قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ} أي تُسِرُّوا ما في قلوبِكم مِن الضَّمائرِ التي مِن جُملَتِها وِلايَةُ الكُفَّارِ، وإنَّما ذَكَرَ الصَّدْرَ لأنَّه محلُّ القلبِ {أَوْ تُبْدُوهُ} أيْ تُظهِروه فيما بينَكم. {يَعْلَمْهُ الله} فيُؤاخِذُكم بِهِ عندَ مَصيرِكم إليْه، ولا يَنفعُكم إخفاؤه، فهُوَ ـ سبحانه ـ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الصُّدُورِ وما اشتملت عليه، وبما في السموات وَالْأَرْضِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شيءٌ، سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ. فهو تحذيرٌ تخويفٌ من اللهِ سبحانَه وتعالى، أَمَرَ به نبيَّه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ بأن يُبيِّنَ للناس مِقدارَ علمِه بخفايا نفوسِهم، وعلمِه بالكون وما فيه، {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} إثباتٌ لِصِفَةِ القُدرَةِ بعد إثباتِ صِفةِ العِلْمِ وبذلك يَكمُلُ وجهُ التحذيرِ، فكأنَّه ـ سبحانَه ـ قال: {ويُحذِّرُكُمُ اللهُ نفسَه} لأنَه مُتَّصِفٌ بعِلمٍ ذاتيٍّ مُحيطٍ بالمَعلومات كلِّها وقُدرةٍ ذاتيَّةٍ شاملةٍ للمَقدوراتِ بأسْرِها فلا تَجْسُروا على عِصيانِه ومُوالاةِ أَعدائِه إذْ ما مِنْ مَعصِيَةٍ خفيَّةٍ كانت أو ظاهرةٍ إلَّا وهُو مُطَّلِعٌ عليْها وقادرٌ على العقابِ بِها والإظهارِ في مقامِ الإضمارِ لِما علمتَ. فعلمُه سبحانَه يَعُمُّ الظاهرَ والباطنَ، وإن كوْن الأمر ظاهرا أو باطناً إنَّما هو بالنسبةِ لنا، أمَّا عِلمُ الله تعالى فإنَّه ليس فيه ظاهرٌ وباطنٌ، بل العِلمُ كلُّه سواءٌ بالنسبة له سبحانه، وسيق إثباتُ علمِ الله تعالى وإحاطتُه الشاملةُ في هذا المَقام، للتحذير أيضاً؛ لأنَّ الذين يوالون الكافرين يظنّون في أَنفسِهم ضَعفًا، وقد يُظهرون أنَّ ما يفعلون إنَّما هو تَقِيَّةٌ وخوفٌ من الكافرين، والواقعُ أنَّهم يَفعلون ذلك استِخْذاءً وذِلَّةً، أو تَمَلُّقًا للأقوياءِ أو مُداهنةً لهم على أقوامهم، أو رجاءَ غرضٍ دنيويٍّ ينالونَه، كما نَرى في عصرِنا الحاضرِ، إذْ نَجِدُ أناسًا يُبرِّرون كلَّ خيانةٍ، والدخولَ في وِلايةِ غيرِ المؤمنين بالتَقيَّةِ، وما هو إلَّا ضعفُ وازعِ الدين وفقدُ اليَقين، ورَجاءُ الدُّنيا الذَّليلة، وفَرارٌ من العِزَّةِ والحياةِ السامِيةِ الكريمةِ حقًا وصِدْقًا؛ فأمر اللهُ نبيَّه أنْ يُبيِّنَ أنَّه يَعلَمُ ما تُخفيه الصدور، وما تختلج به القلوب، وما يَنوون وما يقصدون، كما يعلم ما يبدون ويعلنون، وأن الله سبحانَه محاسبُهم على أعمالهم بِنِيَّاتِهم، لَا بظواهِرِ هذه الأعمالِ، ولا بما تتلوى به الأَلْسُنُ، وإنْ كانت مخالفةً لِما تنطوي عليه القلوب. وجعل البيانَ من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن وجّه ـ سبحانَه ـ الترهيبَ بذاتِه العَليَّةِ؛ لأنَّ ذلك التنويعَ مِن شأنِه أنْ يُرْبي المَهابة.
قولُه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ..} بيانٌ لشُمولِ عِلْمِ الله تعالى وشُمولِ قُدرَتِه، فهو يَعلَمُ سرائرَ النُّفوسِ وظواهرَها، كما بَيَّن في الجُملة السابقة، ويعلم الكونَ وما يَجري فيه مِن نجومٍ سارية، وأفلاكٍ دائرةٍ، وشمسٍ مُشْرِقةٍ، وقمرٍ مُنيرٍ، والسَّحابَ وما تَحمل، والرِّياحَ المُسَخَّرات بين السماءِ والأَرضِ، ويعلمُ كلَّ الأحوالِ، وكلَّ الأزمان، وكلَّ اللحظات، وما مِن شيءٍ في هذا الوُجودِ إلَّا تحت سُلطانِ عِلمِه، وفي مُتَعَلَّقِ إرادته، وفي شُمولِ قُدرتِه؛ إنَّه فعّالٌ لِما يُريد؛ فكيف يُتَصَوَّرُ من عاقلٍ أنْ يترك ولايةَ المؤمنين وهم أولياؤه، ويَدخُل في ولايةِ الكافرين وهم أعداؤه؛ فإنْ كانت الولايةُ للعِزَّةِ والقُدرةِ والسُّلطانِ والعلم، فلِلَّهِ وحدَه العِزَّةُ والكِبرياءُ في السماوات والأرض. وقد ذكر ـ سبحانَه ـ شُمول القُدرةِ بعد شمولِ العلم؛ لأنَّ القدرةَ الكاملةَ لا تَكون إلَّا عن العِلمِ الكاملِ، فكمالُ القُدرةِ مِن مَظاهِر كمالِ العِلمِ. وهذا بيان لقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} لأنَّ نفسَه، وهي ذاتُه المتميِّزةُ مِن سائِرِ الذَواتِ مُتَّصفةٌ بعلمٍ ذاتيٍّ، لَا يَختَصُّ بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلِّها، وبقدرةٍ ذاتيَّةٍ لَا تَخْتَصُّ بمقدورٍ دون مقدورٍ، فهي قادرةٌ على المُقدَّراتِ كلِّها، فكان حقّها أنْ تُحْذَرَ وتُتَّقى، فلا يَجْسُرُ أحدٌ على قبيحٍ ولا يَقْصُرُ عن واجبٍ، فإنَّ ذلك مُطَّلِعٌ عليه لَا مَحالةَ فلاحِقٌّ بِه العِقابُ، فما بالُ مَن عَلِمَ أنَّ العالِمَ بالذَّاتِ الذي يعلمُ السِرَّ وأَخفى وهو آمن، ولقد بيَّن ـ سبحانه ـ وقتَ تنفيذِ عقوبتِه المُؤكَّدةِ، وهو يومُ القِيامةِ.
قوله تعالى: {وَيَعْلَمُ} مستأنَفٌ، وليس مَنسوقًا على جوابِ الشرطِ، وذلك أَنَّ عِلْمَه بما في السماواتِ وما في الأرضِ غيرُ مُتوقِّفٍ على شَرْطٍ فلذلك جِيءَ به مُستَأنَفًا.
وفي قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من باب ذِكْرِ العامِّ بعدَ الخاصِّ وهو {مَا فِي صُدُورِكُمْ}.
وقَدَّم هنا الإِخفاء على الإِبداء تأكيداً له وتقريراً، وجَعَلَ محلَّهُما الصدورَ وجعلَ جوابَ الشرطِ العِلم بخلافِ ما في البقرة، فإنَّه قَدَّمَ فيها الإِبداءَ على الإِخفاء، وجَعَل محملَّهُما النفسَ، وجَعَلَ جوابَ الشرطِ المُحاسبةُ، وكلُّ ذلك تفنُّنٌ في البلاغَةِ وتَنَوُّعٌ في الفصاحةِ.