أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
{أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالُهم ..} استئناف، وما فيه من البعد على المشهور للإيذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال والمتَّصفون بتلك الصفاتِ الشنيعةِ الذين بَطُلت أعمالُهم وسقطت عن حيِّزِ الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تُحقن دماؤهم وأموالهم ولم يستحقُّوا بها مدحاً وثناءً وفي الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب، وهذا شامل للأعمال المتوقِّفة على النيَّة ولغيرها. وأصله من الحَبطِ، أي فساد بطونِ الماشية من مأكَلِ الربيع، ولذلك قال عليَه الصلاة والسلام: ((إنَّ مما يُنبِت الربيعُ ما يَقتُلُ حَبَطاً أو يُلمُّ)). ومِن الناس مَن ذهب إلى أنَّ العملَ غيرَ المتوقِّفِ على النيَّة كالصدقة وصِلةِ الرَّحِمِ يَنتفع به الكافرُ في الآخرة ولا يُحبَطُ بالكُفر، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول، وإنْ أُريدَ ما يَشمَلُ القِسمين التزمَ كونَ هذا الحكم مخصوصاً بطائفةٍ مِن الكفار وهم الموصوفون بما تقدَّم من
الصفات وفيه تأمُّلٌ.
قولُه تعالى: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ينصرونهم من بأس اللهِ تعالى
وعذابِه في أحد الدارين، وجمع الناصر لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدُّدِ الأنصار لِكلِّ واحدٍ منهم وقد يُدَّعى أنَّ مجيءَ الجمعِ هنا أحسنُ من مجيء المُفرَدِ لأنَّه رأسُ آيةٍ، والمُراد من انتفاءِ الناصرين انتفاءُ ما يترتَّب على النصر من المنافع والفوائد، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، لما كان القصد بهذه الآيات تثبيت الوحدانية ونفي الكثرات، نبّه بلفظ الجمع على أن ناصر الناس واحد، فكأنه قال: ما للناس ناصرون، بل لهم ناصر واحدٌ، فيجب أن يُطلب مرضاته ويُتحرّى مرسوماته.
ثمَّ إنَّ هذا الحكمَ وإنْ كان عامًّا لسائرِ الكفّارِ كما يُؤذِنُ به قوله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} البقرة: 270. إلَّا أنَّ له هنا موقِعًا حيث إنَّ هؤلاء الكفرةَ وُصِفوا بأنَّهم يقتلون الذين يأمُرون بالقِسْطِ وهم ناصرو الحقِّ على ما أشار إليه الحديثُ ولا يُوجد فيهم ناصرٌ يحول بينَهم وبينَ قتْل أولئك الكرامِ فقُوبِلوا لذلك بعذابٍ لا ناصرَ لهم منه ولا مُعين لهم فيه. ومِن الناسِ مَنْ زَعَمَ أنَّ في الآية مقابلةُ ثلاثةِ أشياءٍ بثلاثِ: الكفر بالعذاب وقتل الأنبياء بحبط الأعمال، وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى.
و{أولئك الذين} أولئك: الإِشارة بلفظ البعد، للقريب للتعظيم في المدح، أو الذم. وهو مبتدأٌ، والموصول "الذين" خبرُه، وجملة {فَبَشّرْهُم} في الآية السابقة معترضة بالفاء كما في قولك زيد فافهم رجلٌ صالح، ومَن قال: إنَّ الفاء جزائية وجوابها مقدَّمٌ فقد جانب الصواب. وقرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن بفتحِ الباء: "حَبَطَتْ" وهي لغةٌ معروفةٌ.