الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
(156)
المصيبة من: أصاب السهم ، إذا بلغ على صواب ، وهي في الأصل صفة ، وليس يريد بالقول اللفظ فقط ، فإن التلفظ بذلك مع الجزع القبيح والسخط للقضاء ليس يعني شيئاً وإنما يريد تصور ما خلق الإنسان لأجله ، والقصد له والاستهانة بما يعرض في طريق الوصول ، فأمر تعالى ببشارة من اكتسب العلوم الحقيقية وتصورها ، وتصور بها المقصد ووطَّن نفسَه عليه .
والصبر على الحقيقة إنما يكون لمن عرف فضل مطلوبه ، ولهذا قال الخضر لموسى ـ عليهما السلام ـ لمّا علم أنّه لا يعرف مقصِدَه في فعله قال: {قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} فدلّ أنّ حقيقةَ تحمُّل الصبر لأبد له من معرفة المقصود به ، وفي الحديث: ((من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه)) وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم أن يقولوا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون ألا تسمع إلى قول يعقوب عند فقد يوسف يا أسفا على يوسف)) وقد ورد في فضل الاسترجاع عند المصيبة أحاديث كثيرة . ويسن أن يقول بعد الاسترجاع : اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ، فقد أخرج مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني .. الخ ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيراً منها)) ، قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيراً منه ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم .
((أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)) الصلاة هنا المغفرة قاله ابن عباس ، أو الثناء الحسن قاله الزجاج ، وعلى هذا فذكر الرحمة لقصد التأكيد ، وقال الزمخشري في الكشاف: الصلاة الرحمة والتعطف فوضعت موضع الرأفة وجمع بينها وبين الرحمة كقوله رأفة رحمة ، رؤوف رحيم ، والمعنى عليهم رأفة بعد رأفة ، ورحمة بعد رحمة انتهى . وعبر عن المغفرة بلفظ الجمع للتنبيه على كثرتها وتنوعها ، قاله البيضاوي وأبو السعود ، وقيل المراد بالرحمة كشف الكربة وقضاء الحاجة وإنما وصفوا هنا بذلك لكونهم فعلوا ما فيه الوصول إلى طريق الصواب من الاسترجاع والتسليم
وحقيقة الرجوع إليه تتبين في قوله عز وجل: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} فهو أدق معنى مما قدره من قال: “إنا راجعون” إلى أن لا يملك أمورنا غيره كما كنا في الابتداء ، فجعل ذلك رجوعاً لهم .
قوله تعالى: {الذين إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً على النعتِ للصابرين ، وهو الأصحُّ . الثاني: أن يكونَ منصوباً على المدحِ . الثالث: أن يكونَ مرفوعاً على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ ، أي: هم الذين ، وحينئذٍ يَحْتمل أن يكونَ على القَطْع ، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ . الرابعُ: أن يكونَ مبتدأ ، والجملةُ الشرطيةُ من “إذا” وجوابِها صلته ، وخبرهُ ما بعدَه من قولِه: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} .