تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
(27)
قوله تبارك وتعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} مظهر حِسِّيٌّ لقُدرةِ اللهِ تعالى في هذا الكون. و"تولج" معناها تُدخل، أي تدخل الليل في النهار وتدخل النهار في الليل. وقد فسَّرَ بعضُ العُلَماءِ دخولَ الليلِ في النهارِ بزيادة الليل حتّى يصلَ إلى أَقصى الزيادة، وفي هذا الوقت ينقص النهار حتى يصل إلى أقصى النقصان، وكذلك دخول النهار في الليل فمعناه أن يأخذ النهارُ جزءًا من مُعدَّلِ النسبة بينهما وهو تساويهما، فيدخل النهارُ في الليل. فاللّيلُ لَا يَنقلِبُ نهارًا دفعة واحدة، بل إنَّه يَدخُل النهارُ في الليلِ شيئًا فشيئًا، فيَبتدئُ النورُ بالدخول في الظلمة شيئًا فشيئًا، يبتدئ الفجر الكاذب فالصادق، فتنفس الصبح لحظة بعد لحظة، والنور يغزو الظلمة حتى تنجاب غياهِبُها، فيكونَ الضوءُ الساطعُ؛ وكذلك لَا يجيء الليل دفعة واحدة، بل يبتدئ الضوء يضعف من الأصيل حتى تجيء الغروب، ثم تجيء العشيَّة، فيكون ظلام وتُمحى آية النهار.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيِّ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: "تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ" الْآيَةَ، أَيْ تُدْخِلُ مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، حَتَّى يَصِيرَ النَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَهُوَ أَطْوَلُ مَا يَكُونُ، وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَهُوَ أَقْصَرُ مَا يَكُونُ. وَكَذَا "تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ". وَتَحْتَمِلُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَأَنَّ زَوَالَ أَحَدِهِمَا وُلُوجٌ فِي الْآخَرِ.
وإن توجيه الأنظار إلى دخول الليل في النهار، ودخول النهار في الليل، فيه توجيهُ الأذهان إلى عَظَمَةِ الكونِ وكمالِ سُلطانِه سبحانَه وتعالى فيه، فما كان تعاقُبُ الليلِ والنهارِ وتَداخلُهما إلَّا ظاهرةً لِدورانِ الأَرْضِ حولَ الشمسِ، وحركةِ الفُلكِ الدوَّارِ المستمرَّةِ الدائبةِ بقدرة الله تعالى وقيامِه على كلِّ شيءٍ، وفي " الليل تبدو الكواكب والنجوم، وتظهر آيات ذلك النظام العجيب المحكم الذي يسيره سبحانه بقدرته وحكمته.
قولُه تعالى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} هذا مظهر كونيٌّ حِسّيٌّ يدل على عظيم قدرة الله، وبيان أنه لَا إرادة في هذا الكون غيرُ إرادتِه، وأنَّه القادرُ على كلِّ شيءٍ، يُخْرِجَ الضِدَّ مِن ضدِّه، وهو المُبدِعُ لِكِلَيْهِما، المُسيِّرُ لهما؛ فالله ـ سبحانَه ـ يُخرج الحيَّ من الميِّتِ، ويَجعل من هذا الحيِّ الذي أَخرَجه ميْتًا؛ وإخراج الحيّ من الميِّتِ ليس هو الخلق الأوَّل الذي ذرأ الله به الأحياء، وهو خلق آدم من طين، فإنَّ الخلقَ غيرُ الإخراجِ؛ إذِ الخلقُ إبداعٌ وإنْشاءُ ابتِداء، والله هو الخلاق العليم، ولا خالق سواه، والإخراج تحويل فيه معنى الاستخراج والتوليد؛ وإخراج الله الحيّ من الميت قال بعض العلماء وهم الأكثرون: إنه إخراج الجِسم النامي الذي يَسيرُ في مَدارِجِ الحياةِ، مِن الجِسْمِ الجافِّ الذي لَا تبدو فيه حياةٌ، كإخراجِ الشَّجرةِ مِن النّواةِ، والعُودَ مَن البِذرةِ؛ وإخراجُ المَيِّتِ مِن الحي هو أيضا إخراجُ النواةِ الصُّلْبَةِ مِن الجِسمِ الحيّ النامي، وإخراج البذرة الجافة من العود الحي الرَّطْبِ. وقد يُعترض على ذلك بأنَّ النواةَ الجافَّةَ والبِذرةَ الصلبة فيها حياةٌ تولدت عنها تلك الحياة المحسوسة للنبات، وكذلك النطفة التي تبدو سائلًا ليس فيه حياة فيها أحياء تتوالد فتكون ذلك الحيوان المحسوس. والجوابُ عن ذلك بأنَّ ذلك اصطلاح علمي، وإن الحياة التي تعرفها اللغة مظهر ذلك النماء المتدرج المستمر.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ
الْمَيِّتِ} فَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ تُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَإِذَا بِامْرَأَةٍ حَسَنَةِ الْهَيْئَةِ قَالَ: ((مَنْ هَذِهِ))؟ قُلْنَ إِحْدَى خَالَاتِكَ. قَالَ: ((وَمَنْ هِيَ))؟ قُلْنَ: هِيَ خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)). وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا. فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَوْتُ قَلْبِ الْكَافِرِ وَحَيَاةُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ مُسْتَعَارَانِ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْآيَةِ حَقِيقَتَانِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ وَهُوَ حَيٌّ، وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْحَبَّةُ تَخْرُجُ مِنَ السُّنْبُلَةِ وَالسُّنْبُلَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ النخلة والنخلة تَخْرُجُ مِنَ النَّوَاةِ، وَالْحَيَاةُ فِي النَّخْلَةِ وَالسُّنْبُلَةِ تشبيه.
وفى الحقيقةِ والواقع إنَّ إخراجَ الحيِّ من الميت أمرٌ محسوسٌ مَرْئيٌّ كلَّ يومٍ؛ فإنَّ تلك الشجرة أو ذلك العود النامي يتغذى من الهواء والضوء والماء والتراب، وكلُّها جَماد لا حياةَ فيها، ولا يتم التحول المتدرج في الحياة إلَّا بتلك العناصر التي هي غذاءُ الحيِّ، فهي إخراجُ الحي من الميِّتِ، وليس المراد من الميت مَن كانت فيه حياةٌ ثمَّ انتهت، إنَّما الظاهرُ مِن كلمةِ الميِّتِ هو ما لَا حياة فيه؛ وإن إخراجَ الميِّتِ من الحيِّ أمرٌ واضحٌ لَا مجالَ للشكِّ فيه؛ فهذا العودُ الأخضرُ يَصيرُ حُطامًا، وهذا الجِسْمُ الحَيَوانيُّ يتحلَّلُ فيكونُ رَميمًا ثمَّ يكونُ تُرابًا.
وعلى هذا نقولُ إنَّ إخراجَ الحَيِّ من الميِّتِ ليس فلْق النوى بإخراج النبات والشجر منه فقط، بل بهذا وبتدرج الحياة، وإدخال عناصر الغذاء التي تكون الحي وأكثرها من جماد؛ ولذا قال سبحانه في آية أخرى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأنَّى تُؤْفَكونَ}.
وقولُه: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} مظهرٌ رابعٌ من مظاهر قدرةِ اللهِ تعالى المحسوسةِ بيْن الناسِ، وهو الرِّزقُ للعِبادِ، وكلمةُ الرِّزقِ تَشْمَلُ الرزق المعنوي من علم وجاه ورأي وحكمةٍ كما تشمل الرزق المادي من مال وبنين وقوة في الجسم وصحَّةٍ وجمال...إلخ. قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. . .)، أي أنفقوا من المالِ والجاه والعلم ... إلخ.
فاللهُ سبحانَه وهو الرزَّاقُ ذو القوَّةِ المَتين، قد وزَّع رِزْقَه بيْن عبادِه بالقِسْطاسِ المُستقيم؛ فمنهم من أعطاه صحة وعافية، ومنهم من أعطاه مالا وحرمه من نعمة العلم، ومنهم من أعطاه جاها وسلطانًا، ومنهم من أعطاه أولادًا تَقَرُّ بهم عينُه، ومنهم مَن وهب له ذِكرًا حَسَنًا بين الناس.
فما في ذلك حَيْرة إلا في رأس القائل، فتلك هي القسمة العادلة: حَرم هذا من المال وأعطاه علما، وحرم هذا من الولد وأعطاه ذكرا بين الناس.
ومعنى "بِغَيْرِ حِسَابٍ" أَيْ بِغَيْرِ تَضْيِيقٍ وَلَا تَقْتِيرٍ، كَمَا تَقُولُ: فُلَانٌ يُعْطِي بِغَيْرِ حِسَابٍ، كَأَنَّهُ لَا يَحْسِبُ مَا يُعْطِي. أي أنَّه ليس فوقَه أحدٌ يحاسبُه، وأنَّ عَطاءَه كثيرٌ يعلو على العَدِّ والحِسابِ، وهو يُعطي مَن يَشاء بِسُنَّةِ الحِكمةِ والعدلِ والفضلِ، وإليه مَصيرُ كلِّ شيءٍ، ولا يُعطي عملٌ نتيجتَه إلَّا بفضلِ الله.
قوله تعالى: {تُولِجُ} كقولِهِ: "تُؤْتِي" وقد تقدَّم ما فيه، ويقال: وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً كَعِدَةً ووَلْجاً كَوَعْدٍ، واتَّلَجَ يَتَّلِجُ اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلَجَ يَوْتَلِجُ اوْتِلاَجاً، فَقُلِبَتْ الواوُ تاءً قبلَ تاءِ الافتعالِ نحو: اتَّعَدَ يَتَّعِدُ اتِّعاداً قال الشاعر:
فإنَّ القوافِي تَتَّلِجْنَ مَوالِجاً ................ تضايَقُ عنها أَنْ تَوَلَّجَها الإِبَرْ
والوُلوجُ: الدخولُ، والإِيلاجُ: الإِدْخال، ومعنى الآيَة على ذلك. وقول مَنْ قال معناه: النقص فإنَّما أَرادَ أنَّه مِن بابِ اللَّازم، لأنَّه تَبارَك وتعالى إذا أَدْخَلَ مِنْ هذا في هذا فقد نَقَصَ من المأخوذِ منه المُدْخَلُ في ذلك الآخرِ، وزَعَمَ بعضُهم أنَّ "تُولِج" بمعنى تَرفَعُ ، وأنَّ "في" بمعنى "على" وليس بشيءٍ.
قولُه: {مِنَ الميت} اختلف القُرَّاء في هذه اللفظة على مراتبَ: فقرأَ ابنُ كثيرٍ وأبو عَمْرٍو وابنُ عامِرٍ وأَبو بَكْرٍ عن عاصِمٍ لفظَ "المَيْت" من غيرِ تاءِ تأنيثٍ مُخَفَّفًا في جميعِ القُرآنِ، وسواءً وُصِفَ بهِ الحيوانُ نحو: {تُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} أوْ الجَمادُ نحو قولِه تعالى: {إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} فاطر: 9 {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ} الأعراف: 57 منكَّراً أو معرَّفاً كما تقدَّم ذِكرُه إلَّا قولَه تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} الزمر: 30، وقولَه: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} الآية: 17 في إبراهيم، مما لم يَمُتْ بعدُ فإنَّ الكُلَّ ثَقَّلوه، وكذلك لفظُ "الميتة" في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرضُ المَيْتَةُ} يس: 33 دونَ المَيْتَةِ المذكورةِ مَعَ الدَمِ فإنَّ تَيْكَ لم يُشَدِّدْها إلَّا بعضُ قُرَّاءِ الشَّواذ، وقد تقدَّم ذكرُ ذلك في البقرة، وكذلك قولُهُ: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} الأنعام: 139 و{بَلْدَةً مَّيْتًا} الزخرف: 11 و{إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} الأنعام: 145 فإنَّها مُخَفَّفاتٌ عندَ الجميع. وثَقَّلَ نافعٌ جميعَ ذلك، والأخوانِ وحفصٌ عن عاصمٍ وافقوا ابنَ كثيرٍ ومَنْ مَعَهُ في الأَنعامِ في قولِه: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} الآية: 122 وفي الحجرات: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} الآية: 12، و{الأرض الميتة} في يس، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجَمعوا بين اللغتين إيذاناً بأنَّ كُلاًّ من القراءتيْن صَحيحٌ، وهما بمعنًى، لأنَّ فَيْعِل يجوزُ تخفيفُه في المُعتلِّ بحذفِ إحدى يائيْه فيقال: هَيْنٌ وهيِّنٌ ولَيْنٌ وليِّنٌ ومَيْتٌ ومَيِّتٌ، ومنه قولُ الشاعر ابنُ الرَّعلاءِ القلابيّ فَجَمَعَ بين اللغتين:
ليسَ مَنْ ماتَ فاستراحَ بميْتٍ ................. إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ
إنما المَيْتُ مَنْ يعيشُ كئيباً ...................... كاسِفاً بالُهُ قليلُ الرَّجاءِ
وزعم بعضُهم أنَّ "مَيْتاً" بالتخفيف لمَنْ وقع به الموت، وأنَّ المُشَدَّدَ يُستعمل فيمَنْ ماتَ ومَنْ لم يَمُتْ كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} الزمر: 30 وهذا مردودٌ بما تقدَّمَ مِن قِراءَةِ الأخَويْن وحفص، حيثُ خَفَّفوا في مَوضِعٍ لا يُمكِنُ أنْ يُرادَ بِه الموتُ وهو قولُهُ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً} الأنعام: 122 إذ المرادُ به الكفرُ مجازاً.
هذا بالنِسْبَةِ إلى القُرَّاءِ، وإنْ شئتَ ضَبَطْتَه باعتبارِ لفظِ "الميت" فقلت: هذا اللَّفظُ بالنِسْبَةِ إلى قِراءةِ السَّبْعةِ ثلاثةُ أَقسامٍ: قسمٌ لا خِلافَ في تثقيلِه وهو ما لم يَمُتْ نحو {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} و{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ}، وقسمٌ لا خِلافَ في تَخفيفِه وهو ما تقدَّم في قولِه: {الميتة والدم} و{إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً} وقولِه: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} وقولِه: {فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا} وقسمٌ فيه الخلافُ وهو ما عدا ذلك وقد تقدَّمَ تفصيلُهُ.
وقد تقدَّم أيضًا أنَّ أصلَ ميِّتٍ: مَيْوِت فأُدغم، وأنَّ في وزنِهِ خِلافاً: هل وزنُه فَيْعِل وهو مَذْهَبُ البَصْريِّين أو فَعِيل وهو مذهبُ الكُوفيّين، وأصلُه: مَوِيت، قالوا: لأنَّ فَيْعِلًا مفقودٌ في الصحيح فالمُعتلُّ أَوْلى ألَّا يوجَدَ فيه. وأجابَ البَصريُّونَ عن قولِهم بأنَّه لا نَظيرَ له في الصَّحيح بأنَّ قَضاةَ في جمعِ "قاضٍ" لا نَظيرَ له في الصحيح. وتفسيرُ هذا الجوابِ أنَّا لا نُسَلِّم أنَّ المُعتلَّ يَلزَمُ أنْ يكونَ له نظيرٌ مِن الصَّحيح، ويَدلُّ على عدمِ التَلازُمِ: "قُضاة" جمع قاضٍ، وفي "قُضاة" خلافٌ طويل ليس هذا موضعَ ذكره. واعتراضُ البَصْريين عليهم بأنَّه لو كان وزنُه فَعِيلًا لوَجَبَ أنْ يَصِحَّ كما صَحَّتْ نظائرُه مِن ذواتِ الواوِ نحو: طَوِيلٍ وعَوِيلٍ وقَوِيم، فحيثُ اعتلَّ بالقلبِ والإِدغامِ، امتنَعَ أَنْ يُدَّعى أنَّ أصلَه فَعِيل لمُخالَفَةِ نظائره. وهو ردٌّ حسنٌ.
قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يَجوزُ أنْ تكونَ الباءُ للحالِ مِنَ الفاعِلِ أي: تَرزُقَه وأنتَ لم تُحاسِبْه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المَفعولِ أي: غيرَ مُضَيِّقٍ عليه. وقد تقدَّمَ الكلامُ على مثل هذا مشبعاً في البقرة عند قولِه تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} البقرة: 212 فَأَغْنَى عن إعادتِه.
واشتملتْ هذه الآيةُ على أنواعٍ من البديع، منها: التجنيسُ المُماثِلُ في قولِه: "مالكَ المُلْك"، "تُؤتي المُلَك، وتَنْزِعُ الملك" ومنها: الطِباقُ وهو الجَمعُ بيْنَ مُتضادَّيْن أو شِبْهِهِمَا، وذلك في قوله: "تُؤْتي الملك وتَنْزِع" وفي "تُعِزُّ وتُذِلٌّ"، وفي قولِه: "بيدك الخيرُ" أي: والشرُّ عند بعضهم، وفي قوله: "الليل والنهار" وفي قولِه: "الحي والميت". ومنها ردُّ الأَعجازِ على الصُّدورِ، والصدورِ على الأعجازِ في قوله: {وَتُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} وفي قولِهِ: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ونحوُهُ: عاداتُ الساداتِ ساداتُ العاداتِ. وتضمَّنَت من المعاني التوكيدَ: بإيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المُضْمَرِ في قولِه: "تؤتى الملك ... إلخ" وفي تجوُّزِهِ بإيقاعِ الحَرْفِ مَكانَ ما هو بِمعناه، والحذفُ لفهمِ المعنى.