هُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
قولُه تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ..}
استئنافٌ لإبطالِ شُبَهِ وَفْدِ نجرانَ عمّا نَطَقَ به القرآنُ في نَعْتِ
المسيحِ عليهِ السلامُ إثْرَ بيانِ اختصاصِ الرُّبوبِيَّةِ ومَناطِها بِهِ
سبحانه. وبعد أنْ صوّرَنا في الأرحامِ كيف يَشاءُ اقتضتْ حكمتُه ألّا
يَتْرُكَ الصورَ بدونِ مِنهجٍ للقِيَمِ، فَأنزلَ القرآنَ منهجاً قِيَمًا،
فقال سبحانه: “هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ“.
والمُحكَم هو الذي لا يتسرَّبُ إليه خَلَلٌ ولا فَساد في الفهم؛ لأنَّه
مُحكَم، وهذه الآيات المحكمةُ هي النصوص التي لا يختلِفُ فيها الناس،
فعندما يقول: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} المائدة: 38. هذه
آيةٌ تتضمَّنُ حُكْما واضحًا. وهو سبحانَه يقول: {الزانية والزاني فاجلدوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} النور: 2. هذه أيضًا أمورٌ واضحةٌ، وهذا هو
المُحكم من الآيات، فالمُحكم هو ما لا تَختلِفُ الأفهام فيه؛ لأنَّ المعنى
في النَصَّ واضحٌ وصريحٌ لا يَحتَمِلُ سِواه، و”المُتشابِه” هو الذي
نَتعَبُ في فهم المُرادِ منه، فالمُحْكَمُ جاء للأَحكامِ المطلوبة مِن
الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، وفاعلها يُثاب عليها، وتاركها يُعاقب،
وجعلَ اللهُ الآياتِ المُحكماتِ ليُريحَ العقلَ مِنْ مُهِمَّةِ البَحثِ عن
حكمةِ الأمرِ المُحكَمِ؛ لأنَّها قد تَعلو الإدْراكَ البَشَريَّ. ويُريدُ
الحقُّ أنْ يَلزمَ العبدُ آدابَ الطاعةِ حتّى في الشيءِ الذي لا يُدركُ
حكمةَ تشريعِه، ولِتُحرِّكَ عقلَك لِتَرُدَّ كلَّ المُتشابِه إلى المُحكَمِ
مِن الآياتِ. وإذا قَرأْنا قولَ الحَقِّ: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ
يُدْرِكُ الأبصار وَهُوَ اللطيف الخبير} الأنعام: 103. نرى أنَّ ذلك كلامٌ
عامٌّ. وفي آيةٍ أُخرى يقول سبحانَه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ *
إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} القيامة: 22و23. ويتكلَّمُ عن الكفَّارِ فيقول:
{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} المطففين:
15. إذن فالعقل يَنشغِلُ بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار}، وهذا يحدث في
الدنيا، أمّا في الآخرة فسَيكون الإنسانُ قد تمَّ إعدادُه إعداداً آخر
ليَرى الله. فالأمرُ هنا مُتشابهٌ، يُدرَكُ اللهُ أو لا يُدْرَك، لكن ذلك
لا يغيِّرُ شيئاً من الأحكام بالنسبة لك. فهذه الآياتُ المتشابهاتُ لم تأتِ
مِن أجلِ الأحْكام، إنّما جاءت مِن أجلِ الإيمان فقط، ولذلك فقد أنهى
الرسول صلى الله عليه وسلم كلَّ خِلافٍ للعُلَماءِ حول هذه المسألة بقولِه:
((إنَّ القرآنَ لم يَنزِلْ لِيُكَذِّبَ بعضُهُ بعضًا فما عَرَفتمْ منه
فاعْملوا به وما تَشابَهَ منْهُ فآمِنوا به)). فالمُتشَابه من الآيات قد
جاء للإيمان به، والمُحْكَم من الآيات إنّما جاء للعملِ به، والمؤمنُ عليْه
دائمًا أنْ يَرُدَّ المُتشَابِه إلى المُحْكَم. مثالُ ذلك عندما نَسمع
قولَه عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ
اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} الفتح: 10. علينا أنْ نَرُدَّ ذلك
إلى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وعندما يسمعُ المؤمنُ قولَ الحقِّ:
{الرحمن عَلَى العرش استوى} طه: 5. يتساءل هل لله جِسمٌ يَستقِرُّ بِه على
عرش؟ هذا هو المُتشَابِه الذي يَجبُ الإيمان به كما هو، ذلك أنَّ وجودنا
ليس كوجودِ اللهِ، فيَدُكَ ليست كيَدِ اللهِ واستواؤك ليس كاستوائه فهو كما
قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.
وقد
أَدخلَنا اللهُ ـ تعالى ـ إلى تلك المَجالات لأَنَّه يُريدُ أنْ يُلْفِتَ
خلقَه إلى أشياءَ قد لا تَستقيمُ في العُقولِ؛ فمَن يَتَّسِعُ ظنُّه إلى
أنْ يُؤَوِّلَ ويَرُدَّها إلى المُحْكَم بأنّ اللهَ ليس كمثلِه شيءٌ. فلَه
ذلك، ومَنْ يَتَّسِعُ ظنُّه ويقول: آمنتُ بأنَّ للهِ يَداً ولكنْ في إطارِ
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فلَه ذلك أيضًا وهذا أسلم. والحقُّ يقولُ: {مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب} ومعنى {أُمُّ}
أي الأصل الذي يَجِبُ أنْ يَنتهيَ إليه تأويلُ المُتشَابِه إنْ أَوَّلْتَ
فيه، أو تُرْجِعُه إلى المُحْكَمِ فتَقولُ: إنَّ لله يَداً ولكن ليست كأيدي
المخلوقات.
وقد قال الحقُّ: {هُنَّ أُمُّ الكتاب} ولم يَقلْ: هُنَّ أُمَّهاتُ الكِتابِ
لأنَّه
ليس كلُّ واحدةٍ منهُنَّ أُمًّا، ولكنَّ مَجموعَها هو الأمُّ، ولتوضيح ذلك
فلنسمع قولَ الحقِّ: {وَجَعَلْنَا ابنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً
وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} المؤمنون: 50. لم
يقل الحق: إنَّهُما آيتان؛ لأنَّ عيسى عليه السلامُ لم يُوجَدْ كآيةِ إلّا
بِميلادِه مِن أُمٍّ دون أبٍ، وأُمُّ عيسى لم تَكنْ آيةً إلَّا بمِيلادِ
عيسى. إذنْ فهُما معاً يُكوِّنان الآيةَ، وكذلك {هُنَّ أُمُّ الكتاب
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فالمَقصودُ بها ليس كلُّ مُحكَمٍ أُمًّا
لِلكِتاب، إنَّما المُحكَماتُ كلُّها هي الأمُّ، والأصلُ الذي يَرُدُّ إليه
المؤمنُ أيَّ مُتشابهٍ. والمُحكَمُ لنَعْمَلَ به، والمُتشابِهُ لنؤمِنَ
به؛ بِدليلِ أنَّك إنْ تَصَوّرْتَهُ على أيِّ وَجهٍ لا يُؤثِّرُ في عملِك.
خَرَّجَ
مُسْلِمٌ عَنْ سيدتنا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: تَلَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ
..}. الآية. قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ
مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ)). وَعَنْ
أَبِي غَالِبٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي أُمَامَةَ ـ رضي الله عنه
ـ وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ، حَتَّى إِذَا انْتَهَى إِلَى دَرَجِ
مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَإِذَا رؤوسٌ منصوبةٌ، فقال: ما هذه الرؤوسُ؟ قِيلَ:
هَذِهِ رُؤوسُ خَوَارِجَ يُجَاءُ بِهِمْ مِنَ الْعِرَاقِ، فَقَالَ أَبُو
أُمَامَةَ: كِلَابُ النَّارِ، كِلَابُ النَّارِ، كِلَابُ النَّارِ! شَرُّ
قَتْلَى تَحْتَ ظِلِّ السَّمَاءِ، طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ ـ
يَقُولُهَا ثَلَاثًا ـ ثُمَّ بَكَى. فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا
أُمَامَةَ؟ قَالَ: رَحْمَةً لَهُمْ، إِنَّهُمْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ
الْإِسْلَامِ فَخَرَجُوا مِنْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ..}
إِلَى آخِرِ الْآيَة. ثُمَّ قَرَأَ: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ}.
فَقُلْتُ: يَا أَبَا أُمَامَةَ، هُمْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ نَعَمْ. قُلْتُ:
أَشَيءٌ تَقُولُهُ بِرَأْيِكَ أَمْ شيءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: إني إذاً لجَريءٌ، إنِّي إذاً
لَجَريءٌ! بَلْ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ وَلَا أَرْبَعٍ
وَلَا خَمْسٍ وَلَا سِتٍ وَلَا سَبْعٍ، وَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي
أُذُنَيْهِ، قَالَ: وَإِلَّا فَصُمَّتَا ـ قَالَهَا ثَلَاثًا ـ ثُمَّ
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
((تَفَرَّقَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً
وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَائِرُهُمْ فِي النَّارِ وَلَتَزِيدَنَّ
عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَاحِدَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ
وَسَائِرُهُمْ فِي النَّارِ)).
واخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي الْمُحْكَمَاتِ وَالْمُتَشَابِهَاتِ عَلَى أَقْوَالٍ
عَدِيدَةٍ، فَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ
الشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا: الْمُحْكَمَاتُ مِنْ
آيِ الْقُرْآنِ مَا عُرِفَ تَأْوِيلُهُ وَفُهِمَ مَعْنَاهُ وَتَفْسِيرُهُ
وَالْمُتَشَابِهُ مَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ إِلَى عِلْمِهِ سَبِيلٌ مما
استأثرَ اللهُ تعالى بعلمِه دُونَ خَلْقِهِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَذَلِكَ
مِثْلُ وَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَخُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
وَالدَّجَّالِ وَعِيسَى، وَنَحْوِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ
السُّوَرِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَنِ
الرَّبِيعِ بن خيثم إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ
فَاسْتَأْثَرَ مِنْهُ بِعِلْمِ مَا شَاءَ، الْحَدِيثَ. قَالوا: الْمُحْكَمُ
فَاتِحَةُ الْكِتَابِ الَّتِي لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ إِلَّا بِهَا.
وقالوا هي: سُورَةُ الْإِخْلَاصِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إِلَّا
التَّوْحِيدُ فقط. وقد قِيلَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ: لِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ}. وَقِيلَ: كُلُّهُ مُتَشَابِهٌ،
لِقَوْلِهِ: {كِتاباً مُتَشابِهاً}. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ
في شيءٍ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ} أَيْ فِي
النَّظْمِ وَالرَّصْفِ وَأَنَّهُ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَمَعْنَى
{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} أَيْ يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَيُصَدِّقُ
بَعْضُهُ بَعْضًا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: {آياتٌ مُحْكَماتٌ
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمُتَشَابِهُ فِي
هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ بَابِ الِاحْتِمَالِ وَالِاشْتِبَاهِ، مِنْ قَوْلِهِ:
{إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا} أَي الْتَبَسَ عَلَيْنَا، أَيْ
يَحْتَمِلُ أَنْوَاعًا. كَثِيرَةً مِنَ الْبَقَرِ. وَالْمُرَادُ
بِالْمُحْكَمِ مَا فِي مُقَابَلَةِ هَذَا، وَهُوَ مَا لَا الْتِبَاسَ فِيهِ
وَلَا يَحْتَمِلُ إِلَّا وَجْهًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ
مَا يَحْتَمِلُ وُجُوهًا، ثُمَّ إِذَا رُدَّتِ الْوُجُوهُ إِلَى وَجْهٍ
وَاحِدٍ وَأُبْطِلَ الْبَاقِي صَارَ الْمُتَشَابِهُ مُحْكَمًا.
