سُورَةُ النَّحْلِ (16)
سُمِّيتْ عندَ السلَفِ بِـ (سُورَةُ النَّحْلِ) لذَكْرِ النَّحْلِ فِيهَا وَهُوَ اسْمُهَا الْمَشْهُورُ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ النَّحْلِ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى. وتُسَمَّى أَيْضًا (سُورَةُ النِّعَمِ) ـ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ، رُوِيَ ذلكَ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، وذلكَ لِمَا عَدَّدَ اللهُ فِيها مِنَ نِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ. ويَدُورُ الكلامُ فِيها حولَ ذِكْرِ النِّعَمِ وبَيَانِ مَظَاهِرِ القُدْرَةِ، ونِقاشِ المُشْرِكِينَ في عَقَائدِهِمْ، مَعَ التَعَرُّضِ لِيَوْمِ القِيامَةِ وَمَا فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ في آخِرِ السُّورَةِ السَّابَقَةِ المُسْتَهْزِئينَ المُكَذِّبِينَ، وَذَكَرَ المَوْتَ، وَقالَ: {لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعينَ}، وكُلُّ ذَلِكَ يَتَنَاسَبُ هُنَا مَعَ أَوَّلِ السُّورَةِ هذِهِ.
عَدَدُ آياتِها مِئَةٌ وثَمانِيَةٌ وعِشْرونَ آيَةً بِلَا خِلَافٍ. وَوَقَعَ لِلْخَفَاجِيِّ عَنِ الدَّانِيِّ أَنَّهَا نَيِّفٌ وَتِسْعُونَ. وَلَعَلَّهُ خَطَأٌ أَوْ تَحْرِيفٌ أَوْ نَقْصٌ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِلَّا ثَلاثَ آياتٍ منْ آخِرِها، عَلى الأَرْجَحِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحاقَ، وابْنُ جَريرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسارٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّحْلِ كُلُّهَا بِمَكَّةَ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا، نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، بَعْدَ أُحُدٍ حِينَ قُتِلَ حَمْزَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَئِنْ أَظْهَرَني اللهُ عَلَيْهِمْ لأُمَثِّلَنَّ بِثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ))، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ قَالُوا: وَاللهِ لَئِنْ ظَهَرْنَا عَلَيْهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ قَطُّ، فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. تَفْسِيرُ الطبريِّ: (14/132). وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ نَزَلَتِ النَّحْلُ كُلُّهَا بِمَكَّةَ إِلَا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} إِلَى آخِرِهَا. وأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ النَّحْلِ بِمَكَّةَ. وأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ الزُبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مِثْلَهُ. وأَخْرَجَ أبو جعْفرٍ النَحَّاسُ مِنْ طَريقِ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قالَ: سُورَةُ النَّحْلِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ سِوَى ثَلاثِ آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا فإنَّهُنَّ نَزَلْنَ بَيْنَ مَكَّةَ والمَدينَةِ في مُنْصَرَفِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مِنْ أُحُدٍ. وعليهِ فقَد نَزَلَتْ فِي نَسْخِ عَزْمِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى أَنْ يُمَثِّلَ بِسَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنْ أَظْفَرَهُ اللهُ بِهِمْ مُكَافَأَةً عَلَى تَمْثِيلِهِمْ بِحَمْزَةَ. وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَوَّلَهَا مَكِّيٌّ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} الآيةَ: 41، مِنْهَا فَهُوَ مَدَنِيٌّ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. وَسَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 79، مِنْها: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ} مَا يُرَجِّحُ أَنَّ بَعْضَ السُّورَةِ مَكِّيٌّ وَبَعْضَهَا مَدَنِيٌّ، وَبَعْضَهَا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 110منها: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا}، وَبَعْضَهَا مُتَأَخِّرُ النُّزُولِ عَنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} الآية: 118، يَعْنِي بِمَا قَصَّ مِنْ قَبْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية: 146، سُورَة الْأَنْعَامِ، الْآيَاتِ. وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَرَأْتُهَا عَلَى أَبِي طَالِبٍ فَتَعَجَّبَ وَقَالَ: يَا آلَ غَالِبٍ اتَّبِعُوا ابْنَ أَخِي تُفْلِحُوا فوَ اللهَ إِنَّ اللهَ أَرْسَلَهُ لِيَأْمُرَكُمْ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. وَرَوَى الإمامُ أَحْمَدُ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي وَأَحْبَبْتُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْرَهُ اللهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوْضِعِهَا هَذَا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَقد نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَقَبْلَ سُورَةِ (الم) السَّجْدَةِ. وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةُ وَالسَّبْعِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ.
