هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
(33)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} ينْظُرُونَ: مِنَ وَالنِّظَرَةِ، أَيْ الِانْتِظَارِ، وَالْمُشْركونَ لَمْ يَنْتَظِرُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا بِهَا، وَلَكِنَّ امْتِنَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابَ، فَأُضِيفَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. وَالمُخاطَبُ هوَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَذْكِيرًا بِتَحْقِيقِ الْوَعِيدِ وَعَدَمِ اسْتِبْطَائِه، للتَّحْذِيرِ مِنَ اغْتِرَارِ المُشْركينَ بِتَأَخُّرِ الْوَعِيدِ وَحَثًّا لَهُمْ عَلَى الْمُبَادَرَةِ بِالْإِيمَانِ. وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ بعدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ بـ "إلَّا". يَقُولُ تَعَالَى: هَلْ سَيَظَلُّ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ مُقِيمِينَ عَلَى شِرْكِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ المَلاَئِكَةُ لِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ، أَيْ بِعَذَابِ الْقَتْلِ كَما حَدَثَ يَوْمَ بَدْرٍ، أَوِ الزَّلْزَلَةِ وَالْخَسْفِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وحِينَهَا لا يَنْفعُهُم شَيْءٌ. وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة" قَالَ: بِالْمَوْتِ. وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى {وَلَو تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ} الآية: 50، مِنْ سُورةِ الْأَنْفَال. وَهُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ، وَلَهُ رُسُلٌ: "أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ" وَذَاكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ" يَقُولُ: عِنْدَ الْمَوْتِ حِينَ تَتَوَفَّاهُم "أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ" قَالَ: ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا تَهْديدٌ لَهُمْ عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الكُفْرِ وَالضَّلاَلَةِ، وَاغْتِرَارِهِمْ بِالدُّنْيَا وزينَتِها.
قولُهُ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَوْ يَأْتيَ أَمْرُ رَبِّكَ بِنُزُولِ عَذابِ الاسْتِئْصَالِ فِيهم، كما نَزَلَ في الأَمَمِ السَّابِقَةِ، فيَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً كَمَا أَخَذَ الَّذِينَ مِنْ قبلهم. وَفي هَذَا تحذيرٌ لَهُمْ. وَقَدْ تقدَّمَ أنَّ اللهَ تعالى رَفَعَ اللهُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَنْ أُمَّةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ بِبَرَكَتِهِ ـ عَلَيْهِ صَّلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ، وإكرامًا لَهُ، وَلِإِرَادَتِهِ تَعَالَى أَنْ يَنْتَشِرَ دَينُهُ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الفِعْلِ مِنَ الشِّرْكِ باللهِ تعالى، والتَكْذيبِ لأَنْبِيائِهِ المُرْسَلِينَ ـ عليهِمُ صلاةُ اللهِ وسلامُهُ "فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ" وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، بِعَدَمِ الانْصِياعِ لأَوَامِرِ ربِّهم ـ سُبْحانَهُ، ونَوَاهِيهِ، ولَمْ يَأْبَهوا لِتَحْذِيرِ رُسُلِهُمْ وَوَعِيدِهِ، ولمْ يعتبِروا بِمَنْ نَزَلَ بهِمُ العذابُ مِنْ قبلِهِم، فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا.
قولُهُ: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ومَا ظَلَمَهُمُ اللهُ بِتَعْذيبِهِمْ وإِهْلاكِهِمْ، ولِكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمِ بالشِّرْكِ وَمَا كانُوا مُسْتَمِرِّينَ عَلَيْهِ مِنَ القَبائحِ والمعاصي المُوجِبَةِ لِذَلِكَ العِقابِ والعَذَابِ، فَإِنَّ غائِلَةَ ظُلْمِهِمْ آيِلَةٌ إِلَيْهِمْ، وَعاقِبَتَهُ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِمْ، مَعَ اسْتِلْزامِ اقْتِصَارِ ظُلْمِ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ الوُقُوعُ، اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الصُّدُورُ.
قولُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ} هَلْ: حَرْفُ اسْتِفْهامٍ والاسْتِفْهامُ هُنَا إِنْكارِيٌّ. و "يَنْظُرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ. وَ "أَنْ" حرفٌ ناصِبٌ. و "تَأْتِيَهُمُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بها. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفْعولٌ بهِ والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "الْمَلَائِكَةُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعولِيَّةِ لـ "يَنْظُرونَ"، والتَقْديرُ: هَلْ يَنْتَظِرونَ إِلَّا إِتْيانَ المَلائِكَةِ إِيَّاهم.
قولُهُ: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} أَوْ: حرفُ عطْفٍ، و "يَأْتِيَ" مثلُ سابِقِهِ معطوفٌ عليْهِ. و "أَمْرُ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ مُضافٌ. و "رَبِّكَ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ؛ وهو مُضافٌ أَيضًا، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ مضافٌ إِلَيْهِ ثانٍ أَيْ: مَا يَنْتَظِرونَ إِلَّا إِتْيانَ المَلائِكَةِ، أَوْ إِتْيانَ أَمْرِ رَبِّكَ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} كَذَلِكَ: الكافُ حرفُ جَرٍّ وتشبيهٍ. و "ذا" اسمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، واللامُ للبُعدِ والكاف الثانيةُ للخطابِ. و "فَعَلَ" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِلَةٍ للاسْمِ المَوْصُولِ، و "قَبْلِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، والتَقديرُ: فَعَلَ الذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فِعْلًا مِثْلَ فِعْلِ هؤلاءِ المُشْركينَ مِنْ قَوْمِكَ.
قولُهُ: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ} الواوُ: اعتراضيَّةٌ. وَ "مَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها. و "ظَلَمَهُمُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتح. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ مُعْتَرِضَةٌ اعْتَرَضتْ بَيْنَ المَعْطوفِ الذي هوَ {فَأَصَابَهُمْ} وَالمَعْطوفِ عَلَيْهِ وهوَ "فَعَلَ".
قولُهُ: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "لكنْ" حَرْفَ اسْتِدْراكٍ. و "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كان"، والألِفُ الفارقة. و "أَنْفُسَهُمْ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ مُقَدَّمٌ لِـ "يَظْلِمُونَ"، وهو مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "يَظْلِمُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كانَ"، وَجُمْلَةُ "كان" مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ" على كونِها معترضةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الجمهورُ: {تَأْتيهم} بالتاءِ مِنْ فَوْقُ، وقْرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ): "يأْتيهم" بالياءِ مِنْ تَحْتُ، والقراءتانِ واضِحَتَانِ لِكَوْنِ التَأْنِيثِ هنا مَجازيًا.