فَالْمُحْكَمُ أَبَدًا أَصْلٌ تُرَدُّ إِلَيْهِ الْفُرُوعُ،
وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الْفَرْعُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُحْكَمَاتُ
قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ
رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إِلَى ثَلَاثِ آيَاتٍ، وَقَوْلُهُ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}. وَقَالَ أَيْضًا: الْمُحْكَمَاتُ نَاسِخُهُ
وَحَرَامُهُ وَفَرَائِضُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ،
وَالْمُتَشَابِهَاتُ الْمَنْسُوخَاتُ وَمُقَدَّمُهُ وَمُؤَخَّرُهُ
وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلَا يُعْمَلُ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُ: الْمُحْكَمَاتُ النَّاسِخَاتُ،
وَالْمُتَشَابِهَاتُ الْمَنْسُوخَاتُ” وَقَالَهُ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ
وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ:
المُحكَماتُ هي التي فيها حُجَّةُ الرَّبِّ وَعِصْمَةُ الْعِبَادِ وَدَفْعُ
الْخُصُومِ وَالْبَاطِلِ، لَيْسَ لَهَا تَصْرِيفٌ وَلَا تَحْرِيفٌ عَمَّا
وُضِعْنَ عَلَيْهِ. وَالْمُتَشَابِهَاتُ لَهُنَّ تَصْرِيفٌ وَتَحْرِيفٌ
وَتَأْوِيلٌ، ابْتَلَى اللَّهُ فِيهِنَّ الْعِبَادَ، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ
وَابْنُ إِسْحَاقَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: أَحْسَنَ مَا قِيلَ فِي
الْمُحْكَمَاتِ، وَالْمُتَشَابِهَاتِ أَنَّ الْمُحْكَمَاتِ مَا كَانَ
قَائِمًا بِنَفْسِهِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يُرْجَعَ فِيهِ إِلَى غَيْرِهِ،
نَحْوُ: {لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} و{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ
تابَ}. وَالْمُتَشَابِهَاتُ نَحْوُ: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ
جَمِيعاً} يُرْجَعُ فِيهِ إِلَى قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: {وَإِنِّي
لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ} وَإِلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ
لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}. ومَا قَالَهُ النَّحَّاسُ يُبَيِّنُ مَا
اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَهُوَ الْجَارِي عَلَى وَضْعِ اللِّسَانِ،
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحْكَمَ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَحْكَمَ، وَالْإِحْكَامُ
الْإِتْقَانُ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا كَانَ وَاضِحَ الْمَعْنَى لَا
إِشْكَالَ فِيهِ وَلَا تَرَدُّدَ، إِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لِوُضُوحِ
مُفْرَدَاتِ كَلِمَاتِهِ وَإِتْقَانِ تَرْكِيبِهَا، وَمَتَى اخْتَلَّ
أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ جَاءَ التَّشَابُهُ وَالْإِشْكَالُ. وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. وقالوا: إنَّ للمتشابه وُجُوهٌ، وَالَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ
الْحُكْمُ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ أَيُّ الْآيَتَيْنِ نَسَخَتِ
الْأُخْرَى، كَقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَامِلِ
الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَعْتَدُّ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ. فَكَانَ
عُمَرُ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَغَيْرُهُمْ يَقُولُونَ
(وَضْعُ الْحَمْلِ) وَيَقُولُونَ: سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى نَسَخَتْ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ
يَقُولَانِ لَمْ تَنْسَخْ. وَكَاخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ
لِلْوَارِثِ هَلْ نُسِخَتْ أَمْ لَمْ تُنْسَخْ. وَكَتَعَارُضِ الْآيَتَيْنِ
أَيُّهُمَا أَوْلَى أَنْ تُقَدَّمَ إِذَا لَمْ يُعْرَفِ النَّسْخُ وَلَمْ
تُوجَدْ شَرَائِطُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ
ذلِكُمْ} يَقْتَضِي الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ،
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا
قَدْ سَلَفَ} يَمْنَعُ ذَلِكَ. وَمِنْهُ أَيْضًا تَعَارُضُ الْأَخْبَارِ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعَارُضُ
الْأَقْيِسَةِ، فَذَلِكَ الْمُتَشَابِهُ. وَلَيْسَ مِنَ الْمُتَشَابِهِ
أَنْ تُقْرَأَ الْآيَةُ بِقِرَاءَتَيْنِ وَيَكُونُ الِاسْمُ مُحْتَمِلًا
أَوْ مُجْمَلًا يَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ
قَدْرُ مَا يتناولُه الِاسْمَ أَوْ جَمِيعُهُ. وَالْقِرَاءَتَانِ
كَالْآيَتَيْنِ يَجِبُ الْعَمَلُ بموجبهما جميعًا.
رَوَى
الْبُخَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ
عَبَّاسٍ: إِنِّي أَجِدُ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ.
قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا
يَتَساءَلُونَ} وَقَالَ: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ
يَتَساءَلُونَ} وَقَالَ: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} وَقَالَ:
{وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فَقَدْ كَتَمُوا فِي هَذِهِ
الْآيَةِ. وَفِي النَّازِعَاتِ {أَمِ السَّماءُ بَناها} إِلَى قَوْلِهِ:
{دَحاها} فذكرَ خَلْقَ السَّمَاءِ قَبْلَ خَلْقِ الأَرضِ، ثمَّ قال:
{أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ …
إِلَى: طائِعِينَ} فَذَكَرَ فِي هَذَا خَلْقَ الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ
السَّمَاءِ. وَقَالَ: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}. {وَكانَ اللَّهُ
عَزِيزاً حَكِيماً}. {وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} فَكَأَنَّهُ
كَانَ ثُمَّ مَضَى. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ}
فِي النَّفْخَةِ الْأُولَى، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي
السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَا أَنْسَابَ
بَيْنَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ، ثُمَّ فِي النَّفْخَةِ
الْآخِرَةِ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بعضٍ يتساءلون. وأمّا قوله: {مَا
كُنَّا مُشْرِكِينَ} {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} فَإِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ لِأَهْلِ الْإِخْلَاصِ ذُنُوبَهُمْ، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ:
تَعَالَوْا نَقُولُ: لَمْ نَكُنْ مُشْرِكِينَ، فَخَتَمَ اللَّهُ عَلَى
أَفْوَاهِهِمْ فَتَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَعِنْدَ ذَلِكَ
عُرِفَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُكْتَمُ حَدِيثًا، وَعِنْدَهُ يَوَدُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَخَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ فِي
يَوْمَيْنِ، ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ، ثُمَّ دَحَا الْأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا
فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْمَاءَ وَالْمَرْعَى، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ
وَالْأَشْجَارَ وَالْآكَامَ وَمَا بَيْنَهَا فِي يَوْمَيْنِ آخَرَيْنِ،
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها}. فَخُلِقَتِ
الْأَرْضُ وَمَا فِيهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ، وَخُلِقَتِ السَّمَاءُ
فِي يَوْمَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً
رَحِيماً} يَعْنِي نفسه، ذَلِكَ أَيْ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ كَذَلِكَ،
فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ.
فَلَا يَخْتَلِفُ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ}
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ: مُتَّبِعُو
الْمُتَشَابِهِ لَا يَخْلُو أَنْ يَتَّبِعُوهُ ويجمعوه طلبًا للتشكيك فِي
الْقُرْآنِ وَإِضْلَالِ الْعَوَامِّ، كَمَا فَعَلَتْهُ الزَّنَادِقَةُ
وَالْقَرَامِطَةُ الطَّاعِنُونَ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ طَلَبًا لِاعْتِقَادِ
ظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهِ، كَمَا فَعَلَتْهُ الْمُجَسِّمَةُ الَّذِينَ
جَمَعُوا مَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا ظَاهِرُهُ الْجِسْمِيَّةُ
حَتَّى اعْتَقَدُوا أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى جِسْمٌ مُجَسَّمٌ وصورةٌ
مُصَوَّرَةٌ ذاتُ وجهٍ وعيْنٍ ويَدٍ وَجَنْبٍ وَرِجْلٍ وَأُصْبُعٍ،
تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، أَوْ يَتَّبِعُوهُ عَلَى جِهَةِ إِبْدَاءِ
تَأْوِيلَاتِهَا وَإِيضَاحِ مَعَانِيهَا، أَوْ كَمَا فَعَلَ صَبِيغٌ بنُ
شُريكٍ بنُ يربوعٍ التميميُّ حِينَ أَكْثَرَ عَلَى عُمَرَ فِيهِ
السُّؤَالَ. فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: لَا شَكَّ فِي
كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمُ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ
اسْتِتَابَةٍ. الثَّانِي: الصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِتَكْفِيرِهِمْ، إِذْ لَا
فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ وَالصُّوَرِ،
وَيُسْتَتَابُونَ فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قُتِلُوا كَمَا يُفْعَلُ بِمَنِ
ارْتَدَّ. الثَّالِثُ: اختَلَفوا في جَوازِ ذلك بناءً عَلَى الْخِلَافِ فِي
جَوَازِ تَأْوِيلِهَا. وَقَدْ عُرِفَ، أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ تَرْكُ
التَّعَرُّضِ لِتَأْوِيلِهَا مَعَ قَطْعِهِمْ بِاسْتِحَالَةِ ظَوَاهِرِهَا،
فَيَقُولُونَ أَمِرُوهَا كَمَا جَاءَتْ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى
إِبْدَاءِ تَأْوِيلَاتِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى مَا يَصِحُّ حَمْلُهُ فِي
اللِّسَانِ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِتَعْيِينِ مُجْمَلٍ مِنْهَا.
الرَّابِعُ: الْحُكْمُ فِيهِ الْأَدَبُ الْبَلِيغُ، كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ
بِصَبِيغٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَقَدْ كَانَ
الْأَئِمَّةُ مِنَ السَّلَفِ يُعَاقِبُونَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ
الْحُرُوفِ الْمُشْكِلَاتِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ السَّائِلَ إِنْ كَانَ
يَبْغِي بِسُؤَالِهِ تَخْلِيدَ الْبِدْعَةِ وَإِثَارَةَ الْفِتْنَةِ فَهُوَ
حَقِيقٌ بِالنَّكِيرِ وَأَعْظَمِ التَّعْزِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مَقْصِدَهُ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْعَتْبَ بِمَا اجْتَرَمَ مِنَ الذَّنْبِ،
إِذْ أَوْجَدَ لِلْمُنَافِقِينَ الْمُلْحِدِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ
سَبِيلًا إِلَى أَنْ يَقْصِدُوا ضَعَفَةَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّشْكِيكِ
وَالتَّضْلِيلِ فِي تَحْرِيفِ الْقُرْآنِ عَنْ مَنَاهِجِ التَّنْزِيلِ
وَحَقَائِقِ التَّأْوِيلِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي أَنْبَأَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يسار أنَّ
صَبيغاً قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ مُتَشَابِهِ
الْقُرْآنِ وَعَنْ أَشْيَاءَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عُمَرُ فَأَحْضَرَهُ وَقَدْ أَعَدَّ لَهُ
عَرَاجِينَ مِنْ عَرَاجِينِ النَّخْلِ. فَلَمَّا حَضَرَ قَالَ لَهُ عُمَرُ:
مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ صَبِيغٌ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ: وَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ عُمَرُ، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهِ
فَضَرَبَ رَأْسَهُ بِعُرْجُونٍ فَشَجَّهُ، ثُمَّ تَابَعَ ضَرْبَهُ حَتَّى
سَالَ دَمُهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ فَقَدْ وَاللَّهِ ذَهَبَ مَا كُنْتُ أَجِدُ فِي رَأْسِي.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْهَمَهُ التَّوْبَةَ وَقَذَفَهَا فِي
قَلْبِهِ فَتَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ. وَمَعْنَى “ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ”
طَلَبُ الشُّبُهَاتِ وَاللَّبْسُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى يُفْسِدُوا
ذَاتَ بَيْنِهِمْ، وَيَرُدُّوا النَّاسَ إِلَى زَيْغِهِمْ. وقال أبو إسحاق
الزجاج: معنى “ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ” أَنَّهُمْ طَلَبُوا
تَأْوِيلَ بَعْثِهِمْ وَإِحْيَائِهِمْ، فَأَعْلَمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ
أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ وَوَقْتَهُ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أَيْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا
يُوعَدُونَ مِنَ الْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْعَذَابِ: {يَقُولُ الَّذِينَ
نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ ـ أي تركوه ـ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا
بِالْحَقِّ} أَيْ قَدْ رَأَيْنَا تَأْوِيلَ مَا أَنْبَأَتْنَا بِهِ
الرُّسُلُ. قَالَ: فَالْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} أَيْ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَى الْبَعْثُ إلا
الله.
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ}
يُقَالُ: إِنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ
دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَقَالُوا: بَلَغَنَا أَنَّهُ نَزَلَ عَلَيْكَ {الم}، فَإِنْ
كُنْتَ صَادِقًا فِي مَقَالَتِكَ فَإِنَّ مُلْكَ أُمَّتِكَ يَكُونُ
إِحْدَى وَسَبْعِينَ سَنَةً، لِأَنَّ الْأَلِفَ فِي حِسَابِ الْجُمَّلِ
وَاحِدٌ، وَاللَّامَ ثَلَاثُونَ، وَالْمِيمَ أَرْبَعُونَ، فَنَزَلَ: “وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ“.
وَالتَّأْوِيلُ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّفْسِيرِ، كَقَوْلِكَ: تَأْوِيلُ
هَذِهِ الْكَلِمَةِ عَلَى كَذَا. وَيَكُونُ بِمَعْنَى ما يؤول الْأَمْرُ
إِلَيْهِ. وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كذا يؤول إِلَيْهِ،
أَيْ صَارَ. وَأَوَّلْتُهُ تَأْوِيلًا أَيْ صَيَّرْتُهُ. وَقَدْ حَدَّهُ
بَعْضُ الْفُقَهَاءِ فَقَالُوا: هُوَ إِبْدَاءُ احْتِمَالٍ فِي اللَّفْظِ
مَقْصُودٍ بِدَلِيلٍ خَارِجٍ عَنْهُ. فَالتَّفْسِيرُ بَيَانُ اللَّفْظِ،
كَقَوْلِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} أَيْ لَا شَكَّ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَسْرِ
وَهُوَ البيان، يقال: فَسَرْتُ الشَّيْءَ (مُخَفَّفًا) أَفْسِرُهُ
(بِالْكَسْرِ) فَسْرًا. وَالتَّأْوِيلُ بَيَانُ الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ لَا
شَكَّ فِيهِ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ. أَوْ لِأَنَّهُ حَقٌّ فِي نَفْسِهِ
فَلَا يَقْبَلُ ذَاتُهُ الشَّكَّ وَإِنَّمَا الشَّكُّ وَصْفُ الشَّاكِّ.
وَكَقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَدِّ أَبًا، لِأَنَّهُ تَأَوَّلَ قولَ
اللهِ عزَّ وجَلَّ: “يا بَنِي آدَمَ”.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مَقْطُوعٍ مِمَّا
قَبْلَهُ، أَوْ هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ فَتَكُونُ الْوَاوُ
لِلْجَمْعِ. فَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّهُ مَقْطُوعٌ مِمَّا
قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْكَلَامَ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: “إِلَّا اللَّهُ”
هَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ وَعُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ وَالْفَرَّاءِ وَأَبِي عُبَيْدٍ
وَغَيْرِهِمْ. قَالَ أَبُو نَهِيكٍ الْأَسَدِيُّ: إِنَّكُمْ تَصِلُونَ
هَذِهِ الْآيَةَ وَإِنَّهَا مَقْطُوعَةٌ. وَمَا انْتَهَى عِلْمُ
الرَّاسِخِينَ إِلَّا إِلَى قَوْلِهِمْ: “آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا“.
وَقَالَ مِثْلَ هَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَحَكَى
الطَّبَرِيُّ نَحْوَهُ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكِ بْنِ
أَنَسٍ. وَ”يَقُولُونَ” عَلَى هَذَا خَبَرُ “الرَّاسِخُونَ“.
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَاتِ كِتَابِهِ
الَّذِي أَمَرَنَا بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ بِمَا فِيهِ
قِسْمَيْنِ: مُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ” إِلَى قَوْلِهِ: “كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا”
فَاعْلَمْ أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مِنَ الْكِتَابِ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ
بِعِلْمِهِ، فَلَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، ثُمَّ أَثْنَى
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. وَلَوْلَا صِحَّةُ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَمْ
يَسْتَحِقُّوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِ. وَمَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ
أَنَّ الْوَقْفَ التَّامَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّمَا هُوَ عِنْدَ
قَوْلِهِ تَعَالَى: “وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ” وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ آخَرَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: “وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ“.
