عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة آل عمران، :الآية: 6 السبت نوفمبر 03, 2012 3:16 am | |
| هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
(6) قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَصْوِيرِهِ لِلْبَشَرِ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ. وهذا القولُ تنزيهٌ مِن اللهِ ـ تعالى ـ ذِكرُه نفسَه أنْ يكون له في ربوبيَّتِهِ نِدٌّ أو مِثْلٌ، أو أنْ تَجوزَ الأُلوهَةُ لغيرِه وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، وسائرِ مَن كان على مِثْلِ الذي كانوا عليه من قولِهم في عيسى، ولِجميعِ مَنِ ادَّعى معَ اللهِ مَعبودًا، أوْ أَقَرَّ بِرُبوبيَّةِ غيرِه. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي ضِمْنِهَا الرَّدُّ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَنَّ عِيسَى مِنَ الْمُصَوَّرِينَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ. وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى شَرْحِ التَّصْوِيرِ فِي سُورَةِ "الْحَجِّ" وَ"الْمُؤْمِنُونَ". وَكَذَلِكَ شَرَحَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِيهَا الرَّدُّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ أَيْضًا إِذْ يَجْعَلُونَهَا فَاعِلَةً مُسْتَبِدَّةً. وَقَدْ مَضَى الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي آيَةِ التَّوْحِيدِ وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ سَنْجَرَ ـ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَنْجَرَ ـ حَدِيثٌ ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ عِظَامَ الْجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَشَحْمَهُ وَلَحْمَهُ مِنْ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ)). وَفِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ في قول تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى}. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَفِيهِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجئتُ أَسألُك عن شيءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ: جِئْتُكَ أَسْأَلُكَ عَنِ الْوَلَدِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ منى الرجل أنثى بِإِذْنِ اللَّهِ)) الْحَدِيثَ. وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَصْلُ الرَّحِمِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا مِمَّا يُتَرَاحَمُ بِهِ. وَاشْتِقَاقُ الصُّورَةِ مِنْ صَارَهُ إِلَى كَذَا إِذَا أَمَالَهُ، فَالصُّورَةُ مَائِلَةٌ إِلَى شَبَهٍ وَهَيْئَةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ((كَيْفَ يَشاءُ)) يَعْنِي مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَسَوَادٍ وَبَيَاضٍ وَطُولٍ وَقِصَرٍ وَسَلَامَةٍ وَعَاهَةٍ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّقَاءِ وَالسَّعَادَةِ. وَذُكِرَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّ الْقُرَّاءَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ لِيَسْمَعُوا مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي مَشْغُولٌ عَنْكُمْ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ، فَلَا أَتَفَرَّغُ لِرِوَايَةِ الْحَدِيثِ. فَقِيلَ لَهُ: وَمَا ذَاكَ الشُّغْلُ؟ قَالَ: أَحَدُهَا إِنِّي أَتَفَكَّرُ فِي يَوْمِ الْمِيثَاقِ حَيْثُ قَالَ: {هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي}. فَلَا أَدْرِي مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كُنْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَالثَّانِي حَيْثُ صُوِّرْتُ فِي الرَّحِمِ فَقَالَ الْمَلَكُ الَّذِي هُوَ مُوَكَّلٌ عَلَى الْأَرْحَامِ: "يَا رَبِّ شَقِيٌّ هُوَ أَمْ سَعِيدٌ" فَلَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الْجَوَابُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَالثَّالِثُ حِينَ يَقْبِضُ مَلَكُ الْمَوْتِ رُوحِي فَيَقُولُ: "يَا رَبِّ مَعَ الْكُفْرِ أَمْ مَعَ الْإِيمَانِ؟ فَلَا أَدْرِي كَيْفَ يَخْرُجُ الْجَوَابُ. وَالرَّابِعُ حَيْثُ يَقُولُ: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} فَلَا أَدْرِي فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ أَكُونُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ} أَيْ لَا خَالِقَ وَلَا مُصَوِّرَ سِوَاهُ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِيسَى إِلَهًا مُصَوِّرًا وَهُوَ مُصَوَّرٌ. {الْعَزِيزُ} الَّذِي لَا يُغَالَبُ. {الْحَكِيمُ} ذُو الْحِكْمَةِ أَوِ الْمُحْكِمُ، وَهَذَا أخصُّ بما ذُكر من التصوير.قوله تعالى: {فِي الأرحام} يجوزُ أنْ يتعلَّق بَـ "يُصَوِّرُكم" وهو الظاهُر، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِن مفعولِ "يُصَوِّركم" أي: يُصَوِّركم وأنتمْ في الأرحامِ مُضَغُ.وقرأ طاووس: "تَصَوَّركم" فعلاً ماضيًا ومعناه صَوَّركم لنفسِهِ ولتعبُّدِه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل كقولهم: "تأثَّلْثُ مالاً وأثَّلته" أي جعلتُه أَثْلَةً أي أصلاً، ونحُوه: وَلَّى وتَوَلَّى. والتصويرُ: تَفْعِيل من صارَه يَصُوره أي: أمالَه وثَنَاه، ومعنى صَوَّره أي: جعل له صورةً. والصورة: الهيئة يكون عليها الشيءُ من تأليفٍ خاصٍّ وتركيبٍ مُنضَبِطٍ.قوله: {كَيْفَ يَشَآءُ} في هذه الآية أوجهٌ، أظهُرُها: أنَّ "كيف" للجزاءِ، وقد جُوزي بها في لسانِهم في قولِهم: "كيفَ تَصْنَعُ أصنعُ، وكيف تكونَ أكونُ" إلّا أنَّه لا يَجزِمُ بها، وجوابُها محذوفٌ لدَلالةِ ما قبلَها، وكذلك مفعولُ "يشاء" لِما تقدَّم أنَّه لا يُذْكَرُ إلّا لِغَرابةٍ، والتقديرُ: كيف يشاءُ تصويرَكم يصوِّرُكم، فَحُذِف "تصويركم" لأنّه مفعولُ "يشاء"، و"يصوركم" لدَّلالةِ "يصوركم" الأول عليه، ونظيره قولُهم: "أنت ظالم إنْ فعلْتَ" تقديره: أنت ظالمٌ إنْ فعلتَ فأنتَ ظالمٌ. وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يَجْعَلُ "يصوِّركم" المتقدِّمَ هو الجزاء.و"كيف" منصوبٌ على الحالِ بالفعلِ بعدَه، والمعنى: على أيِّ حالٍ شاءَ أنْ يُصَوِّرُكم صُوَّرَكم، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في قولِه: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} البقرة: 28. ولا جائزٌ أن تكون "كيف" معمولةً ليُصَوِّركم لأنَّ لها صدرَ الكلام، وما له صدُرُ الكلامِ لا يَعملُ فيه إلّا أحدُ شيئين: إمَّا حرفُ الجَرِّ نحو: بمَنْ تمر؟ وإمَّا المضافُ نحو: "غلامُ مَنْ عندك؟" الثاني: أن تكون "كيف" ظرفاً لـ "يشاء"، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير اسم الله تعالى تقديرُه: يصوِّركم على مشيئة أي مريداً. الثالث: كذلك إلّا أنّه حالٌ مِن مفعولِ "يصوِّركم" تقديرُه: يُصوِّرُكم متقلِّبين على مشيئتِه. ذَكَر الوجهين أبو البقاء، ولَمَّا ذَكَرَ غيُره كونَها حالاً من ضميرِ اسمِ اللهِ قَدَّرها بقولِه: يُصَوِّرُكم في الأرحامِ قادراً على تصويرٍكم مالِكاً ذلك. الرَابعُ: أَنْ تكونَ الجُملةُ في موضِعِ المصدرِ، والمعنى: يُصَوِّركم في الأرحام تصويرَ المشيئةِ وكما يَشاء، هذا ما قال الحُوفيُّ. وفي قولِه: "الجملةُ في موضعِ المصدرِ" تسامحٌ لأنَّ الجملَ لا تقومُ مَقامَ المَصادِرِ، ومُرادُه أنَّ "كيف" دالَّةٌ على ذلك، ولكنْ لَمَّا كانَتْ في ضمنِ الجُملةِ نَسَبَ ذلكَ إلى الجملة. وقولُه: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ} تحتملُ هذه الجُملةُ أنْ تكونَ مُستأنَفَةً سُيقتْ لِمُجرًّدِ الإِخبارِ بذلك، وأنْ تكونَ في مَحَلِّ رفعٍ خَبَراً ثانياً لـ "إِنَّ" في الآية السابقة. | |
|