عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة آل عمران، :الآية: 18 الخميس نوفمبر 08, 2012 10:13 am | |
| شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَدِمَ عَلَيْهِ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ أَهْلِ الشَّامِ، فَلَمَّا أَبْصَرَا الْمَدِينَةَ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْمَدِينَةَ بِصِفَةِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ!. فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَاهُ بِالصِّفَةِ وَالنَّعْتِ، فَقَالَا لَهُ: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ (نَعَمْ). قَالَا: وَأَنْتَ أَحْمَدُ؟ قَالَ: (نَعَمْ). قَالَا: نَسْأَلُكَ عَنْ شَهَادَةٍ، فَإِنْ أَنْتَ أَخْبَرْتَنَا بِهَا آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ. فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سَلَانِي). فَقَالَا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَعْظَمِ شَهَادَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ" فَأَسْلَمَ الرَّجُلَانِ وَصَدَّقَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِأُولِي الْعِلْمِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وقيل المهاجرون والأنصار. وقيل مؤمنو أَهْلِ الْكِتَابِ. وقيل هي في الْمُؤْمِنُينَ كُلِّهُمْ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِأَنَّهُ عَامٌّ. وفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللَّهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} فلو كان شيءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ. وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)). وَقَالَ: ((الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ)). وَهَذَا شَرَفٌ لِلْعُلَمَاءِ عَظِيمٌ، وَمَحَلٌّ لَهُمْ خَطِير فِي الدِّينِ ٌ. وَخَرَّجَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْغَنِيِّ الْحَافِظُ عَنِ الْبَرَاءِ قال قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ يُحِبُّهُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمُ الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ إِذَا مَاتُوا إِلَى يَوْمِ القيامة)). رَوَى غَالِبٌ الْقَطَّانُ قَالَ: أَتَيْتُ الْكُوفَةَ فِي تارة فَنَزَلْتُ قَرِيبًا مِنَ الْأَعْمَشِ فَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أَرَدْتُ أَنْ أَنْحَدِرَ إِلَى الْبَصْرَةِ قَامَ فَتَهَجَّدَ مِنَ اللَّيْلِ فَقَرَأَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ.." قَالَ الْأَعْمَشُ: وَأَنَا أَشْهَدُ بِمَا شَهِدَ اللَّهُ بِهِ، وَأَسْتَوْدِعُ اللَّهَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، وَهِيَ لِي عِنْدَ اللَّهِ وَدِيعَةٌ، وَإِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ـ قَالَهَا مِرَارًا ـ فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ وَوَدَّعْتُهُ ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فَمَا بَلَغَكَ فِيهَا؟ أَنَا عِنْدَكَ مُنْذُ سَنَةٍ لَمْ تُحَدِّثْنِي بِهِ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا حَدَّثْتُكَ بِهِ سَنَةً. قَالَ: فَأَقَمْتُ وَكَتَبْتُ عَلَى بَابِهِ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَمَّا مَضَتِ السَّنَةُ قُلْتُ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ قَدْ مَضَتِ السَّنَةُ. قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُجَاءُ بِصَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدِي عَهِدَ إِلَيَّ وَأَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى أَدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ)). وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَرَأَ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عِنْدَ مَنَامِهِ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). وَيُقَالُ مَنْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَنْ عَقْدٍ مِنْ قَلْبِهِ فَقَدْ قَامَ بِالْعَدْلِ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا لِكُلِّ حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ صَنَمٌ أَوْ صَنَمَانِ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَصْبَحَتِ الْأَصْنَامُ قَدْ خَرَّتْ سَاجِدَةً لِلَّهِ. قولُه جَلَّ ذِكرُه: {شَهِدَ اللهَ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي عَلِمَ اللهُ وأَخْبَرَ اللهُ وحَكَمَ اللهُ بأنَّهُ لا إلهَ إلّا هو، فهو شهادةُ الحَقِّ للحَقِّ بأنَّه الحقُّ، وأوَّلُ مَنْ شهدَ بأنَّه اللهُ اللهُ، فهو لِوُجودِه مُفْصِحٌ، ولِرُبوبيَّتِهِ مُوضَّح، وعلى قِدَمِه شاهدٌ، وللعقول مُخْبِر بأنّه واحدٌ، عزيزٌ ماجدٌ. فـ "شهد" أَيْ بَيَّنَ وَأَعْلَمَ، كَمَا يُقَالُ: شَهِدَ فُلَانٌ عِنْدَ الْقَاضِي إِذَا بَيَّنَ وَأَعْلَمَ لِمَنَ الْحَقُّ، أَوْ عَلَى مَنْ هُوَ. والشَّاهِدُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الشَّيْءَ وَيُبَيِّنُهُ، فَقَدْ دَلَّنَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ بِمَا خَلَقَ وَبَيَّنَ.قولُه جَلَّ ذِكرُه: {وَالمَلاَئِكَةِ} لم يؤيِّد شهادتَه بوحدانيَّتِه بشهادة الملائكة بل أسعدهم وأيَّدُهم، حين وفَّقَهم بشهادة وسدَّدهم، وإلى معرفة وحدانيَّتِه أرشدهم.قوله جلّ ذِكرُه: {وَأُولُوا العِلْمِ} هم أولياء بني آدم إذ علموا قدرته، وعَرَفوا نعتَ عِزَّتِه فأَكرَمَهم حيث قَرَنَ شهادتَه بشهادتِهم، فشهدوا عن شهودٍ وتَعيينٍ، لا عنْ ظَنٍّ وتَخمين، وأُولو العلم على مراتب: فَمِنْ عالِمٍ يَعرِفُ أحكامَ حلالَه وحرامَه، وعالمٍ يَعلمُ أخبارَه وسُنَنَهُ وآثارَه، وعالِمٍ يَعلَمُ كِتابَه ويَعرِفُ تفسيرَه وتأويلَه، ومُحْكَمَه وتَنزيلَه، وعالِمٍ يَعلَمُ صِفاتِه ونُعوتَه.قوله تعالى: {شَهِدَ الله} العامةُ على "شَهِدَ" فعلاً ماضياً مبنيًّا للفاعلِ، والجلالةُ الكريمةُ رفعٌ بهِ. وقرأ أبو الشعثاء: "شُهِدَ" مُبيِّنًا للمفعول، والجلالةُ المعظمةُ قائمةٌ مقامَ الفاعلِ، وعلى هذه القراءةِ، فيكونُ {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} في محلِّ رفعٍ بَدَلاً من اسْمِ اللهِ تعالى بدلَ اشتمالٍ، تقديرهُ: شَهِدَ وَحدانيَّةَ اللهِ وأُلوهيَّتَهُ، ولمَّا كان المعنى على هذه القراءةِ كذا أَشْكَلَ عَطْفُ {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} على الجلالةِ الكريمةِ، فَخُرِّج ذلك على عَدَمِ العَطْفِ، بل: إمَّا على الابتداءِ والخبرُ محذوفٌ لدلالةِ الكلامِ عليه تقديرُه: والملائكةُ وأولو العلمِ يَشهدون بذلك، يَدُلُّ عليه قولُه تعالى: {شَهِدَ الله}، وإمَّا على الفاعليَّةِ بإضمارِ محذوفٍ، تقديرُه: وشَهِدَ الملائكةُ وأولو العلم بذلك، وهو قريبٌ من قولهِ تعالى: {يُسَبَّح لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} النور: 36 في قراءةِ مَنْ بناه للمفعول، وقولُ ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد: لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... . . . . . . . . وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُفي أحد الوجهين. وقرأ أبو المهلب عمُّ محارب بن دثار: "شُهداءَ الله" جمعاً على فُعَلاء كظُرَفاء منصوباً، ورُوي عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك، إلّا أنَّه مرفوعٌ، وفي كِلتا القراءتيْن مضافٌ للجَلالَة. فأمَّا النَّصْبُ فعلى الحالِ، وصاحبُها هو الضميرُ المستتِرُ في "المستغفرين" قالَه ابنُ جِنِّي، وتَبِعَه غيرُه كالزمخشري وأبي البقاء. وأمَّا الرفعُ فعلى إضمارِ مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله. و"شهداء" يَحْتمل أن يكونَ جمعَ شاهد كشاعِر وشُعَراء، وأَنْ يكونَ جمعَ شهيدٍ كظريفٍ وظُرَفاء.