وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ
(49)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} بَعْدَ مَا بَيَّنَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ لِهَذِهِ الآيَةِ سُجُودَ الظِلالِ وَأَصْحَابِها مِنَ الأَجْرَامِ السُفْلِيَّةِ الثابِتَةِ فِي إِحْيازِهَا ودُخُورِهَا لَهُ تَعَالى، شَرَعَ فِي هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ بِبَيَانِ سُجُودِ المَخْلوقاتِ المُتَحَرِّكَةِ بالإِرادَةِ، سَوَاءً كانَتْ لَهَا ظِلالٌ أَمْ لَا. أَيْ: للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ يَخْضَعُ وَيَنْقادُ كلُّ ما في السَمَاوَاتِ، وَلَيْسَ لِشَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ تَعَالَى، اسْتِقْلالًا أَوِ اشْتِراكًا، فالقَصْرُ الذي أَفادَهُ تَقديمُ الجَارِّ والمَجْرورِ يَنْتَظِمُ القَلْبَ وَالإِفْرادَ، إِلَّا أَنَّ الأَنْسَبِ بِحَالِ المُخَاطَبِينَ قَصْرُ الإِفْرادِ، كَمَا هوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآيَةِ: 51، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {وَقَالَ اللهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. فإنَّهُ لَمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ السُّجُودُ الْقَسْرِيُّ ذُكِرَ بَعْدَهُ سُجُودٌ آخَرُ، بَعْضُهُ اخْتِيَارٌ وَفِي بَعْضِهِ شِبْهُ اخْتِيَارٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى فِعْلِهِ مُؤْذِنٌ بالحَصْرِ ـ كَمَا تقدَّمَ، أَيْ: سَجَدَ للهِ ـ لَا لِغَيْرِهِ، كلُّ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ يَسْجُدُونَ لِلْأَصْنَامِ المخلوقةِ التي لا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ولا يَسْجُدونِ للهِ تَعَالَى الذي خَلَقَها، وخَلَقَ كلَّ شَيْءٍ. وَقد أُوثِرَتْ "مَا" الْمَوْصُولَةُ دُونَ (مَنْ) تَغْلِيبًا لِكَثْرَةِ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ. وَيَشْمَلُ مَا فِي السَّماواتِ مَخْلُوقَاتٍ غَيْرَ الْمَلَائِكَةِ، مِثْلَ الْأَرْوَاحِ، أَو يُرَاد بالسموات الْأَجْوَاءُ فَيُرَادُ بِمَا فِيهَا الطُّيُورُ وَالْفَرَاشُ. وَقدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ مِنْ عُلَماءِ التَفْسِيرِ أَنَّ المُرَادَ بِالْسُّجُودِ هُنَا هُوَ الطاعةُ والانْقِيادُ لأَمْرِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، سَواءً كانَ الانْقِيادُ لإِرادَتِهِ تَعَالَى طَبْعًا أَوِ طَواعيَةً بِتَكْليفٍ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ، لِيَصِحَّ إِسْنَادُهُ إِلَى عَامَّةِ أَهْلِ السَمَاواتِ والأَرْضِ مِنْ غَيْرِ جَمْعٍ بَيْنَ الحَقيقَةِ وَالمَجازِ. وَلِأَنَّ الآيَةَ آيَةُ سَجْدَةٍ، لا بُدَّ مِنْ دَلالَتِهَا عَلِى السُّجودِ المُتَعَارَفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ ضِمْنًا.
قولُهُ: {وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} هوَ بَيَانٌ لِمَا في الأَرْضِ، والدَبِيبُ هوَ حَرَكَةُ الجِسْمِ، وتَقْيِيدُهُ بِكَوْنِهِ عَلَى الأَرْضِ لِظُهُورِهِ، أَوْ لأَنَّهُ أَصْلُ مَعْنَاهُ، وهوَ عامٌّ هُنَا بِقَرينَةِ "مَا" فَقَدْ يَشْمَلُ الملائِكَةَ الكرامَ. وعَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الحَفَظَةُ فِي الأَرْضِ الموكَّلونَ مِنْهُمْ بحفظِ الخَلْقِ وإنفاذِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى فِيهِمْ. و "مِنْ دابَّةٍ" بَيَانٌ لِـ "مَا فِي الْأَرْضِ"، إِذِ الدَّابَّةُ تَشْمَلُ كُلَّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ ـ أيْ يتحرَّكُ عَلَيْهَا، غَيْرُ الْإِنْسَانِ، والملائكةُ الكِرامُ، وإنْ كانتْ أجسامًا نورانيَّةً لطيفةً فهي تَتَحَرَّكُ. وَالدَّابَّةُ اشْتِقَاقُهَا مِنَ الدَّبِيبِ، وَالدَّبِيبُ عِبَارَةٌ عَنِ الْحَرَكَةِ الْجُسْمَانِيَّةِ ـ كما تقدَّمَ، فَالدَّابَّةُ اسْمٌ لِكُلِّ حَيَوَانٍ جُسْمَانِيٍّ يَتَحَرَّكُ وَيَدِبُّ، فَلَمَّا مَيَّزَ اللهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ عَنِ الدَّابَّةِ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا يَدِبُّ، بَلْ هِيَ أَرْوَاحٌ مَحْضَةٌ مُجَرَّدَةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَنَاحَ لِلطَّيَرَانِ مُغَايِرٌ لِلدَّبِيبِ بِدَلِيلِ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الأَنْعامِ: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ} الْآيَةَ: 38.
وَسُجُودُ الدَّوَابِّ للهِ تَعَالى مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ جَعَلَ فِي تَفْكِيرِهَا الْإِلْهَامِيِّ الْتِذَاذَهَا بِوُجُودِهَا، وَبِمَا هِيَ فِيهِ مِنَ الْمَرَحِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَتَطْلُبُ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهَا مِنَ الْمُتَغَلِّبِ وَمِنَ الْعَوَارِضِ بِالْمُدَافَعَةِ أَوْ بِالتَّوَقِّي، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمُلَائِمَاتِ. فَحَالُهَا بِذَلِكَ كَحَالِ شَاكِرٍ للهِ تَعَالى تَيَسَّرتْ لهُ تِلْكَ الْمُلَائِمَاتُ، وَإِنَّمَا كانَ تَيْسِيرُهَا مِمَّنْ فَطَرَهَا. وَقَدْ تَصْحَبُ أَحْوَالَ تَنَعُّمِهَا حَرَكَاتٌ تُشْبِهُ إِيمَاءَ الشَّاكِرِ الْمُقَارِبِ لِلسُّجُودِ، وَلَعَلَّ مِنْ حَرَكَاتِهَا مَا لَا يَشْعُرُ بِهِ النَّاسُ لِخَفَائِهِ وَجَهْلِهِمْ بِكيفيَّتِهِ وأَوْقَاتِهِ، وَإِطْلَاقُ السُّجُودِ عَلَى هَذَا هو مِنَ المَجَازِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ طَوْعًا، وَمَنْ فِي الأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ" قَالَ: لَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا عَبَّدَهُ لَهُ طَائِعًا أَوْ كَارِهًا.
قولُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} خَصَّ اللهُ تَعَالَى مَلائِكَتَهُ الكِرامَ بالذِكْرِ مَعَ أَنَّهمْ مَشْمُولَةٌ فِي الجُمْلةِ السابقةِ لأَنَّها مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّماوَاتِ والأَرْضِ، وَذَلِكَ لِتَشْريفِهم والرَّفْعِ مِنْ شَأْنِهم. وَقِيلَ: لِخُرُوجِهمْ مِنْ المَوْصُوفِينَ بالدَّبِيبِ، لأَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطيرونَ بِها. وَقِيلَ؛ أَرادَ: وللهِ يَسْجُدُ مَا في السَمَاواتِ مِنَ المَلائِكَةِ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنَ الدوابِّ، والمَلَائكَةُ تَسْجُدُ لِمَوْلاها الكريمِ مَعَ رِفْعَةِ شَأْنِها عِنْدَهُ. "وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ" لأنَّ في سجودِ الملائكةِ لهُ ـ سُبحانَهُ، تَشْريفًا لَهَا. وَفي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ "لَا يَسْتَكْبِرُونَ" تَعْرِيضٌ بِبُعْدِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ تِلْكَ الْمَرْتَبَةِ الْمَلَكِيَّةِ الرفيعةِ، ومعَ ذَلِكَ فَهُمْ يَسْتَكْبِرُونَ عَلَى السُّجُودِ للهِ تَعَالَى، ويأْنفونَ أَنْ يَسْجُدوا للهِ ويَنقادوا لِطاعَتِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "للهِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْجُدُ" بَعْدَهُ، ولفظُ الجَلالةِ "اللهِ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجرِّ. و "يَسْجُدُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، أَوْ نكرةٌ مَوْصوفَةٌ. وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بمَحْذوفِ صِلَةٍ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ أَوْ صِفَةٍ لَهَا. وَ "السَّمَاوَاتِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ} وَمَا فِي الْأَرْضِ: مثلُ "ما في السماواتِ" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "وَمَا فِي الْأَرْضِ"، و "دَابَّةٍ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ بَيَانًا لِمَا فِي السَمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، ويَكونُ للهِ تَعَالى فِي سَمَائِهِ خَلْقٌ يَدِبُّونَ كَمَا يَدِبُّ الخَلْقُ الذي في الأَرْضِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ بَيَانًا لِمَا فِي الأَرْضِ فَقَط. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: فإنْ قُلْتَ: فَهَلَّا جِيْءَ بـ "مَنْ" دُونَ "مَا" تَغْليبًا للعُقَلاءِ مِنَ الدَوَابِّ عَلَى غَيْرِهِمْ؟. قُلْتُ: لأَنَّهُ لَوْ جِيْءَ بـ "مَنْ" لَمْ يَكُنْ فيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَغْليبِ، بَلْ كانَ مُتَنَاوِلًا للعُقَلاءِ خاصَّةً، فَجِيءَ بِما هُوُ صالِحٌ للعُقَلاءِ وَغَيْرِهِمْ إِرادَةَ العُمُومِ.
قالَ الشَيْخُ أَبُو حيَّان الأندلُسيُّ: وَظَاهِرُ السُّؤالِ تَسَلِيمٌ أَنَّ "مَنْ" قَدْ تَشْمَلُ العُقَلاءَ وَغَيْرَهُمْ عَلَى جِهَةِ التَغْلِيبِ، وَظَاهِرُ الجَوَابِ تَخْصيصُ "مَنْ" بالعُقَلاءِ، وَأَنَّ الصَّالِحَ للعُقَلاءِ وَغَيْرِهِمْ "ما" دونَ "مَنْ" وَهَذَا لَيْسَ بِجَوابٍ؛ لأَنَّهُ أَوْرَدَ السُّؤَالَ عَلَى التَسْلِيمِ، ثُمَّ أَوْرَدَ الجَوَابَ عَلَى غَيْرِ التَسْلِيمِ، فَصَارَ المَعْنَى: أَنَّ "مَنْ" يُغَلَّبُ بِهَا، والجَوَابَ لا يُغَلَّبُ بِهَا، وَهَذَا فِي الحَقِيقَةِ لَيْسَ بِجَوابٍ. و "الْمَلَائِكَةُ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا فِي السَّمَاوَاتِ" عَطْفَ خَاصٍّ عَلَى عَامٍّ.
قوله: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ. و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "لَا يَسْتَكْبِرُونَ" لا: نافيَّةٌ، و "يَسْتَكْبِرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. والجُمْلةُ في محلِّ الرفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحَالِ مِنَ "الْمَلَائِكَةُ". ويَجوزُ أَنْ تَكونَ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافًا، أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ.