وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} بُيُوتِكُمْ: البُيُوتُ، والبِيُوتُ: جَمْعُ بَيْتٍ، فيَجُوزُ فِيهِ ضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ وَكَسْرُهَا. وَضَمُّ الْمُوَحَّدَةِ هُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِ فُعُولٌ، وَهُوَ مُطَّرِدٌ فِي جَمْعِ ما جَاءَ عَلَى وَزْنِ (فَعْلٍ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ. وَأَمَّا لُغَةُ كَسْرِ الْبَاءِ، فَلِمُنَاسَبَةِ وُقُوعِ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ الْمَضْمُومَةِ، لِأَنَّ الِانْتِقَالَ مِنْ حَرَكَةِ الضَّمِّ إِلَى النُّطْقِ بِالْيَاءِ ثَقِيلٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ لَا يَعْرِفُونَ الْكَسْرَ (أَيْ لَا يَعْرِفُونَهُ لُغَةً) وَبَيَّنَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسيُّ جَوَازَهُ. وفي هذهِ الآيةِ الكريمةِ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ، وَأَقْسَامِ النِّعَمِ والفَضْلِ يُذَكِّرُنا بِهَا مَوْلانَا ـ عَزَّ وجلَّ، عَطْفًا عَلَى قولِهِ: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} الآيةَ: 78، مِنْ هَذِهِ السُورَةِ المباركةِ. فقد أَلْهَمَ اللهُ الْإِنْسَانَ، أَنْ يَصْنَعَ الْمَنَازِلَ الْوَاقِيَةَ وَالْمُرَفَّهَةِ، وَمَا يُشْبِهُهَا مِنَ الثِّيَابِ وَالْأَثَاثِ، وَكُلُّهَا مِنَ الْأَلْطَافِ الَّتِي أَعَدَّ اللهُ لَهَا عَقْلَ الْإِنْسَانِ وَهَيَّأَ لَهُ وَسَائِلَهَا. فَجَعَلَ اللهُ لِلنَّاسِ بُيُوتَهُمْ سَكَنًا لَهُمْ يَأْوُونَ إِلَيْهَا، وَيَسْتَتِرُونَ بِهَا، وَيَنْتَفِعُونَ مِنْهَا. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا" قَالَ: تَسْكُنُونَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا" قَالَ: تَسْكُنُونَ وَتَقِرُّونَ فِيهَا. وَالسَّكَنُ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَسْكُونِ. وَالسُّكْنَى: مَصْدَرُ سَكَنَ فُلَانٌ الْبَيْتَ، إِذَا جَعَلَهُ مَقَرًّا لَهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، أَيِ الْقَرَارِ، وَأَنْشَدُوا عَليْهِ:
جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَنًا .......... يَا وَيْحَ كَفِّيَ مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ
قولُ الشَّاعِرِ (القراميصُ): هو جَمْعُ قُرْمُوصٍ وَقِرْماصٍ، وَهُوَ حُفْرَةٌ صَغِيرَةٌ يَحْفُرُها الإِنْسانُ في الشِتَاءِ لِيُوقِدَ فِيها النَّارَ أَوْ لِيَأْوِي إِلَيْهَا، وَيَسْتَكِنَّ فِيها فيَسْتَدْفِئ مِنْ بَرْدِ الشِتَاءِ.
واتِّخَاذُ الْمَسَاكِنِ أَصْلُ حِفْظِ النَّوْعِ البَشَرِيِّ مِنْ غَوَائِلِ حَوَادِثِ الْجَوِّ، مِنْ شِدَّةِ بَرْدٍ، أَوْ حَرٍّ، وَمِنْ أَخْطارِ السِّبَاعِ وَالْهَوَامِ. وَهِيَ أَيْضًا أَصْلُ الْحَضَارَةِ وَالتَّمَدُّنِ لِأَنَّ الْبُلْدَانَ وَمَنَازِلَ الْقَبَائِلِ تَتَقَوَّمُ مِنِ اجْتِمَاعِ الْبُيُوتِ. وَأَيْضًا تَتَقَوَّمُ مِنْ مُجْتَمَعِ الْحُلَلِ وَالْخِيَامِ.
وَالسَّكَنُ أَيضًا كلُّ مَا سَكَنْتَ إِلَيْهِ وَمَا سَكَنْتَ فِيهِ. والسَّكَنُ بِوِزْنِ "فَعَلٍ" هو بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ"، وَهُوَ مَا يُنْقَطَعُ إِلَيْهِ ويُسْكَنُ، مِنْ بَيْتٍ، أَوْ إِلْفٍ وعَشيرٍ. والْبُيُوتَ الَّتِي يَسْكُنُ الْإِنْسَانُ فِيهَا عَلَى نوعَيْنِ: بُيُوتٌ مُتَّخَذَةٌ مِنَ الحَجَرِ والإِسْمنْتِ، أَوْ مِنَ الطِّينِ والْخَشَبِ، وَمَا تُسْقَفُ بِهِ الْبُيُوتِ. وَإِلَيْهَا أَشَارَ تَعَالى بِقَوْلِهِ: "وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا". وخِيَامٌ وَفَسَاطِيطُ، وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالى: "وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتًا". وَقَدْ تَعْمَلُ الْعَرَبُ الْبُيُوتَ مِنَ جُلُودِ الْأَنْعَامِ.
قولُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} وَجَعَلَ اللهُ لَكمْ مِمَّا عَلَى جُلُودِ الأَنْعَامِ مِنْ أَشْعَارٍ وَأَصْوَافٍ وَأَوْبَارٍ، أَوْ جَعَلَ لَكمْ مِنْ جُلُودِهَا بُيُوتًا، فَقَدْ يَكُونُ الْمُحِيطُ بِالْبَيْتِ مُتَّخَذًا مِنْ أَدِيمٍ مَدْبُوغٍ، وَيُسَمَّى عِنْدَ ذَلِكَ بالْقُبَّةَ. وَقَدْ يَكونُ مِنْ أَثْوَابٍ تُنْسَجُ مِنْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ صُوفٍ وَيُسَمَّى الْخَيْمَةَ أَوِ الْخِبَاءَ، وَكُلُّهَا يَكُونُ بِشَكْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْهَرَمِيِّ، تَلْتَقِي شُقَّتَاهُ، أَوْ شُقَقُهُ مِنْ أَعْلَاهُ مُعْتَمِدَةً عَلَى عَمُودٍ، وَتَنْحَدِرُ مِنْهُ مُتَّسِعَةً عَلَى شَكْلٍ مَخْرُوطٍ. وَهَذِهِ بُيُوتُ الْأَعْرَابِ فِي الْبَوَادِي أَهْلِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ يَتَّخِذُونَهَا لِأَنَّهَا أَسْعَدُ لَهُمْ فِي انْتِجَاعِهِمْ، فَيَنْقُلُونَهَا مَعَهُمْ إِذَا انْتَقَلُوا يَتَتَبَّعُونَ مَوَاقِعَ الْكَلَأِ لِأَنْعَامِهِمْ وَالْكَمْأَةِ لِعَيْشِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا" وَهِيَ خَيَامُ الْأَعْرَابِ.
قولُهُ: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} يَسْتَخْفُونَ حَمْلَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ وَفِي إِقَامَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَتَسْتَخِفُّونَها" يَقُول فِي الْحَمْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ" قَالَ بَعْضُ: بُيُوتِ السَّيَّارَةِ فِي سَاعَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: "وأَوْبارِها" قَالَ: الْإِبِلِ. وَ "أَشْعَارهَا" قَالَ: الْغَنَم.
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِي تَسْتَخِفُّونَها لِلْوِجْدَانِ، أَيْ تَجِدُونَهَا خَفِيفَةً، أَيْ خَفِيفَةَ الْمَحْمَلِ حِينَ تَرْحَلُونَ، إِذْ يَسْهُلُ نَقْضُهَا مِنْ مَوَاضِعِهَا وَطَيُّهَا وَحَمْلُهَا عَلَى الرَّوَاحِلِ، وَحِينَ تُنِيخُونَ إِنَاخَةَ الْإِقَامَةِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُنْتَقَلِ إِلَيْهِ فَيَسْهُلُ ضَرْبُهَا وَتَوْثِيقُهَا فِي الْأَرْضِ. وَالظَّعْنُ: هُوَ السَيْرُ في الْبَادِيَةِ لِنُجْعَةٍ، أَوْ جِوارِ مَاءٍ، أَوْ طَلَبِ مَرْتَعٍ، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلِّ شَاخِصٍ لِسَفَرٍ: ظَاعِنٌ، وَهُوَ ضِدُّ الْخَافِضِ. وَقَوْلُهُ: "وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ" بِمَعْنَى لَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.
قَوْلُهُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا} وجَعَلَ اللهُ النَّاسَ يَتَخِّذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الأَغْنَامِ وَأَوْبَارِ الجِمَالِ، وَأَشْعَارِ المَاعِزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِهِمْ. أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءَ بْنِ رَباحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَةِ الْعَرَبِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: "وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبارِهَا" وَمَا جَعَلَ اللهُ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَكْثَرُ، وَلَكنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ وَبَرٍ وَشَعَرٍ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} الآيةَ: 81، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ، وَمَا جَعَلَ مِنَ السَّهْلِ أَعْظَمُ وَأكْثَرُ، وَلَكنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَاب جِبَالٍ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} الآيةَ: : 81، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ، وَمَا يَقِي الْبَرْدَ أَعْظَمُ وَأكْثَرُ وَلَكنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ. أَلا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} الآية: 43، مِنْ سُورةِ النُّورِ، يَعَجِّبُهم بِذَلِكَ، وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ، وَلَكنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ. وَالْأَثَاثُ ـ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، اسْمُ جَمْعٍ لِلْأَشْيَاءِ الَّتِي تُفْرَشُ فِي الْبُيُوتِ مِنْ وَسَائِدَ وَبُسُطٍ وَزَرَابِيِّ، وَثِيَابًا يَلْبَسُونَهَا، وَمَالًا لِلتِّجَارَةِ، وَكُلُّهَا تُنْسَجُ أَوْ تُحْشَى بِالْأَصْوَافِ وَالْأَشْعَارِ وَالْأَوْبَارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "أَثاثًا" يُرِيدُ طَنَافِسَ وَبُسُطًا وَثِيَابًا وَكُسْوَةً. والْأَصْوَافُ لِلضَّأْنِ، وَالْأَوْبَارُ لِلْإِبِلِ، وَالْأَشْعَارُ لِلْمَعِزِ، قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ. وَالْأَثَاثُ أَنْوَاعُ: مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ. وَلَا وَاحِدَ لَهُ، وَلَوْ جَمَعْتَ، فَقُلْتَ: آثِثَةٌ فِي الْقَلِيلِ وَأُثُثٌ فِي الْكَثِيرِ لَمْ يَبْعُدْ، قالَهَ الفَرَّاءُ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: "أَثاثًا" وَاحِدُهَا أَثَاثَةٌ. وقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدٍ الفَرَاهِيدِيُّ: أَصْلُهُ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَثَّ النَبَاتُ وَالشَّعْرُ: إِذا كَثُرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ الرازيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "أَثاثًا" قَالَ: الأَثاثُ، المَالُ.
قولُهُ: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} وَمَتَاعًا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى أَنْ تَحِينَ آجَالُهُمْ. فَقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "ومَتَاعًا إِلَى حِينٍ" قَالَ: إِلَى أَجَلٍ وَبُلْغَةٍ. وَقِيلَ: "إِلى حِينٍ" يُرِيدُ إِلَى حِينِ الْبِلَا، وَقِيلَ: إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. فقد وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَ "مَتَاعًا إِلَى حِينٍ" قَالَ: إِلَى الْمَوْتِ. وَقِيلَ: إِلى حِينٍ بَعْدَ الحِينِ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَ "مَتَاعًا إِلَى حِينٍ" يَقُولُ تَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلَى حِينٍ. والْمَتَاعُ: لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ جنسِهِ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْأَثَاثِ، فَيَشْمَلُ الْأَعْدَالَ وَالْخَطْمَ وَالرَّحَائِلَ وَاللُّبُودَ وَالْعُقُلَ وغيرِ ذَلِكَ. فَالْمَتَاعُ: مَا يُتَمَتَّعُ بِهِ وَيُنْتَفَعُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُتَعِ، وَهُوَ الذَّهَابُ بِالشَّيْءِ، وَلِمُلَاحَظَةِ اشْتِقَاقِهِ تَعَلَّقَ بِهِ إِلَى حِينٍ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْمُتَعَلِّقِ الْوَعْظُ بِأَنَّهَا أَوْ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى زَوَالٍ يَحُولُ دُونَ الِانْتِفَاعِ بِهَا لِيَكُونَ النَّاسُ عَلَى أُهْبَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ لِلْآخِرَةِ فَيَتْبَعُوا