وقرأ أبو المهلَّب أيضاً في رواية: "شُهُداً اللهَ" بضمِّ الشين والهاء وبالتنوين ونصبِ الجلالةِ المعظمةِ، وهو منصوبٌ على الحالِ، جمعُ شهيدٍ نحو: نَذِيرٍ ونُذُرٍ، واسمُ اللهِ منصوبٌ على التعظيم أي: يَشْهدون اللهَ أي: وحدانيتَه.ورَوى النقَّاشُ أنَّه قُرئَ كذلك، إلّا أنَّه قال: "برفعِ الدال ونصبِها" والإِضافةُ للجَلالةِ المُعَظَّمَةِ. فالنَّصْبُ والرَّفعُ على ما تقدَّم في "شهداء"، وأمَّا الإِضافةُ فتَحْتَمِلُ أنْ تكونَ مَحْضَةً، بمعنى أنَّك عَرَّفْتَهم بإضافتِهم إليه مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ لِحُدوثِ فِعْلٍ، كقولِكَ: عباد الله، وأَنْ تكونَ مِنْ نصبٍ كالقراءةِ قبلَها فتكونَ غيرَ محضةٍ. وقد قُرئ: "شُهَداء لله" جَمْعاً على فُعَلاء وزيادةِ لامِ جَرٍّ داخلةً على اسْمِ اللهِ، وفي الهمزةِ الرفعُ والنصبُ وخَرَّجهما على ما تقدَّمَ مِن الحالِ والخَبَرِ.وعلى هذه القراءاتِ كلِّها ففي رفعِ "الملائكة" وما بعدَها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها الابتداءُ والخبرُ محذوفٌ. والثاني: أنَّه فاعلٌ بفعلٍ مقدَّرٍ وقد تَقدَّم تحريرُها. الثالث ذَكَره الزمخشري: وهو النسقُ على الضمير المستكنِّ في "شهداء الله" قال: "وجاز ذلك لوقوعِ الفاصلِ بينهما".قوله : {أنه} العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ، وإنَّما فُتِحَتْ لأنها على حَذْفِ حرفِ، الجَرِّ، أي: شَهِدَ الله بأنَّه لا إله إلا هو، فَلَّما حُذِفَ الحرفُ جازَ أن يكونَ محلُّها نصباً وأنْ يكونَ محلُّها جَرَّاً كما تقدَّم تقديرُه.وقرأ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: "إنه" بكسرِ الهمزةِ، وفيها تخريجان، أحدُهما: إجراءُ "شَهِدَ" مُجْرى القولِ لأنَّه بِمعناه، وكذَا وقَعَ في التفسير: شَهِد الله أي: قال اللهُ، ويُؤيِّدُه ما نَقَله المؤرِّج أنَّ "شَهِد" بمعنى "قال" في لغةِ قيسٍ بنِ عَيلان. والثاني: أنَّها جُملةُ اعتراضٍ بيْن العامِلِ وهو شَهِدَ وبيْن معمولِهِ وهو قولُه {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام}، وجازَ ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيدِ وتقويةِ المعنى، وهذا إنَّما يتَّجهُ على قراءةِ فَتْحِ "أَنَّ" مِن "أنَّ الدينَ"، وأمَّا على قراءةِ الكسرِ فلا يجوزُ، فيتعيَّنُ الوجهُ الأولُ.والضميرُ في "أنه" يَحْتمل العَوْدَ على الباري لتقدُّمِ ذكرهِ، ويَحْتمل أن يكونَ ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: {شَهِدَ الله أَنْ لا إلهَ إلا هو} فـ "أَنْ" مخفَّفةٌ في هذه القراءةِ، والمخفَّفةُ لا تعملُ إلاَّ في ضميرِ الشأنِ ويُحْذَفُ حينئذٍ، ولا تَعْمَلُ في غيرِه إلَّا ضرورةً. وأَدْغَمَ أبو عَمْرٍو بخِلافٍ عنه واوَ "هو" في واوِ النَسَقِ بعدَها وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألةِ في البقرةِ عند قولِه: {هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} الآية: 249.