أَغْرَاضُهَا:
مُعْظَمُ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السُّورَةُ إِكْثَارٌ مُتَنَوِّعُ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى فَسَادِ دِينِ الشِّرْكِ وَإِظْهَارِ شَنَاعَتِهِ. وَأَدِلَّةُ إِثْبَاتِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ. وَإِنَّ شَرِيعَةَ الْإِسْلَامِ قَائِمَة على أُصُولِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَإِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، فَابْتُدِئَتْ بِالْإِنْذَارِ مِنِ اقْتَرَبَ حُلُولُ مَا أُنْذِرَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ العَذَابِ الَّذِي كانوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ، وَتَلَاهُ تَقْريعُ الْمُشْرِكِينَ وَزَجْرُهُمْ عَلَى تَصَلُّبِهِمْ فِي شِرْكِهِمْ باللهِ تعالى وَتَكْذِيبِهِمْ لنَبِيِّهِ ـ عليْهِ صلاةُ اللهِ وسلامُهُ. وَانْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ فَابْتُدِئَ بِالتَّذْكِيرِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَمَا فِي السَّمَاءِ مِنْ شَمْسٍ وَقَمَرٍ وَنُجُومٍ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ أُنَاسٍ وَحَيَوَاناتٍ وَنَبَاتاتٍ وسهولٍ وَجِبَالٍ وَبِحَارٍ ووديانٍ وأَنْهارٍ، وَأَعْرَاضِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وأَوصافهِما. وَمَا فِي أَطْوَارِ الْإِنْسَانِ وَأَحْوَالِهِ مِنَ الْعِبَرِ والحِكَمِ والدَّلالاتِ.
وَخُصَّتِ النَّحْلُ وَثَمَرَاتُهَا بِالذِّكْرِ لِوَفْرَةِ مَنَافِعِ عَسَلِهَا، وَالِاعْتِبَارِ بِإِلْهَامِهَا إِلَى تَدْبِيرِ بُيُوتِهَا وَإِفْرَازِ شَهْدِهَا، ودقَّةِ نِظامِها الذي تَفوقُ البشريَّةِ بالتزامِها بِهِ، ولذلكَ يُعَدُّ مُجتمعُ النَّحْلِ منْ أرقى المجتمعاتِ نظامًا.
والتَّنْويهُ بالْقُرْآنِ وَتَنْزِيهُهُ عَنِ اقْتِرَابِ الشَّيْطَانِ مِنْهُ، وَإِبْطَالِ افْتِرَاءاتِ المُشْرِكِينَ عَلَى الْقُرْآنِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَأَنَّهُ تَكْوِينٌ كَتَكْوِينِ الْمَوْجُودَاتِ، فالذي ابْتَدَأَها قادرٌ على إعادَتِها كما خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ.
