وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} أَيْ: لا تَتَّخِذوا أَيْمانَكمْ خَدِيعَةً بَيْنَكُمْ وَفَسَادًا فَتَغُرُّونَ بِهَا المُؤْمِنِينَ، فَيَسْكُنُونَ إِلَى أَيْمَانِكُمْ ويَطْمَئِنُّونَ إِلَى صَلاحِكُمْ فَيَأْمَنُونَ، ثُمَّ تَنْقُضُونَهَا بعدَ ذَلِكَ. والْمُتوجَّهُ إلَيْهِ بِهَذَا النَهْيِ هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَنَقُضوا عَهْدَهُمْ الذي قطعوهُ لَهُ، لِأَنَّ الوَعِيدَ بقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: "فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها" لَا يَلِيقُ بِنَقْضِ عَهْدٍ قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا يَلِيقُ بِنَقْضِ عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلى الْإِيمَانِ بِهِ وَبِشَرَائِعِهِ. فالْمُرَادُ إِذًا نَهْيُ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَنْ نَقْضِ أَيْمَانٍ مَخْصُوصَةٍ قَطَعُوها، وليسَ كُلَّ الأَيْمانِ.
قولُهُ: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الزَّلَلُ: تَزَلُّقُ الرِّجْلِ وَتَنَقُّلُهَا مِنْ مَوْضِعِهَا دُونَ إِرَادَةِ صَاحِبِهَا بِسَبَبِ مَلَاسَةِ الْأَرْضِ مِنْ طِينٍ رَطْبٍ أَوْ تَخَلْخُلِ حَصًى أَوْ حَجَرٍ مِنْ تَحْتِ الْقَدَمِ فَيَسْقُطُ الْمَاشِي عَلَى الْأَرْضِ، وَالثُّبُوتُ: مَصْدَرُ "ثَبَتَ" كَالثَّبَاتِ، وَهُوَ الرُّسُوخُ وَعَدَمُ التَّنَقُّلِ، وَقد خُصَّ الثُّبُوتَ بِالْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ، وَهُوَ التَّحَقُّقُ، كثُبُوتِ عَدَالَةِ الشَّاهِدِ لَدَى الْقَاضِي، وَخَصُّوا الثَّبَاتَ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ. وَفي الآيَةِ تَمْثِيلٌ لِاخْتِلَالِ الْحَالِ وَالتَّعَرُّضِ لِلضُّرِّ بَعْدَ العافيةِ، لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ السُّقُوطُ أَوِ الْكَسْرُ، كَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْقَدَمِ يَعْني تَمَكُّنُ الرِّجْلِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهذا تَمْثِيلٌ لِاسْتِقَامَةِ الْحَالِ وَدَوَامِ السَّيْرِ، واسْتِعارَةٌ لِمُسْتَقِيمِ الحالِ يَقَعُ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ. وهوَ مَثَلٌ يُذْكَرُ لِكُلِّ مَنْ وَقَعَ فِي بَلَاءٍ بَعْدَ عَافِيَةٍ، وَمِحْنَةٍ بَعْدَ نِعْمَةٍ، فَإِنَّ مَنْ نَقَضَ عَهْدَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ سَقَطَ عَنِ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَوَقَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الضَّلَالَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ". فَالْمُشَبَّهُ بِهَا حَالُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ نُكِّرَتْ قَدَمٌ وَأُفْرِدَتْ، إِذْ لَيْسَ الْمَقْصُودُ قَدَمًا مُعَيَّنَةً، وَلَا عَدَدًا مِنَ الْأَقْدَامِ، فَأَنْتَ تَقُولُ لِلجَمَاعَةِ يَتَرَدَّدُونَ فِي أَمْرٍ مَّا: مَا لي أَرَاكُمْ تُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَتُؤَخِّرُونَ أُخْرَى؟. تَمْثِيلًا لِحَالِهِمْ بِحَالِ الشَّخْصِ الفَرْدِ الْمُتَرَدِّدِ فِي الْمَشْيِ إِلَى شَيْءِ مُعَيَّنٍ. وقد نُكِّرَتْ "قَدَمٌ" لاسْتِعْظامِ أَنْ تَزِلَّ قدمٌ واحِدَةٌ عَنْ طَريقِ الحَقِّ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَتْ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِأَقْدامٍ كَثِيرَةٍ.