قولُه: {قَائِمَاً بالقسط} في نصبِه أربعةُ أوجه أحدُها: أنَّه منصوبٌ على الحالِ، واختلف القائلُ بذلك: فبعضُهم جَعَلَه حالاً من اسمِ الله، فالعاملُ فيها "شَهِدَ". الوجهُ الثاني: نصبُه على النعتِ للمنفيِّ بلا، كأنَّه قيل: لا إلَه قائماً بالقسطِ إلّا هو. الوجهُ الثالثُ: نصبُه على المدحِ. نحو قول النابغة : أَقارعُ عَوْفٍ لا أُحاولُ غيرَها ............... وجوهَ قرودٍ تَبْتَغي مَنْ تجادِعُفنصب "وجوه قرود" على الذَّمِّ وقبْلَه معرفةٌ وهي "أقارع عوفٍ"، وأمَّا المنصوبُ على الاختصاص فنصُّوا على أنَّه لا يكون نكرةً ولا مُبْهماً، ولا يكونُ إلا معرَّفاً بالألف واللامِ أو بالإِضافةِ أو بالعلميةِ أو لفظِ "أي"، ولا يكونُ إلَّا بعد ضميرٍ مختصٍّ به أو مشاركٍ فيه، وربما أتى بعد ضميرِ مخاطبٍ. والمُرادُ بالمنصوبِ على الاختصاصِ المنصوبُ على إضمارِ فعلٍ لائقٍ، سواءً كان من الاختصاصِ المبوَّبِ له في النحوِ أم لا. الوجهُ الرابع: نَصْبُه على القطع أي: إنَّه كان مِنْ حَقِّه أَنْ يَرْتفعَ نعتاً لله تعالى بعد تعريفِهِ بأل، والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلمَّا نُكِّر امتنع إتباعُهُ فَقُطِعَ إلى النصب. وهذا مذهبُ الكوفيين، ونَقَلَهُ بعضُهم عن الفراء وحدَه، ومنه عندَهم قولُ امرئ القيس: سَوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثِ فُرُوعُهُ ................ وَعَالَيْنَ قِنْواناً مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَاالأصل: مِن البِسْرِ الأحمرِ. ويؤيِّدُ هذا قراءةُ عبدِ الله "القائم بالقسط" برفع "القائم" تابعاً للجلالة. وخَرَّجه الزمخشري وغيرُهُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: هو القائمُ، أو بدلاً من هو. فتحصَّل في رفعِ "القائم" على هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه: النعتُ والبدلُ وخبرُ مبتدأٍ محذوفٍ. ونُقِلَ عن عبد الله أيضاً أنَّه قرأ: "قائمٌ بالقسط" بالتنكير، ورفعُه من وجهي البدل وخبر المبتدأ.وقرأ أبو حنيفة: "قَيِّماً" بالنصبِ على ما تقدَّم. فهذه أربعةُ أوجه. والظاهرُ أنَّ رفعَ "الملائكةُ" وما بعدَهُ عطفٌ على الجَلالةِ المُعظَّمةِ. وقال بعضُهم: الكلامُ تَمَّ عند قولِهِ: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وارتفَعَ "الملائكة" بفعلٍ مُضمَرٍ تقديرُهُ: وشَهِدَ الملائكةُ وأُولو العِلمِ بذلك. وكأنَّ شهادةَ اللهِ مغايرةٌ لشهادةِ الملائكةِ وأُولي العلم، ولا يُجِيزُ إعمالُ المُشتَرَكِ في مَعْنَيَيْهِ فاحتاجَ مِنْ أجلِ ذلك إلى إضْمارِ فعلٍ يُوافِقُ هذا المَنطوقَ لَفظاً ويُخالِفُهُ معنى، وهذا يَجِيءُ نظيرُهُ في قولِهِ تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} الأحزاب: 56. فإنْ قلت: هل دَخَلَ قيامُه بالقسط في حكمِ شهادةِ الله والملائكة وأولي العلم كما دَخَلَتْ الوحدانيةُ؟ قلت: نعم إذا جعلتَهُ حالاً من "هو" أو نصباً على المدحِ منه، أو صفةً للمَنْفِيِّ، كأنَّه قيل: شَهِدَ اللهُ والملائكةُ وأُولو العِلمِ أنَّه لا إلهَ إلّا هو وأنَّه قائمٌ بالقسط.قولُه: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} في هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنَّها مُكرَّرةٌ للتوكيد. ذَكَرَه أولاً للدلالةِ على اختصاصِهِ بالوحدانيةِ، وأنَّه لا إله إلّا تلك الذاتُ المتميِّزَة، ثم ذَكَرَهُ ثانياً بعد ما قَرَن بإثباتِ الوحدانية إثبات العدل للدلالةِ على اختصاصِهِ بالأمرين، كأنَّه قال: لا إله إلا هو الموصوفُ بالصفتين، ولذلك قَرَنَ به قولَه: "العزيز الحكيم" لتضمُّنِها معنى الوحدانية والعدل. وإنما كرَّرَ لا إلهَ إلَّا هو لأنَّ صفاتِ التَنزيهِ أَشرفُ مِنْ صفاتِ التَمجيدِ، لأنَّ أكثرَها مشاركٌ في ألفاظِها العبيدُ فيصِحُّ وَصْفُهم بها، ولذلك وَرَدَتْ ألفاظُ التنزيهِ في حَقِّه أكثرَ وأَبْلَغَ.قولُه: {العزيزُ الحكيمُ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه بدلٌ من "هو". الثاني: أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ. الثالث: أنَّه نعتٌ لـ "هو"، وهذا إنَّما يتمَشَّى على مَذهَبِ الكَسائي، فإنّه يَرى وصفَ الضميرِ الغائبِ، ويتقدَّمُ نحوَ هذا في قوله: {لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} البقرة: 163. | |
|