وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
(65)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ ما سَبَقَ مِنْ أَدِلَّةٍ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى، وتَكْريرٌ لِمَا جاءَ في قولِهِ تعالى من الآيةِ: 10، السَابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ}، وَتَوْطِئَةٌ لِمَا يَعْقُبُهُ مِنْ أَدِلَّةٍ، وبَيَانٌ لِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَسَابِغِ نِعْمَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ. فاللهُ تَعَالَى الذي لَهُ الأَمْرُ كُلُّهُ هوَ الذي يُنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً عَلى هَيْأَةِ المَطَرِ أَوِ الثَّلْجِ أَوِ البَرَدِ، عَلَى المَكَانِ الذي يَشَاءُ، وبالقَدْرِ الذي يَشَاءُ، وفي الوَقْتِ الذي يُريدُ. وَهَذِهِ مِنَّةٌ مِنَ الْمِنَنِ وَعِبْرَةٌ مِنَ الْعِبَرِ وَحُجَّةٌ مِنَ الْحُجَجِ الْمُتَفَرِّعَةِ عَنِ التَّذْكِيرِ بِنِعَمِ اللهِ وَالِاعْتِبَارِ بِعَجِيبِ صُنْعِهِ.
وَ "مِنَ السَّمَاءِ" أَيْ: مِنْ جانِبِ السَّمَاءِ، أَوْ مِنْ جِهَتِها، لِأَنَّ كُلَّ مَا عَلَاكَ فهوَ سَمَاءٌ لَكَ، أَيْ: مِنَ السَّحَابِ السَّابِحِ فوقَ الأَرْضِ بِقُدْرَتِهِ ـ تعالى، وتقديرِهِ، يَسُوقُهُ حيثُ يَشَاءُ، فَيَسْقِي بِهِ مَنْ شاءَ مِنْ خَلْقِهِ بالقَدْرِ الذي يَشَاءُ ويَصرِفُهُ عمَّنْ يَشَاءُ. وَهوَ الذي يُنْزِلُهُ قَطرًا سائلًا، أَو تلجًا كَثيفًا أَوْ جامدًا على شَكْلِ حَبَّاتٍ، وهوَ البَرَدُ، فـ: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآية: 40، مِنْ سُورَةِ الرُّوم.
قولُهُ: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} إِحْيَاءُ الْأَرْضِ: إِخْرَاجُ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ مِنْهَا، وَهُوَ الْكَلَأُ وَالشَّجَرُ. وَمَوْتُهَا ضِدُّ ذَلِكَ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ "أَحْيَا" إِلَى الْأَرْضِ تَعْدِيَةٌ مَجَازِيَّةٌ. وَ "فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ" أَيْ: بَثَّ فيها الحياةَ بِهَذَا الماءِ المُنَزَّلِ مِنَ السماءِ، وذَلِكَ بِمَا أَنْبَتَ فِيهَا مِنْ أَنْواعِ النَبَاتِ، الذي بِهِ تَكونُ حَيَاةُ الحَيَوانِ، وَبِهِمَا تَكونُ مَعًا تَكونُ حَيَاةُ الإِنْسَانِ واسْتمرارُها. و "بَعْدَ مَوْتِهَا" أيْ: بَعْدَ يَبَاسِهَا وفَنَاءِ ما عليها مِنْ حياةِ، وهَكَذَا يَمْضِي الزَمَنُ، عَدَمٌ ثُمَّ حياةٌ، ثمَّ موتٌ، ثمَّ حياةٌ مِنْ جديدٍ إلى أَنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْهَا، وَمَا عَلَيْها.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أَيْ: إِنَّ فِي إِنْزالِ المَاءِ مِنَ السَمَاءِ وإِحْياءِ الأَرْضِ المَيْتَةِ بِهِ لَدَلالَةً عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ـ سُبْحَانَهُ، وعَظيمِ قُدْرَتِهِ، وسَعَةِ عِلْمِهِ، وبالِغِ حِكْمَتِهِ، وَفيهِ أَيضًا دَلالَةٌ عَلى قُدْرَتِهِ عَلَى الإحْياءِ بَعْدَ الإِماتَةِ والبَعْثِ مِنْ جديدٍ للإنْسَانِ وغيرِهِ مِنَ مَخْلُوقاتِ اللهِ التي تَقْضِي مَشِيئَتُهُ ـ سُبْحَانَهُ، بإِحْيائِها. ولَكِنَّ هَذَا التَذْكِيرَ وَنَظَائِرَهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا مَنْ سَمِعَهُ سَمَاعَ تَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ، وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى ظَاهِرَةٌ لَا يَصُدُّ عَنْهَا إِلَّا المُكَابَرَةُ. أَمَّا الذينَ لا يَسْمَعُونَهُ كَذَلِكَ فإِنَّهمْ كالصُّمُّ، لأَنَّهم لا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَسْمَعُونَ، فهمْ والصُمُّ سَواءٌ.
وَفي هَذا تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَةَ ذَلِكَ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تعالى. فَالسَّمْعُ: هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ سَمَاعُ التَفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الوَاوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "اللهُ" لفظُ الجلالةِ مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "أَنْزَلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ على اللهِ تعالى. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ"، و "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مَاءً" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "أَنْزَلَ"، منصوبٌ، وجُمْلَةُ "أَنْزَلَ" خَبَرُ المُبْتدَأِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَعْقِيبٍ، و "أَحْيَا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِها عَلَى الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو)، يَعودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. و "بِهِ" الباءُ حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَحْيَا"، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الْأَرْضَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ لِـ "أَحْيَا". "بَعْدَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ مُضافٌ، و "مَوْتِها" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ ومُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَنْزَلَ".
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إنَّ" المُقَدَّمِ. و "ذَلِكَ" ذا: اسمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "لَآيَةً" اللامُ: هي المُزحلقَةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، وَ "آيَةً" اسْمُ "إِنَّ" مُؤَخَّرٌ منْصوبٌ بها. و "لِقَوْمٍ" اللامُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آيَةً"، و "قومٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "يَسْمَعُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِليَّةِ. والجُمْلَةُ صِفَةٌ لـ "لِقَوْمٍ" في محلِّ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.