مَا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى. كَمَا قَالَ تعالى في الآيةَ: 20، مِنْ سُورَةِ الْأَحْقَافِ: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها}. وقد عَطَفَ الْمَتَاعَ عَلَى الْأَثَاثِ مَعَ أَنَّ الْعَطْفُ يَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، لأَنَّ الْأَثَاثَ مَا يَكْتَسِي بِهِ الْمَرْءُ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي الْغِطَاءِ وَالْوِطَاءِ، وَالْمَتَاعَ مَا يُفْرَشُ فِي الْمَنَازِلِ ويُزَيَّنُ بِهِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} الواوُ: للاسْتِئنافِ، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهُ" مَرْفُوعٌ بِالابْتِداءِ. و "جَعَلَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "الله" تعالى. و "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلَ"، وَكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلَ" أَيْضًا، وهوَ في مَحَلِّ المَفْعُولِ الثاني، أَوْ الحَالِ مِنْ "سَكَنًا"؛ لأَنَّهُ صِفَةُ نَكَرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ وَ "مِنْ" هُنَا بَيَانِيَّةٌ بَيَّنَتِ البُيوتَ، ويَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ ابْتِدَائِيَّةً، فَيَكُونُ الْكَلَامُ مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ بِتَنْزِيلِ الْبُيُوتِ مَنْزِلَةَ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ السَّكَنِ. وَأَصْلُ التَّرْكِيبِ: وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ بُيُوتَكُمْ سَكَنًا، وَ "بُيُوتِكُمْ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهُوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ هُنَا ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "سَكَنًا" مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلٌ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا أَوَّلَ عَلى أَنَّ الجَعْلَ بِمَعْنَى التَصْيِيرِ، والمَفْعُولُ الثاني أَحَدُ الجَارَّيْنِ قَبْلَهُ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ الجَعْلُ بِمَعْنَى الخَلْقِ فَيَتَعَدَّى لِواحِدٍ. وَجُمْلَةُ "جَعَلَ" الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، والجملةُ إعرابُها كإعرابِ سابِقَتِهَا مَعْطوفةٌ عَلَيْها.
قولُهُ: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} تَسْتَخِفُّونَهَا: فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةُ لِـ "بُيُوتًا". و "يَوْمَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الزَمَانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَسْتَخِفُّونَ"، وهو مُضَافٌ. وَ "ظَعْنِكُمْ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، مُضافٌ أَيْضًا، وكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المذكَّر. و "يَوْمَ إِقَامَتِكُمْ" مثلُ "يَوْمَ ظَعْنِكُمْ" مَعْطوفٌ عَلَى الظَّرْفِ الأَوَّلِ.
قولُهُ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلَ" المُقَدَّرِ، و "أَصْوَافِهَا" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضَافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا" مَعْطوفانِ عَلَى "أَصْوَافِهَا". و "أَثَاثًا" مَعْطُوفٌ عَلَى "سَكَنًا"، وَقالَ العُكْبُرِيُّ قَدْ فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَرْفِ العَطْفِ بالجَارِّ والمَجْرُورُ وَهوَ قوْلُهُ: "وَمِنْ أَصْوَافِهَا"، وَلَيْسَ بِفَصْلٍ مُسْتَقْبَحٍ كَمَا زُعِمَ لِأَنَّ محلَّ الجَارِّ هُنَا هو المَفْعُوليَّةِ، وتَقْديمُ مَفْعُولٍ عَلَى مَفْعولٍ قِياسِيٌّ. وَ "مَتَاعًا" مَعْطوفٌ عَلَى "أَثَاثًا" و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "أَثَاثًا وَمَتَاعًا"؛ أَيْ؛ مُنْتَفِعينَ بِهِمَا إِلى حِينِ انْقِضاءِ الحاجَةِ إِلَيْهِما، "حِينٍ" مجرورٌ بحرفٍ الجرَّ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {بِيُوتِكمْ} بِكَسْرِ البَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، "بُيوتِكم" بِضَّمِّ الباءِ. وقدْ تَقَدَّمَ توجيهُ القراءتينِ في التَفْسِيرِ.
قرأَ الجمهورُ: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} بسُكونِ الْعَيْنِ. وقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "يَوْمَ ظَعَنِكُمْ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ. قَالَ الْوَاحَدِيُّ: وَهُمَا لُغَتَانِ كَالْشَّعْرِ وَالشَّعَرِ، والنَّهَرِ والنَّهْرِ. وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الأَصْلَ الفَتْحُ، والسُّكونُ تَخْفيفٌ لأَجْلِ حَرْفِ الحَلْقِ.