وَسَنَذْكُرُ بَعْضَ النُّصُوصِ مِنْ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ فِي ذَلِكَ.
قَالَ خَلِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ الَّذِي قَالَ فِي تَرْجَمَتِهِ مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى مَا نَصُّهُ: وَحَرُمَ اسْتِعْمَالُ ذَكَرٍ مُحَلًّى وَلَوْ مِنْطَقَةً وَآلَةَ حَرْبٍ، إِلَّا السَّيْفَ وَالْأَنْفَ، وَرَبْطَ سِنٍّ مُطْلَقًا، وَخَاتَمَ فِضَّةٍ، لَا مَا بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَلَوْ قَلَّ، وَإِنَاءَ نَقْدٍ وَاقْتِنَاؤُهُ وَإِنْ لِامْرَأَةٍ. وَفِي الْمُغَشَّى، وَالْمُمَوَّهِ، وَالْمُضَبَّبِ، وَذِي الْحَلْقَةِ، وَإِنَاءِ الْجَوْهَرِ، قَوْلَانِ. وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ الْمَلْبُوسُ مُطْلَقًا وَلَوْ نَعْلًا لَا كَسَرِيرٍ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ مَعَ اخْتِلَافٍ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرَهَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ. وَقَالَ صَاحِبُ تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ مَا نَصُّهُ: وَلَا يَتَحَلَّى الرَّجُلُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، إِلَّا بِالْخَاتَمِ وَالْمِنْطَقَةِ وَحِلْيَةِ السَّيْفِ مِنَ الْفِضَّةِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: (فَصْلٌ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنَ الْحُلِيّ)ِ: فَالذَّهَبُ أَصْلُهُ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَعَلَى الْإِبَاحَةِ لِلنِّسَاءِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَمَّا الْفِضَّةُ فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ التَّخَتُّمُ بِهَا، وَهَلْ لَهُ مَا سِوَى الْخَاتَمِ مِنْ حُلِيِّ الْفِضَّةِ: كَالدُّمْلُجِ، وَالسِّوَارِ، وَالطَّوْقِ، وَالتَّاجِ، فِيهِ وَجْهَانِ. قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِالتَّحْرِيمِ. وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي (الْمُقْنِعِ فِي مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ): وَيُبَاحُ لِلرِّجَالِ مِنَ الْفِضَّةِ الْخَاتَمُ، وَفِي حِلْيَةِ الْمِنْطَقَةِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قِيَاسِهَا الْجَوْشَنُ وَالْخُوذَةُ وَالْخُفُّ وَالرَّانُ وَالْحَمَائِلُ. وَمِنَ الذَّهَبِ قَبِيعَةُ السَّيْفِ. وَيُبَاحُ لِلنِّسَاءِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كُلُّ مَا جَرَتْ عَادَتُهُنَّ بِلُبْسِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ. فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ: أَنَّ الْأَئِمَّةَ الْأَرْبَعَةَ فِي الْجُمْلَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَنْعِ اسْتِعْمَالِ الْمُحَلَّى بِالذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ آلَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إِلَّا فِي أَشْيَاءَ اسْتَثْنَوْهَا عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي بَعْضِهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَا يُمْنَعُ لُبْسُ شَيْءٍ مِنَ الْفِضَّةِ. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِهَذَا بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهَا تَحْرِيمٌ. قَالَ صَاحِبُ الْإِنْصَافِ فِي شَرْحِ قَوْلِ صَاحِبِ الْمُقْنِعِ: وَعَلَى قِيَاسِهَا الْجَوْشَنُ وَالْخُوذَةُ إِلَخْ، مَا نَصُّهُ: وَقَالَ صَاحِبُ الْفُرُوعِ فِيهِ: وَلَا أَعْرِفُ عَلَى تَحْرِيمِ الْفِضَّةِ نَصًّا عَنْ أَحْمَدَ. وَكَلَامُ الشَيْخِ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ لُبْسِهَا لِلرِّجَالِ، إِلَّا مَا دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَيْضًا: لُبْسُ الْفِضَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ لَفْظٌ عَامٌّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يُحَرِّمَ مِنْهُ، إِلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، فَإِذَا أَبَاحَتِ السُّنَّةُ خَاتَمَ الْفِضَّةِ دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ مَا فِي مَعْنَاهُ، وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِبَاحَةِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ فِي تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ، وَالتَّحْرِيمُ يَفْتَقِرُ إِلَى دَلِيلٍ، وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ. وَنَصَرَهُ صَاحِبُ الْفُرُوعِ، وَرَدَّ جَمِيعَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْأَصْحَابُ.
الْأَمْرُ الثَّانِي: حَدِيثٌ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فقد روى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ حَلْقَةً مِنْ نَارٍ فَلْيُحَلِّقْهُ حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَلْيُطَوِّقْهُ طَوْقًا مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ سِوَارًا مِنْ نَارٍ فَلْيُسَوِّرْهُ سِوَارًا مِنْ ذَهَبٍ، وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا)) هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. والَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى إِبَاحَةِ لُبْسِ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ. وَمَنِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ لُبْسِ الرِّجَالِ لِلْفِضَّةِ فَقَدْ غَلِطَ، بَلْ مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ الذَّهَبَ كَانَ حَرَامًا عَلَى النِّسَاءِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَى الرِّجَالَ عَنْ تَحْلِيَةِ نِسَائِهِمْ بِالذَّهَبِ، وَقَالَ لَهُمْ: "الْعَبُوا بِالْفِضَّةِ"، أَيْ: حَلُّوا نِسَاءَكُمْ مِنْهَا بِمَا شِئْتُمْ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ نُسِخَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ عَلَى النِّسَاءِ. يَدُلُ عَلى ذلكَ أُمُورٌ:
أَوَّلُها: أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ فِي خِطَابِ الرِّجَالِ بِمَا يَلْبَسُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ بِمَا يُحَلُّونَ بِهِ أَحْبَابَهُمْ، وَالْمُرَادُ نِسَاؤُهُمْ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ فِيهِ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ حَبِيبَهُ" و "أَنْ يُطَوِّقَ حَبِيبَهُ" و "أَنْ يُسَوِّرَ حَبِيبَهُ"، وَلَمْ يَقُلْ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُحَلِّقَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يُطَوِّقَ نَفْسَهُ، وَلَا أَنْ يُسَوِّرَ نَفْسَهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً لَا لَبْسَ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: "فَالْعَبُوا بِهَا"، أَيْ: حَلُّوا بِهَا أَحْبَابَكُمْ كَيْفَ شِئْتُم، لِارْتِبَاطِ آخِرِ الْكَلَامِ بِأَوَّلِهِ.
ثَانِيها: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الرِّجَالِ أَنْ يَلْبَسُوا حِلَقَ الذَّهَبِ، وَلَا أَنْ يَطَّوَّقُوا بِالذَّهَبِ، وَلَا يَتَسَوَّرُوا بِهِ فِي الْغَالِبِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ مَنْ شَأْنُهُ لُبْسُ الْحَلْقَةِ وَالطَّوْقُ وَالسِّوَارُ مِنَ الذَّهَبِ، وَهُنَّ النِّسَاءُ بِلَا شَكٍّ.
ثَالِثُها: أَنَّ أَبَا دَاوُدَ ـ رَحِمَهُ اللهُ، روى بَعْدَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ آخَرَ مُتَّصِلًا بِهِ، عَنْ أُخْتٍ لِحُذَيْفَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ، أَمَا لَكُنَّ فِي الْفِضَّةِ مَا تَحَلَّيْنَ بِهِ، أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تَحَلَّى ذَهَبًا تُظْهِرُهُ إِلَّا عُذِّبَتْ بِهِ)). وروى عنْ مُحَمَّدَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ، أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ حَدَّثَتْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَقَلَّدَتْ قِلَادَةً مِنْ ذَهَبٍ قُلِّدَتْ فِي عُنُقِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ جَعَلَتْ فِي أُذُنِهَا خُرْصًا مِنْ ذَهَبٍ جُعِلَ فِي أُذُنِهَا مِثْلَهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ يَدُلَّانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: مَنْعُ الذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: "فَالْعَبُوا بِهَا" مَعْنَاهُ: فَحَلُّوا نِسَاءَكُمْ مِنَ الْفِضَّةِ بِمَا شِئْتُمْ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الْحَدِيثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ. وَيَدُلُّ لَهُ أَنَّ الْحَافِظَ الْبَيْهَقِيَّ ـ رَحِمَهُ اللهُ، ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: "وَعَلَيْكُمْ بِالْفِضَّةِ فَالْعَبُوا بِهَا"، فِي سِيَاقِ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الذَّهَبِ عَلَى النِّسَاءِ أَوَّلًا دُونَ الْفِضَّةِ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ الْأَحَادِيثَ الدَّالَّةَ عَلَى النَّسْخِ، ثُمَّ قَالَ: وَاسْتَدْلَلْنَا بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى إِبَاحَتِهِ لَهُنَّ عَلَى نَسْخِ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِيهِنَّ خَاصَّةً. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وإِطْلَاقَ الْحَبِيبِ عَلَى الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الشَّخْصِ الْحَبِيبِ مُسْتَفِيضٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
مَنَعَ النَّوْمَ بِالْعِشَاءِ الْهُمُومُ .................... وَخَيَالٌ إِذَا تَغَارُ النُّجُومُمِنْ حَبِيبٍ أَصَابَ قَلْبَكَ مِنْهُ ................. سَقَمٌ فَهُوَ دَاخِلٌ مَكْتُومُوَمُرَادُهُ بِالْحَبِيبِ أُنْثَى، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:لَمْ تَفُتْهَا شَمْسُ النَّهَارِ بِشَيْءٍ ............. غَيْرِ أَنَّ الشَّبَابَ لَيْسَ يَدُومُوَمنهُ قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:لَئِنْ كَانَ بَرْدُ الْمَاءِ هَيْمَانَ ............... صَادِيًا إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لَحَبِيبُوَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. والَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كِتَابِ اللهِ تعالى، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ لُبْسَ الْفِضَّةِ حَرَامٌ عَلَى الرِّجَالِ، وَأَنَّ مَنْ لَبِسَهَا مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهَا فِي الْآخِرَةِ. وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْبُخَارِيَّ روى فِي بَابِ: (لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ وَقَدْرِ مَا يَجُوزُ مِنْهُ) مِنْ صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَسْقَى فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِي إِنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ))، فَقَوْلُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَرِيرُ: وَالدِّيبَاجُ، هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ"، يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ تَحْرِيمُ لُبْسِ الْفِضَّةِ، لِأَنَّ الثَّلَاثَ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهَا يَحْرُمُ لُبْسُهَا بِلَا خِلَافٍ. وَمَا شَمِلَهُ عُمُومُ نَصٍّ ظَاهِرٍ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إِلَّا بِنَصٍّ صَالِحٍ لِلتَّخْصِيصِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ وَارِدٌ فِي الشُّرْبِ فِي إِنَاءِ الْفِضَّةِ لَا فِي لُبْسِ الْفِضَّةِ؟. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ الْأَلْفَاظِ لَا بِخُصُوصِ الْأَسْبَابِ، لَا سِيَّمَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ مَا لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ اللُّبْسِ: كَالْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ. فَإِنْ قِيلَ: جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ مَا يُفَسِّرُ هَذَا، وَيُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفِضَّةِ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهَا لَا لُبْسُهَا، روى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ)، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أَرْمِهِ، إِلَّا أَنِّي نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: "هُنَّ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ"، "بَابُ آنِيَةِ الْفِضَّةِ". فَدَلَّ هَذَا التَّفْصِيلُ الَّذِي هُوَ النَّهْيُ عَنِ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالنَّهْيُ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِمَا فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، وَإِذَنْ فَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَنْعِ لُبْسِ الْفِضَّةِ، لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ بِهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْمُرَادَ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهَا لَا لُبْسُهَا، لِأَنَّ الْحَدِيثَ حَدِيثٌ وَاحِدٌ. فَالْجَوَابُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّوَايَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ عَامَّةٌ بِظَاهِرِهَا فِي الشُّرْبِ وَاللُّبْسِ مَعًا، وَالرِّوَايَاتُ الْمُقْتَصِرَةُ عَلَى الشُّرْبِ فِي آنِيَتِهَا دُونَ اللُّبْسِ ذَاكِرَةٌ بَعْضَ أَفْرَادِ الْعَامِّ، سَاكِتَةٌ عَنْ بَعْضِهَا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بِحُكْمِ الْعَامِّ لَا يُخَصِّصُهُ. وَهُوَ الْحَقُّ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ التَّفْصِيلَ الْمَذْكُورَ لَوْ كَانَ هُوَ مُرَادَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَانَ الذَّهَبُ لَا يَحْرُمُ لُبْسُهُ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الشُّرْبُ فِي آنِيَتِهِ فَقَطْ، صَحِيحِهِ كَمَا زَعَمَ مُدَّعِي ذَلِكَ التَّفْصِيلِ فِي الْفِضَّةِ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ الَّتِي فِيهَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ: "لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّة"، فَظَاهِرُهَا عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَلُبْسُ الذَّهَبِ حَرَامٌ إِجْمَاعًا عَلَى الرِّجَالِ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَقْوَاهَا، وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ فَهِمَهُ حَقَّ الْفَهْمِ أَنْ يَعْدِلَ عَنْهُ، لِظُهُورِ وَجْهِهِ، هُوَ: أَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذَا الْحَدِيث الشريفِ، الَّتِي هِيَ: الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْحَرِيرُ، وَالدِّيبَاجُ، صَرَّحَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا لِلْكُفَّارِ فِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِي الْآخِرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَمْتَعَ بِهَا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَسْتَمْتِعْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَدْ صَرَّحَ ـ جَلَّ جلَالُهُ، فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَمَتَّعُونَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الشَّرَابُ فِي آنِيَتِهِمَا. وَالثَّانِيَةُ: التَّحَلِّي بِهِمَا. وَبَيَّنَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ بِالْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ لُبْسُهَا، وَحُكْمُ الِاتِّكَاءِ عَلَيْهِمَا دَاخِلٌ فِي حُكْمِ لُبْسِهِمَا. فَتَعَيَّنَ تَحْرِيمُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ. وَتَحْرِيمُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ مِنَ الْجِهَةِ الْوَاحِدَةِ، لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الثَّابِتِ فِي الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ: "هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ"، لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ التَّمَتُّعُ بِالْفِضَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لَكَانَ ذَلِكَ مُعَارِضًا لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ". والدِّيبَاجُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي كِتَابِ اللهِ بِالسُّنْدُسِ وَالْإِسْتَبْرَقِ. فَالسُّنْدُسُ: رَقِيقُ الدِّيبَاجِ. وَالْإِسْتَبْرَقُ: غَلِيظُهُ. وقد بَيَّنَ ـ جَلَّ وَعَلَا، تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلُبْسِ الذَّهَبِ وَالدِّيبَاجِ الَّذِي هُوَ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ، فقَالَ: {أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَق}ٍ الْآيَةَ: 31، فَمَنْ لَبِسَ الذَّهَبَ وَالدِّيبَاجَ فِي الدُّنْيَا مُنِعَ مِنْ هَذَا التَّنَعُّمِ بِهِمَا الْمَذْكُورِ فِي سورةِ الْكَهْفِ. كما ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَجِّ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ، فقَالَ: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} الآيتان: (23 و 24). وَبَيَّنَ أَيْضًا تَنَعُّمَهُمْ بِلُبْسِ الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ، فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} الْآيَةَ 33، وَذَكَرَ في سورةِ الإنسانِ تَنَعُّمَهُمْ بِلُبْسِ الْحَرِيرِ فقَال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} الآية: 12، وَقالَ فِي سورةِ الدُّخَانِ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} الْآيَاتِ: (51 ـ 53)، وَذَكَرَ في سورةِ الرحمنِ تَنَعُّمَهُمْ بِالِاتِّكَاءِ عَلَى الْفُرُشِ الَّتِي بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فقال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ}. الْآيَةَ: 54. وَذَكَرَ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِلُبْسِ الدِّيبَاجِ، الَّذِي هُوَ السُّنْدُسُ وَالْإِسْتَبْرَقُ وَلُبْسِ الْفِضَّةِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ أَيْضًا، فقَالَ: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} الآية: 21. وَذَكَرَ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ، فقال: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} الْآيَةَ: 71، وَذَكَرَ تَنَعُّمَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الْفِضَّةِ فِي سُورَةِ الْإِنْسَانِ أَيضًا، فقَال: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا * وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا * عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} الآيات: (15 ـ 18)، فَمَنْ تنعَّمَ بهذِهِ الأَشْياءِ في الدُنْيا حُرِمَها في الآخِرَةِ لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المتقدِّمِ: "هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ"، فَلَوْ أُبِيحَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِهذا الحَديثِ الشَّريفِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} الْفُلْكَ: السُّفُنَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَعَلَى الْجَمْعِ، فإذا أُطْلِقَ عَلَى الْوَاحِدِ ذُكِّرَ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمْعِ أُنِّثَ، فَقدْ أُطْلِقَ عَلَى الْجَمْعِ مُؤَنَّثًا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآيَةَ: 164، وَأُطْلِقَ عَلَى الْمُفْرَدِ مُذَكَّرًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} الآيَتَانِ: (41 و 42). وَ "مَوَاخِرَ"، جَمْعُ مَاخِرَةٍ، وَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ، مِنْ مَخَرَتِ السَّفِينَةُ تَمْخَرُ (بِالْفَتْحِ) وَتَمْخُرُ (بِالضَّمِّ) مَخْرًا وَمُخُورًا: جَرَتْ فِي الْبَحْرِ تَشُقُّ الْمَاءَ مَعَ صَوْتٍ. وَقِيلَ: اسْتَقْبَلَتِ الرِّيحَ فِي جَرْيَتِهَا. وَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الِامْتِنَانَ بِشَقِّ أَمْوَاجِ الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، فقَالَ مِنْ سُورةِ يَس: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} الْآيَةَ: 42، وَقَالَ مِنْ سُورةِ إِبْراهيم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} الآية: 32.
