بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ. فقدْ أَوْحَى اللهُ ـ تَعَالَى، إِلَى كُلِّ دَابَّةٍ، وَذِي رُوحٍ، وَحْيَ الإِلْهَامِ فِي الْتِماسِ مَنَافِعِها، واجْتِنابِ مَضَارِّهَا، فَذَكَرَ هنا مِنْ ذَلِكَ أَمْرَ النَّحْلِ؛ لأَنَّ فِيها مِنْ لَطِيفِ الصَّنْعَةِ وَبَديعِ الخَلْقِ مَا فِيهِ أَعْظَمُ مُعْتَبَرٍ. وَقدْ غَيَّرَ اللهُ ـ تَعَالَى، أُسْلُوبَ الِاعْتِبَارِ هُنا لِمَا فِي هَذِهِ الْعِبْرَةِ مِنْ تَنْبِيهٍ عَلَى عَظِيمِ حِكْمَتِهِ ـ سُبْحانَهُ، إِذْ أَوْدَعَ فِي خِلْقَةِ هَذِهِ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ صَنْعَةً عَظِيمَةَ المَنْفَعَةِ، عسَلًا حُلْوًا لذيذًا شِفاءً للنَّاسِ، كَمَا أَوْدَعَ فِي الْأَنْعَامِ أَلْبَانَهَا، وَأَوْدَعَ فِي ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ شَرَابًا لذيذًا أَيْضًا، وَكَانَ مَا فِي بُطُونِ النَّحْلِ وَسَطًا بَيْنَ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي قَلْبِ الثِّمَارِ، فَإِنَّ النحلَ يَمْتَصُّ مَا فِي رحيقِ الْأَزْهارِ مِنَ الْمَوَادِّ السُّكَّرِيَّةِ، ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَسَلًا لذيذًا، كَمَا يَخْرُجُ اللَّبَنُ مِنْ خُلَاصَةِ مَرْعَى البَهَائمِ. فَقَدْ أَوْدَعَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، فِي ذُبَابَةِ النَّحْلِ إِدْرَاكًا لِصُنْعٍ مُحْكَمٍ مَضْبُوطٍ مُنْتِجٍ شَرَابًا نَافِعًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى حَلْبِ حَالِبٍ.
والنَّحْلُ: اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ، وَاحِدُهُ نَحْلَةٌ، وفي سببِ هذه التَسْمِيَةِ وأَصلِها قالَ أَبو اِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: جائزٌ أَنْ يَكونَ سُمِّيَ نَحَلًا لِأَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، نَحَلَهُ الْعَسَلَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ. وقالَ الْجَوْهَرِيُّ صاحِبُ الصِّحاحِ في اللُّغةِ: وَالنَّحْلُ وَالنَّحْلَةُ الدَّبْرُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، حَتَّى يُقَالَ: يَعْسُوبٌ. وَالنَّحْلُ يُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَكُلُّ جَمْعٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدِهِ إِلَّا الْهَاءُ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((الذِّبَّانُ كُلُّهَا فِي النَّارِ يَجْعَلُهَا عَذَابًا لِأَهْلِ النَّارِ إِلَّا النَّحْلَ)) ذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ). وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ، خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا. والصُّرْدُ: طائرٌ ضَخْمُ الرَّأْسِ والمِنْقَارِ لَهُ رِيشٌ عَظِيمٌ نِصْفُهُ أَبْيَض ونِصْفُهُ أَسْوَد، يَصيدُ صِغَارَ الطَّيْرِ. وَالنَّحْلُ ذُبَابٌ لَهُ جِرْمٌ بِقَدْرِ ضِعْفَيْ جِرْمِ الذُّبَابِ الْمُتَعَارَفِ، وَأَرْبَعَةُ أَجْنِحَةٍ، وَلَوْنُ بَطْنِهِ أَسْمَرُ إِلَى الْحُمْرَةِ، وَفِي خُرْطُومِهِ شَوْكَةٌ دَقِيقَةٌ مُخْتَفِيَةٌ تَحْتَ خُرْطُومِهِ يَلْسَعُ بِهَا مَا يَخَافُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ، فَتَسُمَّ الْمَوْضِعَ سُمًّا غَيْرَ قَوِيٍّ، وَلَكِنَّ الذُّبَابَةَ إِذَا انْفَصَلَتْ شَوْكَتُهَا تَمُوتُ. وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: ذَكَرٌ وَأُنْثَى وَخُنْثَى، فَالذُّكُورُ هِيَ الَّتِي تَحْرُسُ بُيُوتَهَا وَلِذَلِكَ تَكُونُ مُحَوِّمَةً بِالطَّيَرَانِ وَالدَّوِيِّ أَمَامَ الْبَيْتِ وَهِيَ تُلَقِّحُ الْإِنَاثَ لَقَاحًا بِهِ تَلِدُ الْإِنَاثُ إِنَاثًا. وَالْإِنَاثُ هِيَ الْمُسَمَّاةُ الْيَعَاسِيبَ، وَهِيَ أَضْخَمُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ. وَلَا تَكُونُ الَّتِي تَلِدُ فِي الْبُيُوتِ إِلَّا أُنْثَى وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَدْ تَلِدُ بِدُونِ لِقَاحِ ذَكَرٍ وَلَكِنَّهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا تَلِدُ إِلَّا ذُكُورًا فَلَيْسَ فِي أَفْرَاخِهَا فَائِدَةٌ لِإِنْتَاجِ الْوَالِدَاتِ. وَأَمَّا الْخُنْثَى فَهِيَ الَّتِي تُفْرِزُ الْعَسَلَ، وَهِيَ الْعَوَاسِلُ، وَهِيَ أَصْغَرُ جِرْمًا مِنَ الذُّكُورِ وَهِيَ مُعْظَمُ سُكَّانِ بَيْتِ النَّحْلِ وخلاياه فَأَوْحَى إِلَيْهِمُ.
وقَدِ افْتَتَحَ ـ تَعالى، هَذِهِ الآيَةَ الكريمةَ بِفِعْلِ "أَوْحى" وَلَمْ يَفْتَتِحْها بِاسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا افْتَتَحَ الآيَةَ: 65، السَّابِقَةَ بقولِهِ: {واللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} لِمَا فِي قولِهِ: "أَوْحى" مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى إِلْهَامِ تِلْكَ الْحَشَرَةِ الضَّعِيفَةِ تَدْبِيرًا عَجِيبًا، وَعَمَلًا مُتْقَنًا، وَهَنْدَسَةً فِي الْجِبِلَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ الْإِلْهَامُ فِي ذَاتِهِ دَلِيلًا عَلَى عَظِيمِ حِكْمَتِهِ تَعَالَى فَضْلًا عَلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى قُدْرَتِهِ ـ تَعَالَى، وَمِنَّةً عَظِيمَةً مِنْهُ ـ سُبْحَانَهُ.
قولُهُ: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أَنْ: تَفْسِيرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ كَوْنَها مُفَسِّرَةً، لأَنَّ الوَحْيَ هُنَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى القَوْلِ؛ إِذْ هُوَ إِلْهَامٌ لا قَوْلَ فِيهِ". وفي هذا نَظَرٌ؛ لأَنَّ القَولَ لِكُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ. وَهِيَ تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ، لِأَنَّ "أَن" التَّفْسِيرِيَّةَ مِنْ رَوَادِفِ الْأَفْعَالِ الدَّالَّةِ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ.
وَاتِّخَاذُ الْبُيُوتِ هُوَ أَوَّلُ مَرَاتِبِ الصُّنْعِ الدَّقِيقِ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللهُ فِي طَبَائِعِ النَّحْلِ، فَإِنَّهَا تَبْنِي بُيُوتًا بِنِظَامٍ دَقِيقٍ، ثُمَّ تُقَسِّمُ أَجْزَاءَهَا أَقْسَامًا مُتَسَاوِيَةً بِأَشْكَالٍ مُسَدَّسَةِ الْأَضْلَاعِ بِحَيْثُ لَا يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا فَرَاغٌ تَنْسَابُ مِنْهُ الْحَشَرَاتُ، لِأَنَّ خَصَائِصَ الْأَشْكَالِ الْمُسَدَّسَةِ إِذَا ضُمَّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ أَنْ تَتَّصِلَ فَتَصِيرُ كَقِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا عَدَاهَا مِنَ الْأَشْكَالِ مِنَ الْمُثَلَّثِ إِلَى الْمُعَشَّرِ إِذَا جُمِعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إِلَى أَمْثَالِهِ لَمْ تَتَّصِلْ وَحَصَلَتْ بَيْنَهَا فُرَجٌ، ثُمَّ تَغُشِّي عَلَى سُطُوحِ الْمُسَدَّسَاتِ بِمَادَّةِ الشَّمْعِ، وَهُوَ مَادَّةٌ دُهْنِيَّةٌ مُتَمَيِّعَةٌ أَقْرَبُ إِلَى الْجُمُودِ، تَتَكَوَّنُ فِي كِيسٍ دَقِيقٍ جِدًّا تَحْتَ حَلَقَةِ بَطْنِ النَّحْلَةِ الْعَامِلَةِ، فَتَرْفَعُهُ النَّحْلَةُ بِأَرْجُلِهَا إِلَى فَمِهَا، وَتَمْضُغُهُ، وَتَضَعُ بَعْضَهُ لَصْقَ بَعْضٍ لِبِنَاءِ الْمُسَدَّسِ الْمُسَمَّى بِالشَّهْدِ لِتَمْنَعَ تَسَرُّبَ الْعَسَلِ مِنْهَا.
وَلَمَّا كَانَتْ بُيُوتُ النَّحْلِ مَعْرُوفَةٌ لِلْمُخَاطَبِينَ اكْتُفِيَ فِي الِاعْتِبَارِ بِهَا بِالتَّنْبِيهِ عَلَيْهَا وَالتَّذْكِيرِ بِهَا. وَأُشِيرَ إِلَى أَنَّهَا تُتَّخَذُ فِي أَحْسَنِ الْبِقَاعِ مِنَ الْجِبَالِ أَوِ الشَّجَرِ أَوِ الْعَرْشِ دُونَ بُيُوتِ الْحَشَرَاتِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ لِشَرَفِهَا بِمَا تَحْتَوِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ، وَبِمَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فِي ضِدِّهَا: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} الآية: 41، مِنْ سُورَة الْعَنْكَبُوتِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْجِبَالِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا} الآية: 260. و "مِنَ" الدَّاخِلَةُ عَلَى الْجِبالِ، وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا بِمَعْنَى (فِي)، وَأَصْلُهَا "مِنَ" الِابْتِدَائِيَّةُ، فَالتَّعْبِيرُ بِهَا دُونَ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّحْلَ تَبْنِي لِنَفْسِهَا بُيُوتًا وَلَا تَجْعَلُ بُيُوتَهَا جُحُورَ الْجِبَالِ وَلَا أَغْصَانَ الشَّجَرِ وَلَا أَعْوَادَ الْعَرِيشِ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَة: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى} الآيةَ: 125. وَلَيْسَتْ مِثْلَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةَ: 81، مِنْ هذِهِ السُورَةِ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْنانًا}.
قولُهُ: {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وممَّا يَعْرِشُونَ" أَيْ مَا يَجْعَلُونَهُ عُرُوشًا، وهو جَمْعُ عَرْشٍ، وَهُوَ مَجْلِسٌ مُرْتَفِعٌ عَلَى الْأَرْضِ فِي الْحَائِطِ، أَوِ الْحَقْلِ، يُتَّخَذُ مِنْ أَعْوَادٍ، وَيُسَقَّفُ أَعْلَاهُ بِوَرَقٍ وَنَحْوِهِ، لِيَكُونَ لَهُ ظِلٌّ فَيَجْلِسُ صَاحِبُهُ فوقَهُ مُشْرِفًا عَلَى مَا حَوْلَهُ، وهو ما يُصْنَعُ للملوكِ والسَّلاطِينِ وأرْبابِ الزعاماتِ في العادةِ. ويُقَالُ: عَرَّشَ فلانٌ، إِذَا بَنَى وَرَفَعَ بناءَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ السَّرِيرُ الَّذِي يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهِ الْعُظَمَاءُ عَرْشًا.
قولُهُ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} الوَاوُ: للاسْتِئنافِ، و "أَوْحَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِ الفتحةِ على الأَلِفِ. و "رَبُّكَ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "إِلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلٍّقُ بـ "أوحى"، و "النَّحْلِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ بها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} أَن: حرْفٌ مَصْدَرِيٌ، أَوْ تَفْسيرِيٌّ. و "اتَّخِذِي" فِعْلُ أمرٍّ مبنيٌّ على حذفِ النونِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسَةِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "أَنِ" المَصْدَرِيَّةِ، والياءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اتَّخِذِي"، وهو في مَحَلِّ المَفْعُولِ الثاني. و "الْجِبَالِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "بُيُوتًا" مَفْعُولٌ بِهِ أوَّل لِـ "اتَّخِذِي"، وَ "مِنَ" حرفُ جرٍّ للتَبْعِيضِ؛ إِذْ لا يَتَهَيَّأُ لَهَا ذَلِكَ فِي كُلِّ جَبَلٍ وَلا شَجَرٍ. و "الجِبالِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. وجملةُ "اتَّخِذِي" مَعَ "أَنِ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ، تَقْديرُهُ: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ بِاتِّخاذِها مِنَ الجِبَالِ بُيُوتًا، أَوْ جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ للإيحاءِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "مِنَ الشَّجَرِ" مثلُ قولِهِ: "مِنَ الْجِبَالِ" معطوف عليْهِ. و "ومِمَّا" الواوُ: حرفُ عطف، و "مِن" حَرْفُ جرٍّ معْطوفٌ عَلى "مِن" الأولى، و "ما" موصولةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أوْ هي نَكِرةٌ مَوْصوفةٌ. و "يَعْرِشُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" المَوْصولةِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ إنْ كانتْ نَكِرةً مَوْصوفةً، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: ومِمَّا يَعْرِشُونَهُ.
قرأ العامَّةُ: {النَّحْلِ} بِسُكونِ الحاءِ، وَقَرَأَ يحيى ابْنُ وَثَّابٍ: "النَحَلَ" بِفَتْحِها، فيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً مُسْتَقِلَّةً، وَيُحْتملُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ مِنَ الإِتْبَاعِ.
وَقَرَأَ الجُمْهُورُ: {يَعْرِشُونَ} بِكَسْرِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّها.