إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ
33
اتفق آدم وذريته في الطينة، وإنَّما الخُصوصيَّةُ بالاصطفاءِ الذي هو من قِبَلِه، لا
بالنَّسَبِ ولا بالسبب.
قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى ءادَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَ..}
روي عن ابنِ عبّاسٍ رضي اللهُ تعالى عنه أنَّ اليَهودَ قالوا: نحنُ أبناءُ إبراهيمَ
وإسْحقَ ويَعقوبَ عليهِمُ الصلاة والسلامُ، ونحن على دينِهم فنزَلَت، وقيل: إنَّ
نصارى نجران لمّا غَلَوْا في عيسى عليه الصلاة والسلامُ وجعلوه ابنَ اللهِ سبحانَه
واتَّخذوه إلهاً نَزَلت رَدًّا عليهم وإعلاماً لهم بأنَّه مِن ذُرِّيَّة البَشَرِ
المُنتقِلين في الأطوارِ المُسْتَحيلةِ على الإلهِ، وهذا وجهُ مناسبةِ الآيةِ لِما
قبلَها. إنَّه سُبحانَه لَمَّا بيَّنَ {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} وإنَّ
اختلافَ أهلِ الكتابيْن فيه إنَّما هو للبَغْيِ والحَسَدِ وأنَّ الفوزَ بِرِضْوانِه
ومَغْفِرتِهِ ورَحمَتِه مَنوطٌ باتِّباعِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلَّمَ شَرَعَ
في تحقيقِ رسالتِه وأنَّه مِن أهلِ بيتِ النبوَّةِ القديمةِ فبدأَ بَبيانَ جَلالةِ
أَقدارِ الرُّسُلِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ وأَتْبَعه ذِكرَ مَبدأِ عيسى وأمِّه
وكيْفِيَّةِ دَعوتِه الناسَ إلى الإيمان تحقيقاً للحَقِّ وإبْطالاً لِما عليه أهلُ
الكتابيْن مِن الإفراطِ والتفريطِ في شأنِهِما ثمَّ بيَّن مُحاجَّتَهم في إبراهيمَ
وادِّعائهم الانْتِماءَ إلى مِلَّتِه ونَزَّه ساحتَه العلِيَّةَ عمّا هم عليه من
اليهوديَّة والنَصرانيَّةِ ثمَّ نَصَّ على أنَّ جَميعَ الرُّسِلِ دُعاةٌ إلى عِبادَةِ
اللهِ تعالى وتوحيدِه وأنَّ أُمَمهم قاطبةً مأمورون بالإيمان بِمَنْ جاءَهم مِن
رسولٍ مُصَدِّقٍ لِما معهم تَحقيقًا لِوُجوبِ الإيمان بالرسول محمّدٍ عليه الصلاة
والسلام وتحتم الطاعة له حَسْبَما يأتي تَفصيلُه. وبدأ بآدمَ عليه الصلاةُ والسلامُ
لأنَّه أَوَّلُ النَّوعِ، وثَنّى بِنوحٍ عليه الصلاة والسلامُ لأنَّه آدمُ الأَصْغرُ
والأبُ الثاني وليس أحدٌ على وَجْهِ البَسيطَةِ إلَّا مِنْ نَسْلِهِ لِقولِه سبحانَه:
{وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الباقين}
الصافات: 77 وذكر آل إبراهيمَ لِترغيبِ المُعترفين باصْطِفائِهم في الإيمانِ
بِنُبوَّةِ واسِطَةِ قِلادَتِهم واسْتِمالتِهم نحوَ الاعْتِرافِ باصْطِفائه بوساطة
كونِه مِن زُمرتِهم وذكرَ آلَ عمرانَ مع انْدِراجِهم في الآل الأوَّلِ لإظهارِ مَزيدِ
الاعتِناءِ بأمرِ عيسى عليه الصلاة والسلامُ لِكمالِ رُسُوخِ الاخْتِلافِ في شأنِهِ
وهذا هو الداعي إلى إضافَةِ الآلِ في الأخيريْن دون الأوَّليْن. وقيل: المُرادُ
بالآلِ في المَوضِعيْن بِمعنى النفسِ أي اصْطفى آدمَ ونوحاً وإبراهيمَ وعمران، وذَكَرَ
الآلَ فيهما اعْتِناءً بشأنِهما، والمُرادُ بآلِ إبراهيمَ كما قال مقاتلٌ: إسماعيلُ
وإسحاقُ ويَعقوبُ والأسْباطُ، ورُويَ عن ابنِ عبَّاسٍ والحَسنِ رضي الله تعالى
عنهم أنَّهم مَن كان على دينِه كآلِ محمَّد صلى الله عليه وسلم في أحَدِ الإطلاقات،
وقال الحسنُ ووَهْبٌ أنَّ المُقصودَ بآلِ عُمرانَ هم عيسى وأمُّه مريمُ بِنْتُ عُمْرانَ
بنِ ماثان مِن وَلَدِ سُلَيْمانَ بنِ داوود عليهم السلامُ، وقيل: المُرادُ هما
موسى وهارون عليهما السلام، فعِمرانُ حينئذٍ هو عُمرانُ بنُ يَصهرَ أبو موسى وبين
العُمرانيْن ألفٌ وثَمانمئةِ سنةٍ، والقول الأول هو الأرجح لأنَّ السورةَ تُسمى آل
"عمران" ولم تَشْرَحْ قصَّةَ عيسى ومريم في هذه السورة، وأما موسى
وهارون فلم يُذكَرْ فيها مِن قِصَّتِهما طَرَفٌ، فدلَّ ذلك على أنَّ عُمرانَ المَذكورَ
هو أبو مريمَ، ومما يرجح كون المراد به هو عمران أبو مريم أنَّ اللهَ تعالى ذكر
اصطفاءها بعد ونَصَّ عليه وأنَّه قال سبحانَه.{إِذْ قَالَتِ امرأت عمران} آل عمران: 35 الخ، والظاهر
أنَّه شَرْحٌ لِكيْفيَّةِ الاصْطِفاءِ المُشارِ إليه بقوله تعالى: {إِنَّ الله}
فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيَسبِقُ الذِّهنُ إلى أنَّ الثاني هو الأوَّلُ،
وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع، وترجيحُ القول
الأخيرِ بأنَّ موسى يُقرَنُ بإبراهيم في الذِّكْرِ ليس في القوَّةِ كَمُرَجِّحِ
الأوَّلِ كما لا يخفى. والمُرادُ بالعالمين أهل زمان كلِّ واحدٍ منهم أيْ اصطفى كلَّ
واحدٍ منهم على عالَمِ زمانه، ويدخل الملك في ذلك، والتأويل خلاف الأصل. ومن هنا
استدلَّ بعضُهم بالآيةِ على أفضليَّةِ الأنْبياءِ على الملائكة، ووجْهُ الاصطفاء
في جميع الرسلِ أنّه سبحانَه خصَّهم بالنفوسِ القدسيَّةِ وما يليق بها من المَلَكاتِ
الروحانيَّةِ والكَمالاتِ الجِسْمانيَّةِ حتّى إنّهم امتازوا كما قيل على سائرِ
الخَلْقِ خلْقاً وخُلُقاً وجُعِلوا خزائنَ أسرارِ اللهِ تعالى ومظهرَ أسمائه وصفاتِه
ومحلَّ تجلِّيه الخاص منْ عِبادِه ومَهبِطَ وحْيِهِ ومُبَلِّغَ أمْرِه ونَهْيِه،
وهذا ظاهرٌ في المُصْطَفين المذكورين في الآية من الرسل، وأمَّا مريمُ فلها الحظُّ
الأَوفَرُ من بعضِ ذلك، وقيل: اصطفى آدم بأنْ خلَقَه بَيَديْه وعَلَّمَه الأسماءَ
وأَسْجَدَ له الملائكةَ وأَسْكَنَه جِوارَه، واصطفى نوحاً بأنَّه أوَّلُ رَسولٍ بُعِثَ
بتحريمِ البَناتِ والأَخَواتِ والعَمَّاتِ والخالاتِ وسائرِ ذوي المَحارِمِ وأنَّه
أبُ الناسِ بعدَ آدمَ وباستجابةِ دعوتِه في حَقِّ الكَفَرَةِ والمؤمنين، واصطفى آلَ
إبراهيمَ بأنْ جَعلَ فيهم النُّبوَّةَ والكتاب، ويكفيهم فخراً أن سَيِّدَ الأصْفياءِ
منهم، واصْطفى عيسى وأمَّه بأنْ جعلَهُما آيةً للعالَمين.
وإن
أُريدَ بآلِ عِمْرانَ مُوسى وهارونَ فَوَجهُ اصْطفاءِ مُوسى عليه الصلاة والسلامُ
تَكليمُ اللهِ تعالى إياه وكتابةُ التوراةِ لَه بيدِه، ووجْهُ اصطفاءِ هارونَ جَعْلُه
وزيراً لأخيه، وأمّا اصْطِفاءُ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ فمَفهومٌ بطريقِ
الأَوْلى وعدم التصريحِ به للإيذان بالغِنى عنه لِكَمالِ شُهرة أَمرِه بالخِلَّة
وكونِه شيخَ الأنْبياءِ وقدوةِ المرسلين، وأمَّا اصْطِفاءُ نبيِّنا صلى الله عليه
وسلَّم فيُفهَمُ مِن دُخولِه في آلِ إبراهيمَ كَما أَشرنا إليه ويَنضمُّ إليه أنَّ
سِياقَ هذا المَبحَثِ لأجلِه كما يَدلُّ عليه بَيانُ وجهِ المُناسَبةِ. ومِنَ
الناس مَن قال: المُرادُ بآلِ إبراهيمَ مُحَمَّدٌ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ فجعلُه
كأنَّه كلُّ الآلِ مبالغةً في مَدحِه.
وقد أخرج ابنُ عساكِرَ وغيرُه عن ابن عبّاسٍ رضي الله تعالى عنهما أنَّه فسَّرَ الاصْطِفاءَ
هنا بالاختيارِ للرِسالةِ.
قولُه:
{وَنُوحا} نوح: اسمٌ أعجميٌّ لا اشْتِقاقَ له عندَ مُحَقِّقيِّ النَحْوِيِّين، وإنْ زَعَم بعضُهم أنَّه
مُشتَقٌّ مِن النُّواحِ، وهو منصرفٌ وإنْ كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان: العَلَمِيَّةُ
والعُجْمَةُ الشخصيَّةُ لِخفَّةِ بِنائهِ بكونِهِ ثُلاثيًّا ساكنَ الوَسطِ، وقد
جَوَّزَ بعضُهم منعَه قياساً على "هند" وبابِها لا سماعًا إذ لم يُسْمَعْ
إلَّا مصروفاً.
وادَّعى الفرّاءُ أنَّ في الكلام حذفَ مُضافٍ تقديرُهُ: إنَّ الله اصطفى دينَ
آدم. قال التبريزي : وهذا ليسَ بشيءٍ، لأنَّه لو كان الأمرُ على ذلك لَقِيلَ:
ونوحٍ إذ الأصل: دين آدمَ ودين نوحٍ، وهذه سَقْطَةٌ فاحشة من التبريزي، إذْ لا يَلزَم
أنّه إذا حُذف المضافُ بقي المُضافُ إليه مجروراً حتى يَرُدَّ على الفراء بذلك، بل
المَشهورُ الذي لا تَعْرِفُ الفُصحاءُ غيرَه إعرابُ المُضافِ إليه بإعرابِ المضافِ
حينَ حَذْفِه، ولا يجوزُ بقاؤُهُ على جَرِّه إلَّا في قَليلٍ مِن الكلامِ بشرطٍ
ذُكِرَ في النحو، وسيأتي لك في الأنفال، وكان ينبغي على رأي التبريزي أن يكون
قولُه تعالى: {وَسْئَلِ القرية} يوسف: 82 بجرِّ "القرية" لأنَّ الكلَّ ـ
هو وغيرُه ـ يقولون: هذا على حَذْفٍ تقديرُه: "أهلَ القرية".
و "عِمْران" اسمٌ أعجمِيٌّ. وقيل: عربيٌّ مشتَقٌّ مِن العَمْر، وعلى كلا
القوليْن فهو ممنوعُ الصرف: إمَّا للعلَميَّة والعجمة الشخصية، وإمَّا للعلَمية
وزيادة الألف والنون.
قوله
تعالى: {عَلَى العالمين}
متعلقٌ بـ "اصطفى"،
فإنْ قيلَ: اصطفى يتعدَّى بِمَن نحو: اصطفيتُك مِنَ الناس. فالجوابُ أنَّه ضُمِّنَ
معنى "فَضَّلَ" أي: فَضَّلَهم بالاصطِفاء.