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ. وَإِنَّمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ نَسَقَ “الرَّاسِخُونَ”
عَلَى مَا قَبْلَهُ وَزَعَمَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَهُ. وَاحْتَجَّ لَهُ
بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا، وَزَعَمَ أَنَّ مَوْضِعَ “يَقُولُونَ”
نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ. وَعَامَّةُ أَهْلِ اللُّغَةِ يُنْكِرُونَهُ
وَيَسْتَبْعِدُونَهُ، لِأَنَّ الْعَرَبَ لَا تُضْمِرُ الْفِعْلَ
وَالْمَفْعُولَ مَعًا، وَلَا تَذْكُرُ حَالًا إِلَّا مَعَ ظُهُورِ
الْفِعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ فِعْلٌ فَلَا يَكُونُ حَالٌ، وَلَوْ
جَازَ ذلك لجاز أَنْ يُقَالَ: عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، بِمَعْنَى أَقْبَلَ
عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ
الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: عَبْدُ اللَّهِ يَتَكَلَّمُ يُصْلِحُ بين الناس،
فكان “يصلح” حالًا لَه، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ أَنَشَدَنِيهِ أَبُو عُمَرَ
قَالَ أَنْشَدَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ:
أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكَا ……………….. يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا
أَيْ
يَقْصُرُ مَاشِيًا، فَكَانَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مَعَ مُسَاعَدَةِ
مَذَاهِبِ النَّحْوِيِّينَ لَهُ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَحْدَهُ،
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
شَيْئًا عَنِ الْخَلْقِ وَيُثْبِتُهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ يَكُونُ لَهُ فِي
ذَلِكَ شَرِيكٌ. أَلَا تَرَى قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ لَا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} وَقَوْلَهُ:
{لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ} وَقَوْلَهُ: {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ}، فَكَانَ هَذَا كُلُّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وَلَوْ كَانَتِ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: “وَالرَّاسِخُونَ”
لِلنَّسَقِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}
فَائِدَةٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ومَا حَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ مِنْ أَنَّهُ
لَمْ يَقُلْ بِقَوْلِ مُجَاهِدٍ غَيْرُهُ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ أَنَّ الرَّاسِخِينَ مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، وَأَنَّهُمْ
مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ يَقُولُونَ آمَنَّا به، وقاله الرَّبِيعُ وَمُحَمَّدُ
بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ
وَغَيْرُهُمْ.
قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ
هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: أَنَا مِمَّنْ يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ، حَكَاهُ
عَنْهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَبُو الْمَعَالِي. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالَ:
وَتَقْدِيرُ تَمَامِ الْكَلَامِ “عِنْدَ اللَّهِ” أَنَّ مَعْنَاهُ وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ يَعْنِي تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهَاتِ،
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ بَعْضَهُ قَائِلِينَ آمَنَّا
بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا بِمَا نَصَبَ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي
الْمُحْكَمِ وَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهِ إِلَيْهِ. فَإِذَا عَلِمُوا تَأْوِيلَ
بَعْضِهِ وَلَمْ يَعْلَمُوا الْبَعْضَ قَالُوا آمَنَّا بِالْجَمِيعِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، وَمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُنَا مِنَ الْخَفَايَا
مِمَّا فِي شَرْعِهِ الصَّالِحِ فَعِلْمُهُ عِنْدَ رَبِّنَا فَإِنْ قَالَ
قَائِلٌ: قَدْ أُشْكِلَ عَلَى الرَّاسِخِينَ بَعْضُ تَفْسِيرِهِ حَتَّى
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَا أَدْرِي مَا الْأَوَّاهُ وَلَا مَا غِسْلِينُ)
قِيلَ لَهُ: هَذَا لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ عَلِمَ
بَعْدَ ذَلِكَ فَفَسَّرَ مَا وَقَفَ عَلَيْهِ. وَجَوَابٌ أَقْطَعُ مِنْ
هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ وَكُلُّ رَاسِخٍ فَيَجِبُ
هَذَا فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ عَلِمَهُ الْآخَرُ. وَرَجَّحَ ابْنُ
فُورَكَ أَنَّ الرَّاسِخِينَ يَعْلَمُونَ التَّأْوِيلَ وَأَطْنَبَ فِي
ذَلِكَ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لِابْنِ عَبَّاسٍ:
((اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)) مَا
يُبَيِّنُ لَكَ ذَلِكَ، أَيْ عَلِّمْهُ مَعَانِيَ كِتَابِكَ. وَالْوَقْفُ
عَلَى هَذَا يَكُونُ عِنْدَ قَوْلِهِ: “وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ“.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ،
فَإِنَّ تَسْمِيَتَهُمْ رَاسِخِينَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ
أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْكَمِ الَّذِي يَسْتَوِي فِي عِلْمِهِ جَمِيعُ مَنْ
يفهم كلامَ العرب. وفى أي شيءٍ هُوَ رُسُوخُهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا
إِلَّا مَا يَعْلَمُ الْجَمِيعُ. لَكِنَّ الْمُتَشَابِهَ يَتَنَوَّعُ،
فَمِنْهُ مَا لَا يُعْلَمُ الْبَتَّةَ كَأَمْرِ الرُّوحِ وَالسَّاعَةِ
مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِغَيْبِهِ، وَهَذَا لَا يَتَعَاطَى عِلْمَهُ
أَحَدٌ لَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَا غَيْرُهُ. فَمَنْ قال من العلماءِ
الحذّاقِ بِأَنَّ الرَّاسِخِينَ لَا يَعْلَمُونَ عِلْمَ الْمُتَشَابِهِ
فَإِنَّمَا أَرَادَ هَذَا النَّوْعَ، وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى
وُجُوهٍ فِي اللُّغَةِ وَمَنَاحٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَيُتَأَوَّلُ
وَيُعْلَمُ تَأْوِيلُهُ الْمُسْتَقِيمُ، وَيُزَالُ مَا فِيهِ مِمَّا عَسَى
أَنْ يَتَعَلَّقَ مِنْ تَأْوِيلٍ غَيْرِ مُسْتَقِيمٍ، كَقَوْلِهِ فِي
عِيسَى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُسَمَّى أَحَدٌ
رَاسِخًا إلَّا بأنْ يَعْلَمَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ كَثِيرًا بِحَسَبِ مَا
قُدِّرَ لَهُ. وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْمُتَشَابِهَ هُوَ
الْمَنْسُوخُ فَيَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِ إِدْخَالُ الرَّاسِخِينَ فِي
عِلْمِ التَّأْوِيلِ، لَكِنَّ تَخْصِيصَهُ الْمُتَشَابِهَاتِ بِهَذَا النوع
غير صحيح. وسئلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ فَقَالَ: ((هُوَ مَنْ بَرَّتْ يَمِينُهُ
وَصَدَقَ لِسَانُهُ وَاسْتَقَامَ قَلْبُهُ)). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ كَانَ
فِي الْقُرْآنِ مُتَشَابِهٌ وَاللَّهُ يَقُولُ: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ
الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فَكَيْفَ لَمْ
يَجْعَلْهُ كُلَّهُ وَاضِحًا؟ قِيلَ لَهُ: الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ ـ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أَنْ يَظْهَرَ فَضْلُ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ
كَانَ كُلُّهُ وَاضِحًا لَمْ يَظْهَرْ فَضْلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَهَكَذَا يَفْعَلُ مَنْ يُصَنِّفُ تَصْنِيفًا يَجْعَلُ بَعْضَهُ وَاضِحًا
وَبَعْضَهُ مُشْكِلًا، وَيَتْرُكُ لِلْجُثْوَةِ مَوْضِعًا، لِأَنَّ مَا
هَانَ وُجُودُهُ قَلَّ بَهَاؤُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا}
فِيهِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مُحْكَمِهِ
وَمُتَشَابِهِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: كُلُّهُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا. وَحَذَفَ
الضَّمِيرَ لِدَلَالَةِ “كُلٍّ” عَلَيْهِ، إِذْ هِيَ لَفْظَةٌ تَقْتَضِي
الْإِضَافَةَ. ثُمَّ قَالَ: {وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ} أَيْ مَا يَقُولُ هَذَا وَيُؤْمِنُ وَيَقِفُ حَيْثُ وَقَفَ وَيَدَعُ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ إِلَّا ذُو لب.
قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ} يجوزُ أنْ تكونَ “آيات”
رفعاً بالابتداء والجارُّ خبرُه. وفي الجملةِ على هذا وجهان، أحدهما: أنها
مستأنفةٌ. والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِن “الكتاب” أي: هو الذي أَنزلَ الكتابَ في هذه الحال أي: منقسمًا إلى مُحْكَم ومُتشابه، ويَجوزُ أنْ يكونَ “منه” هو الحالَ وحدَه، و”آياتٌ” رفعٌ به على الفاعليّة.
و{هُنَّ أُمُّ الكتاب} يَجوزُ أنْ تَكونَ الجُملةُ صِفَةً للنَكِرَةِ قبلَها، ويَجوزُ أنْ تكونَ مُستأنَفَةً.
قولُه: {وأُخَرُ} نسقٌ على {آيات}، و{متشابهاتٌ} نعتُ لأُخَر، وفي الحقيقةِ {أُخَرُ} نعتٌ لِمَحذوفٍ تقديرُه: وآياتٌ أُخَرٌ متشابهاتٌ. قال أبو البقاء: فإنْ قيل: واحدةُ “متشابهات” متشابهة، وواحدة “أُخَر”
أُخْرى، والواحدةُ هنا لا يَصِحُّ أنْ تُوصَف بهذا الواحد فلا يُقال، أخرى
متشابهة إلّا أنْ يَكونَ بَعضُ الواحدة يُشبْه بعضاً، وليس المعنى على ذلك
وإنَّما المعنى أنَّ كلَّ آيةٍ تُشبِهُ آيةً أُخرى، فكيف صَحَّ وصفُ هذا
الجَمْعِ بهذا الجمعِ، ولم يَصِحَّ وصفُ مُفرَدِهِ بِمُفردِه؟ قيل:
التشابهُ لا يكون إلّا بيْن اثنينِ فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياءُ
المشابهةُ كان كلُّ واحدٍ منها مُشابهاً للآخر، فلمَّا لم يَصِحَّ التشابُه
إلّا في حالةِ الاجتماع وَصَفَ الجمْعَ بالجمعِ لأنَّ كلَّ واحدٍ منها
يشابِهُ باقيها، فأمَّا الواحدُ فلا يَصِحُّ فيه هذا المعنى، ونظيرُه
قولُه: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} القصص: 15 فثنَّى
الضميرَ وإن كان الواحدُ لا يَقْتَتِلُ. قلت: يعني أنّه ليس مِن شرطِ صحةِ
الوصفِ في التَثنيةِ أو الجمعِ صِحةُ انْبِساطِ مُفرداتِ الأَوصافِ على
مفرداتِ المَوصوفاتِ، وإنْ كان الأصلُ ذلك، كما أنَّه لا يُشْتَرط في
إسنادِ الفعلِ إلى المثنَّى والمَجموعِ صحةُ إسنادِه إلى كلِّ واحدٍ على
حِدَتِه.
وقريبٌ من ذلك قولُه: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} الزمر: 75 قيل:
ليس لِحافِّينَ مُفرَدٌ لأنّه لو قيل: “حافّ” لم يَصِحَّ، إذ لا يتحقق الحُفوفُ
في واحد فقط، وإنما يتحقق بجمعِ يُحيطون بذلك الشيء المحفوفِ.
قوله: {زَيْغٌ} يَجوزُ أنْ يكونَ مرفوعاً بالفاعليَّةِ لأَنَّ الجارَّ قبلَه صِلةٌ لمَوصولٍ ويَجوزُ أنْ يكونَ مُبْتَدَأً وخبُرُه الجارُّ قبلَه.
والزَّيْغُ:
قيل: المَيْلُ، وقال بعضُهم: هو أخصُّ مِنْ مُطْلَقِ المَيْلِ، فإنَّ
الزيغَ لا يُقال إلَّا لِما كان مِنْ حَقٍّ إلى باطِلٍ. قال الراغب:
“الزَّيْغُ: الميلُ على الاستقامةِ إلى أحدِ الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَ
تتقارب، لكن “زاغ” لا يُقال إلَّا فيما كان عن حَقٍّ إلى باطلٍ” انتهى.
يقال: زاغَ يزيغُ زَيْغاً وزيغوغَةً وزَيَغاناً وزُيوغاً. والعربُ تقول في
عامةِ ذواتِ الياء مِمَّا يشبه زِغْتُ مثل: سِرْتُ وصِرْتُ وطِرْتُ:
سَيْرورةً وصَيْرورةً وطَيْرورةً، وحِدْتُ حَيْدودة، ومِلْتُ مَيْلولة،
فأمّا ذوات الواو مثل: قُلت ورضِيت فإنّهم لم يقولوا ذلك إلَّا في أربعةِ
ألفاظٍ: الكَيْنونة والدَّيْمومة من دام، والهَيْعُوعة من الهُواع،
والسَّيدودة من سُدْت. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا المصدر، وما ذكر الناس
فيه، وأنّه قد سُمِع فيه الأصل وهو “كَيَّنونة” في قول الشاعر:
يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ ……………………. حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ
قوله: {مَا تَشَابَهَ} مفعولُ الاتباع، وهي موصولةٌ أو موصوفةٌ، ولا تكون مصدريَّةً لعَوْدِ الضميرِ مِنْ {تَشَابَه} عليها إلاَّ على رأي ضعيفٍ. و”منه” حالٌ من فاعل “تشابه” أي: تشابه حالَ كونِه بعضَه.
قوله: {ابتغاءَ}
منصوبٌ على المفعولِ لَه أي: لأجلِ الابتغاء، وهو مصدرٌ مضافٌ لمفعوله.
والتأويلُ: مصدرُ أَوَّل يُؤَوِّل. وفي اشتقاقِه قولان أحدهما: أنّه من آل
يَؤُول أَوْلاً ومَآلاً. أي: عادَ ورجَع، و”آلُ الرجل” من هذا عند بعضِهم،
لأنّهم يَرْجِعون إليه في مُهِمَّاتهم، ويقولون: أَوَّلْتُ الشيءَ فآلَ،
أي: صَرَفْتُه لوجهٍ لائقٍ به فانصرفَ، قال الشاعر:
أُؤَوِّلُ الحكمَ على وجهه ……………….. ليس قضائي بالهَوى الجائر
وقال بعضُهم: أَوَّلْتُ الشيءَ فتأوَّل، فجعل مطاوِعَه تَفَعَّل، وعلى الأول مطاوعه فَعَل، وأنشد للأعشى:
على أنها كانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّها …………….. تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابَ فَأَصْحَبَا
يعني
أنَّ حبَّها كان صغيراً قليلاً فآل إلى العِظَم ، كما يَؤُولُ السَّقْبُ
إلى الكِبَر. ثم قد يُطْلق على العاقبةِ والمَرَدِّ، لأنَّ الأمرَ يَصِيرُ
إليهما.
والثاني:
أنَّه مشتَقٌّ من: الإِيالَة وهي السياسة. تقول العرب: قد إلْنا وإيل
علينا، أي: سُسْنا وساسَنا غيرُنا، وكأنَّ المَؤوِّلَ للكلامِ سائِسُه
والقادرُ عليه وواضعُه موضعَه، نُقل ذلك عن النَّضرِ بنِ شُمَيْلٍ. وفَرَّق
النَاسُ بيْن التأويلِ والتَفسيرِ في الاصطلاح: بأنَّ التفسيرَ مقتصَرٌ به
على ما لا يُعْلم إلَّا بالتوقيف كأسبابِ النُّزولِ ومَدلولاتِ الأَلفاظِ،
وليس للرأي فيه مَدْخَلٌ، والتأويلُ يَجوزُ لِمَنْ حَصَلَتْ عندَه صِفاتُ
أهلِ العِلْمِ وأدواتٌ يَقْدِرُ أنْ يَتكلَّمَ بها إذا رَجَعَ بها إلى
أصولٍ وقواعدَ.
وقولُه: {والراسخون} يَجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أنَّه مبتدأٌ والوَقفُ على الجَلالَةِ المُعَظَّمَةِ، وعلى هذا فالجُملةُ من قولِه: “يقولون”
خبرُ المبتدأ. والثاني: أنَّهم منسوقونٌ على الجلالةِ المعظَّمةِ، فيكونون
داخلين في عِلم التأويل. وعلى هذا فيجوزُ في الجملةِ القوليَّةِ وجهان،
أحدُهما: أنَّها حالٌ أي: يَعلمون تأويلَه حالَ كوِنهم قائلين ذلك،
والثاني: أنْ تَكونَ خبرَ مبتدأٍ مُضمَرٍ أي: هم يقولون.
والرُّسوخ: الثُبوتُ والاستقرار ثبوتاً متمكِّناً فهو أخصُّ من مُطْلَقِ الثبات قال الشاعر:
[b]لقد رَسَخَتْ في القلبِ مني مودَّةٌ …………. لِلَيْلَى أَبَتْ آياتُها أَنْ تُغَيَّرا[/color: