فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
قولُه سبحانه: {فَكَيْفَ} استعظامٌ وتهويلٌ وهدمٌ لِما استندوا إليه، {لِيَوْمِ} أي في يوم أو لِجزاءِ يومٍ {لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في وُقوعِه ووقوعِ ما فيه، رُويَ أنَّه أوَّلُ رايةٍ تُرفع لأهلِ المَوقِفِ مِن راياتِ الكفَّارِ رايةُ اليهود فيَفضحُهم اللهُ تعالى على رؤوس الأشهادِ ثمَّ يأمرُ بهم إلى النار {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي ما عملت من خيرٍ أو شرٍّ، والمُرادُ جزاءُ ذلك إلَّا أنَّه أُقيمَ المَكْسوبُ مقامَ جزائه إيذاناً بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتّى كأنَّهما شيءٌ واحدٌ {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} شيئاً فلا يُنقَصون مِن ثَوابِهم ولا يُزادون في عذابِهم بل يُعطى كلٌّ منهم مِقدارَ ما كَسِبَه، والضميرُ راجعٌ إلى كلِّ إنسانٍ "كلُّ نفسٍ"، و"كل" يجوزُ مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر.
وفيه دَلالةٌ على أنَّ العِبادةَ لا تُحبَطُ وأنَّ المؤمنَ لا يَخلُدُ في النَّارِ {وهم} أي كلُّ الناسِ "نفس" {لا يظلمون} بزيادةِ عذابٍ أو بِنقصِ ثوابٍ بل يُصيبُ كلًا منهم مقدارُ ما كَسبه فالله تعالى ليس من شأنه العظيم أنْ يَظلِمَ عبادَه ولو مثقالَ ذرَّةٍ فيُجازي المؤمنين بإيمانهم والكافرين بكفرهم
فعلى العاقل أنْ لا يَقطعَ رجاءه مِنَ اللهِ تعالى وإن كانت ذنوبُه مثلَ زبدِ البحر فالله تعالى عند حُسْنِ ظنِّ العبدِ به. رُوي أنَّه إذا كان يومُ القيامةِ وسَكَنَ أهلُ الجنَّةِ الجَنَّةَ وأهلُ النّارِ النارَ إذا بصوتٍ حزينٍ يُنادي مِن داخل النَّار يا حنَّانُ يا منَّانُ يا ذا الجَلالِ والإكرام فيقولُ اللهُ تعالى يا جبريلُ أخْرِجْ هذا العبدَ الذي في النَّارِ، قال فيُخرجُه أسودَ كفَرْخِ الحَمامِ قد تَناثَرَ لحمُه وذابَ جِسمُه فيُنادي يا جبريلُ لا تُوقِفْني بينَ يدي اللهِ فافزَع فيؤتى به إلى اللهِ فيَقول له عبدي أَتذكُر ذنبَ كذا وكذا في سنة كذا وكذا؟ فيقولُ نعم يا ربّ فيقولُ اللهُ اذهبوا بعبدي إلى النار، فيَكون مِن العبدِ التفاتٌ، فيَقول اللهُ رُدّوا عبدي إليَّ، فيُرَدُّ إليه فيقول له: عبدي ما كان التفاتُك؟ ـ وهو أعلم ـ فيقولُ يا ربِّ أذنبتُ ولم أقطعْ رجائي منك، وحاسبتني ولم أقطعْ رجائي منك، وأدخلتني النارَ ولم أقطع رجائي منك، وأخرجتني منها إليْك ولم أقطعْ رجائي منك، ثم رَدَدْتَني إليها ولم أقطعْ رجائي منك، فيقولُ اللهُ تبارك وتعالى وعزَّتي وجَلالي وارتفاعي في علوِّ مكاني لأكوننَّ عندَ ظَنِّ عبدي بي ولأُحقِّقَنَّ رجاءه فيَّ، اذهبوا بعبدي إلى الجنَّةِ.
جاء في حديث ضعيف السند عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((ليس على أهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحشةٌ عندَ الموتِ ولا في قُبورِهم ولا في مَنْشَرِهم كأنّني بأهلِ لا إلهَ إلَّا اللهُ يَنفضون الترابَ عن رُؤوسهم وهم يقولون الحمدُ للهِ الذي أذهبَ عنّا الحَزَنَ)). والحديث وإن
كان ضعيفاً إلّا أن معناه ليس ببعيد عن إكرام الله للمؤمنين به.
قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا} كيف: منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ تقديرُه: كيف يكونُ حالُهم؟، وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ الكونُ تاماً، فيَجيء في "كيف" الوجهان المتقدِّمان في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} البقرة: 28 من التشبيه بالحال أو الظرف، كما يُحتَمَلُ أنْ تكونَ الناقصةَ فتكونَ "كيف" خبرَها، وقَدَّر بعضُهم الفعلَ فقال: "كيف يَصْنعون" فـ "كيف" على ما تقدَّم من الوجهين، ويجوزُ أَنْ تكونَ "كيف" خبراً مقدَّماً، والمبتدأُ محذوفٌ، تقديرُه: فكيف حالُهم؟.
قوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} ظرفٌ مَحْضٌ من غيرِ تضمينِ شرطٍ، والعاملُ فيه العاملُ في "كيف" إنْ قلنا إنَّها منصوبةٌ بفعلٍ مقدَّرٍ كما تقدَّم تقريرُه، وإنْ قلنا: إنَّها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ وهي منصوبَةٌ انتصابَ الظروفِ كانَ العاملُ في "إذا" الاستقرارَ العاملَ في "كيف" لأنَّها كالظرفِ. وإنْ قلْنا: إنَّها اسمٌ غيرُ ظرفٍ، بل لِمجرَّدِ السؤالِ كان العاملُ فيها نفسَ المبتدأ الذي قَدَّرناه، أي: كيف حالُهم في وقت جَمْعِهم.
قوله: {لِيَوْمٍ} متعلِّقٌ بـ "جَمَعْناهم" أي: لقضاء يومٍ أو لِجزاء يوم و{لاَّ رَيْبَ فِيهِ} في صفةٌ للظرف.