قولُهُ: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الذَّوْقُ هُنَا: مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ الْقَوِيِّ، وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 95، مِنْ سُورةِ المائدةِ: {لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ}. وَالسُّوءُ: مَا يُؤْلِمُ. وَالْمُرَادُ ذَوْقُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ مُعَامَلَةَ النَّاكِثِينَ عَنِ الدِّينِ أَوِ الْخَائِنِينَ عُهُودَهُمْ. أَيْ إِنَّ ذَلِكَ السُّوءُ الَّذِي تَذُوقُونَهُ هُوَ سُوءٌ عَظِيمٌ يَنْزِلُ بِكُمْ، وَعِقَابٌ شَدِيدٌ لَكُمْ عَلَى اتِّخاذِكُمُ الأَيْمانَ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، و "صَدَدْتُمْ" هُنَا قَاصِرٌ وليسَ بِمُتَعَدٍّ، والمَعْنَى: بِسَبَبِ كَوْنِكُمْ مُعْرِضِينَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. ذَلِكَ أَنَّ الْآيَاتِ جَاءَتْ فِي الْحِفَاظِ عَلَى الْعَهْدِ الَّذِي يُعَاهِدُونَ اللهَ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى التَّمَسُّكِ بِالْإِسْلَامِ. فالمُرادُ بـ "سَبِيلِ اللهِ" هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ.
قولُهُ: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَعِيدٌ بِعِقَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ السُوءِ في الدنيا، عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكُفْرِ، أَوْ عَلَى مَعْصِيَةِ الغَدْرِ بالْعَهْدِ. وَقَدْ عَصَمَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الِارْتِدَادِ مُدَّةَ مَقَامِ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَكَّة. فَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ عَنِ الإِسْلامِ إِلَّا بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَى حِينَ ظَهَرَ النِّفَاقُ في المدينةِ بعدَ الهجرةِ إِلَيْها، فَكَانَ ما كانَ مِنْ أَمْرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، ثُمَّ تَابَ وَقَبِلَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَوْبَتَهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} الواوُ: استِئْنافيَّةٌ، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ. و "تَتَّخِذُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيةِ وعلامةُ جزْمِهِ حذْفُ النونِ منْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والألفُ فارقةٌ. و "أَيْمَانَكُمْ" مفعولٌ بهِ أَوَّلُ مَنْصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. و "دَخَلًا" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ. و "بَيْنَكُمْ" بَيْنَ منصوبٌ على الظرفيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "دَخَلًا" وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ سَبَبِيَّةٌ، و "تَزِلَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ الفاءِ السَبَبِيَّةِ الواقِعَةِ فِي جَوابِ النَّهْيِ. و "قَدَمٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "بَعْدَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ مُضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَزِلَّ". و "ثُبُوتِهَا" مَجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، مضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُملةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ المَوْصولِ الحَرْفِيِّ "أَنْ" المُضْمَرَةِ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الواوُ: للعطفِ، و "تَذُوقُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ معوفٌ عَلَى "تَزِلَّ" منصوبٌ مثلهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لآنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "السُّوءَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ. والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ على جملةِ "تزلَّ" على كونِها صِلَةَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "أَنْ" مَعَ صِلَتِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطُوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الجُمْلَةِ التي قَبْلَها، مِنْ غَيْرِ سابِكٍ لإِصْلاحِ المَعْنَى، وَالتَقْديرُ: لا يَكُنِ اتِّخَاذِكُمْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَزَلَّةُ قَدَمٍ بَعْدَ ثُبُوتِها وَذَوْقُكُمُ السُّوءَ. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ وسَبَبٍ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَذُوقُوا". وَ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ. وَ "صَدَدْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "عَنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بـ "صَدَدْتُمْ"، و "سَبِيلِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، والجملةُ صِلةُ "ما" المَصِدَريَّةِ، وجُمْلَةُ "صَدَدْتُمْ" الفِعْلِيَّةِ مَعَ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالباءِ، والتَقْديرُ: بِسَبَبِ صَدِّكُمْ عَنْ سَبيلِ اللهِ.
قولُهُ: {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وَلَكُمْ: الواوُ: حاليَّةٌ. واللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّرٍ مُقَدَّمٍ. وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "عَذَابٌ" مُبْتَدَأٌ مَرْفوعٌ مُؤَخَّرٌ. وَ "عَظِيمٌ" صِفَةٌ للمُبْتَدَأِ مَرْفوعَةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ (الذي هو واوُ الجماعةِ) في قولِهِ "تَذُوقُوا".