قولُهُ: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِهِ بِأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ بِوَاسِطَةِ الْحَمْلِ عَلَى السُّفُنِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: "وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ"، أَيْ: كَأَرْبَاحِ التِّجَارَاتِ. وَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ الِامْتِنَانَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآية: 164، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ فَاطِرٍ: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآية: 12، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الْجَاثِيَةِ: {اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآيةَ: 12، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْأَظْهَرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ"، أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا"، وَ "لَعَلَّ" هُنَا لِلتَّعْلِيلِ.
قولُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} شُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: هُوَ اسْتِعْمَالُهُ نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ فِي طَاعَتِهِ وطلَبِ مَرضاتِهِ، وَمَنْ يَسْتَعِينُ بِنِعَمِ اللهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ فَهُوَ كَفُورٌ كَنُودٌ جَحُودٌ. وَأَمَّا شُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ كَقَوْلِهِ في الآية: 158، مِنْ سورةِ البقرة: {فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، وَقَوْلِهِ {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} الآية: 34، مِنْ سُورةِ فاطر، فهُوَ أَنْ يُثِيبَ عَبْدَهُ الثَّوَابَ العظيمَ الْجَزِيلَ، عَلَىَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ الضَئيلِ. وَاللهُ تَعَالى أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، وَ "هُوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ الظاهِرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وَ "الَّذِي" هو اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ "هو"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "سَخَّرَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ الظاهِرِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصولِ، و "الْبَحْرَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذي" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ أَيْضًا.
قولُهُ: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} لِتَأْكُلُوا: اللامُ: هيَ لامُ "كَيْ"، حَرْفُ جَرٍّ للتَعليلِ، مُتَعَلِّقٌ بِالفِعْلِ "سَخَّرَ". و "تَأْكُلوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ "كَيْ"، وعَلامَةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ بِهُ، والأَلِفُ هِيَ الفارِقَةُ. و "مِنْهُ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ لابْتِداءِ الغَايَةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَأْكُلُوا"، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، في مَحَلِّ الجَرَّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "لَحْمًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، و "طَرِيًّا" صِفَةٌ لِـ "لَحْمًا" مَنْصُوبٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللَّامِ، والتَقْديرُ: لِأَكْلِكُمْ مِنْهُ.
قولُهُ: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "تَسْتَخْرِجُوا" مثلُ "تَأْكُلوا" مَعطوفٌ عَلَيْهِ، و "مِنهُ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَسْتَخْرِجُوا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "حِلْيَةً" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ. و "تَلْبَسُونَهَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، وجُمْلَةُ "تَلْبَسُونَهَا" صِفَةٌ لِـ "حِلْيَةً" في مَحَلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} الوَاوُ: للاعتراضِ، و "تَرَى" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى آخِرِهِ لِتَعذُّرِ ظُهورِها عَلى الأَلِفِ، وفاعلُهُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ)، يَعودُ عَلى المُخاطَبِ. و "الْفُلْكَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، و "مَوَاخِرَ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الْفُلْكَ"، ولم ينوَّنْ لكونِهِ ممْنوعًا مِنَ الصَّرفِ لأنَّهُ على وزْنِ (مساجد)، وَ "رَأَى" هُنَا بَصَرِيَّةٌ فتَتَعَدَى لِمَفْعولٍ واحِدٍ. و "فِيهِ" حرفُ جرٍّ مُتَعلِّقٌ بِـ "مَوَاخِرَ". والجملةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُعْتَرِضَةٌ، لاعْتِراضِها بَيْنَ المَعْطوفِ الذي هوَ "لِتَبْتَغوا" والمَعْطوفِ عَلَيْهِ الذي هوَ "لِتَأْكُلُوا"، فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "لِتَبْتَغُوا" لها مِثْلُ ما لقولِهِ: "لِتَأْكُلُوا"، معطوفٌ عليْهِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِهِ، و "فضلِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِالإضافةِ إِليْهِ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلةِ قولِهِ: "لِتَأْكُلُوا مِنْهُ".
قولُهُ: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "لَعَلَّكُمْ" لَعَلَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ عَلامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، و "تَشْكُرونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، وجُمْلَةُ "تَشْكُرُونَ" في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لَعَلَّ"، وجُمْلَةُ "لَعَلَّ" مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلةِ "لِتَأْكُلُوا" لأَنَّها تَعْليلِيَّةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.