وَالتَّحْذِيرُ مِمَّا حَلَّ بِالْأُمَمِ الَّتِي أَشْرَكَتْ بِاللهِ وَكَذَّبَتْ رُسُلَهُ ـ عَلَيْهِمُ صلاةُ اللهِ وسَلَامُهُ، مِنْ عَذَابٍ في الدُّنْيَا وَمَا يَنْتَظِرُهُمْ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقَابَلَ ذَلِكَ بِضِدِّهِ مِنْ نَعِيمِ المؤمنينَ الْمُتَّقِينَ الْمُصَدِّقِينَ، الصَّابِرِينَ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ وجاهَدُوا في سبيلِهِ، وَصَبَرُوا على ما لاقوا مِنْ ظُلْمٍ. وَالتَّحْذِيرُ مِنْ الِارْتِدَادِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالتَّرْخِيصُ لِمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ مِنَ الْمُكْرَهِينَ فِي التُّقْيَةِ. وَالْأَمْرُ بِأُصُولٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ مِنْ تَأْصِيلِ الْعَدْلِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالْمُوَاسَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعُهودِ المُبرَمَةِ، وَإِبْطَالِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ والإفْسَادِ في الأَرْضِ، وَنَقْضِ الْعُهُودِ والمَواثيقِ، وَالوعُدُ بِمَا يُنْتَظَرُ مِنْ جَزَاءٍ بِالْخَيْرِ عَلَى ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالدَّلَائِلِ، وَالِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ والْمَنَافِعِ الْمُنْتَظِمَةِ، وَالْمَحَاسِنِ، وَحُسْنِ الْمَنَاظِرِ، وَمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ، وَعَلَامَاتِ السَّيْرِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَمِنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ. وَمُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ بِأَضْدَادِهَا. وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي حَبَائِلِ الشَّيْطَانِ. وَالْإِنْذَارُ بِعَوَاقِبِ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
ثُمَّ عَرَّضَ لَهُمْ بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْبَةِ في الآية: 119، منها فقالَ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ثمَّ إنَّ مِلَاكَ طَرَائِقِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ هو: {ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} الآية: 125. مِنْ سُورَة النَّحْل. وأخيرًا: تَثْبيتُ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وَوَعْدُهُ بِتَأْيِيدِ اللهِ إِيَّاهُ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَتَى أَمْرُ اللهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ
(1)
"بِسْمِ اللهِ" المُحيطِ بِدائِرَةِ الكَمَالِ، مَا شَاءَ فَعَلَ، فلا رَادَّ لِحُكْمهِ. "الرَّحْمَنِ" الذي عَمَّتْ نِعَمُهُ جَميعَ خَلْقِهِ، جَلِيلَهم وَحَقِيرَهم، كَبيرَهم وصَغيرَهُم. "الرَّحيمِ" الذي خَصَّ مَنْ شَاءَ مِنْ خلقِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ نِعْمَةِ الإيمانِ بِهِ وتوحيدِهِ، والنَّجَاةِ مِمَّا يُسْخِطُهُ بِمَا يَرْضَاهُ مِنْ قَوْلٍ وعَمَلٍ.
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَتَى أَمْرُ اللهِ} وَعِيدٌ مَصُوغٌ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ بِأَنْ قَدْ حَلَّ ذَلِكَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ. فَإِنَّهُ لَمَّا خَتَمَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، سُورَةَ الحِجْرِ السابقةَ بِالإِشارَةِ إِلَى إِتْيانِ "اليَقِينِ"، وَهُوَ الصَالِحُ لِمَوْتِ جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ، وكَشْفِ الغِطاءِ بإِتْيَانِ مَا يُوعَدُونَ مِمَّا بِهِ يَسْتَعْجِلُونَ، اسْتَهْزاءً مِنْهُمْ بِالعَذَابِ فِي الآخِرَةِ، بَعْدَ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ عَذَابِ الدُنْيا، ابْتَدَأَ هَذِهِ الآيةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، غَيْرَ أَنَّهُ خَتَمَ تِلْكَ بِاسْمِ الرَّبِ المُفْهِمِ للإحْسَانِ لُطْفًا بِالمُخَاطَبِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وافْتَتَحَ هَذِهِ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الجامِعِ لِجَميعِ مَعَاني الأَسْمَاءِ لأَنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ بِمَقامِ التَهْديدِ والوَعيدِ. ولِمَا سَيَأْتي بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ المَعاني المُتَنَوِّعَةِ في أَثْناءِ هذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ، وَسَيُكَرَّرُ هَذا الاسْمُ فِيها تَكْريرًا تَعْلَمُ مِنْهُ صِحَّةَ هَذِهِ الدَعْوَى. فَجِيءَ بِالْمَاضِي الْمُرَادِ بِهِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ بِقَرِينَةِ تَفْرِيعِ "فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ" عَلَيْهِ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ اسْتِعْجَالِ حُلُولِ ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمَّا يَحُلَّ بَعْدُ. وقالَ فيهِ جُمْهورُ المُفَسِّرينَ: إِنَّهُ يُريدُ بقولِهِ: "أَمْرُ اللهِ" القِيَامَةَ. وَفيها وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ، وَقِيلَ: المُرَادُ نَصْرُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه من طَرِيق الضَّحَّاك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم: "أَتَى أَمر الله" قَالَ: خُرُوج مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَ "أَمْرُ اللهِ" مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ. فَالْأَمْرُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، كَالْوَعْدِ بِمَعْنَى الْمَوْعُودِ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْأَمْرِ بِهِ تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَةُ حُصُولِهِ فِي الْأَجَلِ الْمُسَمَّى الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ.
و "اللهِ" أَيْ: المَلِكُ الأَعْظَمُ الذي لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى والصِفاتُ العُلَى، بِمَا يُذِلُّ الأَعْداءَ، وَيُعِزُّ الأَوْلِياءَ، ويَشْفِي صُدورَهم، وَيُقِرَّ أَعْيُنَهم. والكائناتُ كُلُّها، والحادثاتُ بِأَسْرِها مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهِ، أَيْ حَصَلَ أَمْرُ تَكْوينِهِ وَهوَ أَمْرٌ مِنْ أُمُورِهِ لأَنَّهُ حاصِلٌ بِتَقْديرِهِ وتَيْسِيرِهِ، وقَضَائهِ وتَدْبيرِهِ؛ فَمَا يَحْصُلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وَضُرِّ، وَحُلْوٍ ومُرٍّ. فَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ أَمْرِهِ ـ سبحانَهُ وتَعَالَى.
ونظيرُ هَذِهِ الآيةِ قَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الأَنْبِيَاءِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} الآيَةَ: 1، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} الآية: 63، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الشُورَى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} الآيةَ: 17، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ النَّجْم: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ} الآيتان: 75 و 58، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ القَمَرِ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} الآية: 1، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وقد عَبَّرَ بِالمَاضِي؛ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ، أَوْ: ثَبَتَ أَمْرُهُ وَقَضاؤُهُ، وأَنَّ كُلَّ آتٍ وَلا بُدَّ قَريبٌ، وَهذا الأُسْلوبُ في التَّعْبِيرِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} الْآيَةَ: 44، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الزُمَرِ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ: 68، وَقَوْلُهُ بَعْدَهَا في الآياتِ: 69 ـ 71، مِنَ السُّورَةِ ذاتِها: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ * وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا .. }. فَكُلُّ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الْمَاضِيَةِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ، نَزَلَ تَحَقُّقُ وُقُوعِهَا مَنْزِلَةَ الْوُقُوعِ. والمَعْنَى: أَنَّ الأَمْرَ المَوْعُودَ بِمَنْزِلَةِ المَاضِي، لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ وَاجِبُ الوُقوعِ؛ فَلا تَسْتَعْجِلُوا وُقُوعَهُ، لأَنَّهُ لا خَيْرَ لَكُمْ فِيهِ، ولا خَلاصَ لَكُمْ مِنْهُ ولا مَنَاصَ عَنْهُ.
قولُهُ: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} الِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ تَعْجِيلِ حُصُولِ شَيْءٍ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَمَفْعُولُهُ هُوَ الَّذِي يَقَعُ التَّعْجِيلُ بِهِ. وهو تَفْرِيعٌ عَلَى "أَتى أَمْرُ اللهِ"، وَهِيَ مِنَ الْمَقْصُودِ بِالْإِنْذَارِ. وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ ابْتِدَاءً لِأَنَّ اسْتِعْجَالَ الْعَذَابِ مِنْ خِصَالِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَامِلًا لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ عَذَابَ اللهِ وَإِنْ كَانَ الْكَافِرُونَ يَسْتَعْجِلُونَ بِهِ تَهَكُّمًا لِظَنِّهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ آتٍ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُضْمِرُونَ فِي نُفُوسِهِمِ اسْتِبْطَاءَهُ وَيُحِبُّونَ تَعْجِيلَهُ لِلْكَافِرِينَ. وَقَدْ جَفَّ القَلَمُ بِمَا يَكونُ لا عَنْ سُؤَالٍ واسْتِعْجالٍ، وتَدبيرٍ مِنَ الخَلْقِ. وَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، مِنْ سُورَةِ يُونُسُ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} الآية: 50، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ هود: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} الْآيَةَ: 8، وقولِهِ تعالى مِنْ سورةِ الحج: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} الآية: 47، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ العَنْكَبوت: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} الآيَةَ: 53، وَقَوْلِهِ بَعدَ ذَلِكَ في الآيَةِ: 54، مِنْ ذاتِ السُّورَةِ: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ (ص): {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} الآية: 16، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الشُورَى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} الآية: 18، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
ولَمَّا كانَتِ العَجَلَةُ نَقْصًا، قالَ عَنْ هَذَا الإِخْبَارِ: "فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ" أَيُّها الأَعْداءُ اسْتِهْزَاءً بِهِ، وأَيُّها الأَوْلِياءُ اسْتِكْفاءً بِهِ واسْتِشْفاءً، وَذَلِكَ مِثْلُ مَا أَفْهَمَهُ العَطْفُ في قولِهِ تَعَالى مِنْ سورةِ الحِجْرِ: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} الآية: 4، وقدْ تَقَدَّمَ؛ ويُجُوزُ أَنْ يَكونَ الضَّميرُ لـ "اللهِ" تَعَالَى، كما يَجُوزُ أَنْ يَعودَ على "أَمْرُ".
رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قالَ جِبْريلُ في سَرْدِ الوَحْيِ: "أتى أَمْرُ اللهِ"، وثَبَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قائمًا، فلَمَّا قالَ: "فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ"، سَكَنَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ "أَتَى أَمْرُ اللهِ" ذُعِرَ أَصْحَابُ الرَّسُولِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، حَتَّى نَزَلَتْ "فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ" فَسَكَنُوا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ مِنْ مُسنَدِ أَبيهِ، وَأخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ "أَتَى أَمر الله" قَامُوا، فَنَزَلَتْ "فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ". قالَ أَنَسُ بْنُ مالكٍ، وسَهْلُ بْنُ سَعدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ ـ وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ، وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي)). أَمَّا حَديثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فقد أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/222، (13352) و 3/278 (13995)، والبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: (8/131، بِرَقَم: (6504)، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (8/208، بِرَقَمِ: (7515). وأَمَّا حَديثُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَأَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ بِرَقَمِ: (4936)، وَمُسْلِمٌ فِي صَحيحِهِ بِرَقَمِ: (2950). وللحديثِ أَطرافٌ كثيرةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: اللهُ أَكْبَرُ قَامَتِ السَّاعَةُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا عُقُوبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَذَابُ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَقُتِلَ النَّضْرُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. فَمَنْ قالَ: إِنَّ الأَمْرَ القِيامَةُ، قالَ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالى: "فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ": رَدٌّ عَلَى المُكَذِّبِينَ بالبَعْثِ بعد الموتِ، القائلينَ: مَتَى هَذَا الوَعْدُ؟. ولَمَّا كانَ الجَزْمُ بِالأُمُورِ المُسْتَقْبَليَّةِ لا يَلِيقُ إِلَّا عِنْدَ نُفُوذِ الأَمْرِ، وَلَا نُفُوذَ إِلَّا لِمَنْ لا كُفْءَ لَهُ، وَكانَتِ العَجَلَةُ التي هِيَ الإتْيانُ بِالشَّيْءِ قَبْلَ حِينِهِ الأَوْلى بِهِ، نَقْصًا ظاهرًا لا يُحْمَلُ عَلَيْهَا، وكانَ التَأْخِيرُ لا يَكُونُ إِلَّا عَنْ مُنَازِعٍ مُشَارِكٍ. أَمَّا أَصْحَابُ التَوْحيدِ، فلا يَسْتَعْجِلونَ شَيْئًا البتَّةَ باخْتِيارِهِمْ، لأَنَّهمْ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُمُ الإراداتُ والمُطالَبَاتُ، وَهُمْ خامِدونَ تَحْتَ جَرَيانِ تَصْريفِ الأَقْدارِ؛ فَلَيْسَ لَهُمْ إِيثارٌ ولا اخْتِيارٌ فَلا يَسْتَعْجِلونَ أَمْرًا، وإِذَا أَمَّلوا شَيْئًا، أَوْ أُخْبِروا بِحُصُولِ شَيْءٍ فَلَا اسْتِعْجَالَ لَهُمْ، بَلْ شَأْنُهم التَأَنِّي والثَبَاتُ والسُّكونُ، وَإِذا بَدَا مِنَ التَقْديرِ حُكْمٌ فَلَا اسْتِعْجَالَ لَهُمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ، بَلْ يَتَقَبَّلونَ مُفاجَأَةَ التَقْديرِ بِوَجْهٍ ضَاحِكٍ، ويَسْتَقْبِلُونَ مَا يَبْدُو لَهُمْ مِنَ الغَيْبِ بِالقَبُولِ، ويَلْقَوْنَ المَنْعَ والفُتُوحَ بالرِضَى، ويَحْمَدونَ الحَقَّ ـ جَلَّ وعَلا، عَلَى ذَلِكَ.
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} مَعْنَاهُ تَعَاظَمَ ـ سُبحانَهُ، بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ المُشْرِكُونَ مِنْ أَوصافٍ تُماثلُ أَوْصَافَ الحَوادِثِ. فَنَزَّهَ نَفْسَهُ ـ سُبْحَانَهُ و تَعَالَى، تَنْزيهًا مُطْلَقًا جامِعًا، بِقولِهِ: "سُبْحَانَهُ" أَيْ: تَنَزَّهَ عَنِ الاسْتِعْجَالِ، وَعَنْ جَميعِ صِفَاتِ النَّقْصِ و "تعالى"، أَيْ: تَعَالِيًا عَظيمًا جِدًّا "عَمَّا يُشْرِكُونَ" أَيْ: عَمَّا يَدَّعُونَ مِنْ أَنَّهُ لهُ شَريكٌ في ملكِهِ، تعالى اللهُ عنْ ذلكَ علوًّا كبيرًا، فَإِنَّهُ لا مَانِعَ لهُ مِمَّا يُريدُ فِعْلَهُ.
وقد وَرَدَ في أَسْبابِ النُّزُولِ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ، فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى نَنْظُرَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ قَالُوا: مَا نَرَى شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} الآية: 1، مِنْ سُورَةِ الأنبياءِ، فَأَشْفَقُوا وَانْتَظَرُوا قُرْبَ السَّاعَةِ. فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شَيْئًا مِمَّا تُخَوِّفُنَا بِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "أَتَى أَمْرُ اللهِ" فوَثَبَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورَفَعَ النَّاسُ رُؤوسَهمْ، فَنَزَلَ: "فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ" فَاطْمَأَنُّوا. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ ـ وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ، إِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي)). أَسْبَابُ النُّزولِ للواحديِّ: (صَ: 278).
قولُهُ تَعَالَى: {أَتَى أَمْرُ اللهِ} أَتَى: المشهورُ أَنَّهُ فِعْلٌ ماضٍ لَفْظًا مُسْتَقْبَلٌ مَعْنًى؛ إِذِ المُرادُ بِهِ يَوْمُ القِيامَةِ، وإِنَّما أُبْرِزَ في صُورَةِ مَا وَقَعَ وانْقَضَى تَحْقيقًا لَهُ وَلِصِدْقِ المُخْبِرِ بِهِ. أَوْ أَنَّهُ عَلى بَابِهِ، والمُرادُ بِهِ مُقَدِّماتُهُ وَأَوائِلُهُ، وُهُوَ نَصْرُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلى آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ. و "أَمْرُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} الفاءُ: حَرْفٌ للعطْفِ والتَفْريعِ، وربطِ المُسبّبِ بالسبَبِ، أو هي رابِطَةٌ لِجَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ. و "لاَ" ناهيةٌ جازمةٌ. و "تَسْتَعْجِلُوهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بها، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ منْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والأَظْهَرُ أَنَّهُ عائدٌ لـ "أَمْرُ"، لأَنَّهُ هُوَ المُحَدَّثُ عَنْهُ، ويَجُوزُ: أَنْ يعودَ لـ "اللهِ"، أَيْ: فَلَا تَسْتَعْجِلُوا عَذَابَهُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلِهَا "أَتَى أمرُ اللهِ"، عَلَى كَوْنِها مُسْتأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} سبحانهُ: مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجوبًا، والتقديرُ: أُسَبِّحُهُ سُبْحانًا، أَوْ سَبِّحُوهُ سُبْحانًا، وهو مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. و "وَتَعَالَى" الواوُ للعَطْفِ، و "تعالى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخِرِهِ، لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تعالى، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ التَسْبيحِ، على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "عَمَّا" هي "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بالفعلِ "تعالى". أو بْـ "سُبْحَانَهُ" عَلَى سَبيلِ التَنَازُعِ. و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِ بحرفِ الجَرِّ، أَوْ هي نَكِرةٌ مَوْصوفَةٌ، أَوْ هيَ مَصْدَرِيَّةٌ. و "يُشْرِكُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفْعَالِ الخَمْسَةِ، والواوُ، وواوُ الجَماعةِ، ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. والجُمْلةُ صِلَةٌ لِلمَوصولِ الاسْمِيِّ "ما" المَوْصُولَةِ، فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، أَوْ هي صِفَةٌ لَهَا في مَحَلِّ الجَرِّ إِنْ كانتْ نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: عَمَّا يُشْرِكونَهُ بِهِ مِنْ خَلْقِهِ، أَوْ هي صِلَةٌ لِـ "ما" المصدريَّةِ إِنْ أُعْرِبتْ مَصْدَرِيَّةً، فلا عائدَ لها عِنْدَ الجُمْهُورِ، أَيْ: عَنْ إِشْراكِهِمْ بِهِ غَيْرَهُ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} بالتَّاءِ خِطابًا للمُؤْمِنينَ، أَوْ للكافِرينَ. وقَرَأَ سَعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ "فلا يَسْتَعْجِلوهُ" بالياءِ مِنْ تَحْت عائدًا عَلَى الكُفَّارِ، أَوِ المُؤْمِنينَ.
قرَأَ العامَّةُ: {عَمَّا يُشْركونَ} بالياءِ عَوْدًا عَلَى الكُفَّارِ. وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حمزة والكِسائيُّ): "تُشْرِكُون" بِتَاءِ الخِطَابِ جَرْيًا عَلَى الخِطَابِ فِي "يَسْتَعْجِلُوه". وَقَرَأَ الأَعْمَشُ وَطَلْحَةُ وَالجَحْدَرِيُّ، وَجَمٌّ غَفيرٌ بالتاءِ مِنَ فوْقُ فِي الفِعْلَيْنِ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ، وابْنُ جَريرٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ؟. قَالَ: رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَيْهِ، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: اسْتَقْرِئْ هَذَا. فَقَالَ: ((اقْرَأْ)). فَقَرَأَ، فَقَالَ: ((أَحْسَنْتَ)). فَقُلْتُ لَهُ: أَوَلَمْ تُقْرِئْنِي كَذَا وَكَذَا؟. قَالَ: ((بَلَى، وَأَنْتَ قَدْ أَحْسَنْتَ)). فَقُلْتُ: بِيَدَيَّ قَدْ أَحْسَنْتَ مَرَّتَيْنِ. قَالَ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِيَدِهِ فِي صَدْرِي، ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْ أُبَيٍّ الشَّكَّ)). فَفِضْتُ عَرَقًا، وَامْتَلَأَ جَوْفِي فَرَقًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا أُبَيُّ، إِنَّ مَلَكَيْنِ أَتَيَانِي، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: اقْرَأْ عَلَى حَرْفٍ. فَقَالَ الْآخَرُ: زِدْهُ. فَقُلْتُ: زِدْنِي قَالَ: اقْرَأْ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ الْآخَرُ: زِدْهُ. فَقُلْتُ: زِدْنِي. فَقَالَ: اقْرَأْ عَلَى ثَلَاثَةٍ. فَقَالَ الْآخَرُ: زِدْهُ. فَقُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: اقْرَأْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَحْرُفٍ. قَالَ الْآخَرُ: زِدْهُ. قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: اقْرَأْ عَلَى خَمْسَةِ أَحْرُفٍ. قَالَ الْآخَرُ: زِدْهُ. قُلْتُ: زِدْنِي. قَالَ: اقْرَأْ عَلَى سِتَّةٍ. قَالَ الْآخَرُ: زِدْهُ. قَالَ اقْرَأْ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَالْقُرْآنُ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)). مُسْنَدُ أَحْمَد: (5/124). والنَّسائيُّ في عَمَلِ اليَوْمِ واللَّيْلَةِ: (ص: 421)، وأَحاديثُ نُزُولِ القُرْآنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ كَثيرةٌ، حَتَّى قِيلَ بِتَواتُرِها، فَقَدْ رُوِيَتْ عَنْ وَاحِدٍ وَعِشْرينَ صَحَابِيًّا.