قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(94)
{قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة} ردٌّ لدعوى أخرى لهم بعد ردِّ دعوى الإيمان بما أنزل عليهم،ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر، والآية نزلت عندما قالت اليهود: إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه . وقيل: سبب نزولها قولهم: {لَن يَدْخُلَ الجنة } البقرة: 111 و{نَحْنُ أَبْنَاء الله} المائدة: 8 1و{لَن تَمَسَّنَا النار} البقرة:0 8 .
والضمير في { قُلْ } إما للنبي صلى الله عليه وسلم أو لمن يبغي
إقامة الحجة عليهم ، والمراد من ” الدار الآخرة ” الجنة وهو الشائع واستحسن تقدير مضاف أي: نعيم الدار الآخرة .
{ عَندَ الله } أي في حكمه ، وقيل: المراد بالعنديّة المكانة والمرتبة والشرف .
{ خَالِصَةً مّن دُونِ الناس } أي مخصوصة بكم كما تزعمون والخالص الذي لا يشوبه شيء، أو ما زال عنه شوبه، ونصب “خالصة” على الحال من الدار الذي هو اسم “كان” و”لكم” خبرها قدم للاهتمام أو لإفادة الحصر وما بعده للتأكيد . و” دون ” هنا للاختصاص وقطع الشركة ، يقال: هذا لي دونك ، وأنت تريد ما لا حقَّ لك فيه معي ولا نصيب ، وهو متعلق بخالصة والمراد بالناس الجنس وهو الظاهر ، وقيل: المراد بهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالوا: ويطلق الناس ويراد به الرجل الواحد ، ولعله لا يكون إلا مجازاً بتنزيل الواحد منزلة الجماعة .
{ فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صادقين} في أن الجنة خالصة لكم ، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار ، وأحب أن يتخلّص من المقام في دار الأكدار ، كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة ، فقال له الحسن: ما هذا بزي المحاربين ، فقال: يا بني لا يبالي أبوك سقط على الموت ، أم سقط عليه الموت وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم :
يا حبذا الجنة واقترابها … طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها
وقال عمار بصفين :غداً نلقي الأحبة محمداً وصحبه . وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال: ((يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل )) ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه ، إنما المنهي عنه تمنيه لأجل ضُرٍّ أصابه فإنه أثرُ الجزع وعدمُ الرضا بالقضاء وفي الخبر: ” لا يتمنين أحدكم الموت لضُرٍّ نزَل به، وإن كان ولا بد فلْيَقُلْ : اللهم أحيني ما كانت الحياةُ خيراً لي، وأمتني ما كانت الوفاةُ خيراً لي” .
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ” لا يقولها رجل منهم إلا غُصّ بريقه ” وأخرج البخاري مرفوعاً عنه أيضاً: ” لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ” .
{ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً }: شَرْطٌ جوابُه : “فَتَمَنَّوُا” و “الدارُ ” اسمُ كان وهي الجنةُ . ويُستحسن أن يُقَدَّر حَذْفُ مضافٍ ، أي : نَعيمُ الدارِ ، لأنَّ الدارَ الآخِرةَ في الحقيقةِ هي انقضاءُ الدنيا وهي للفريقَيْن . واختلفوا في خبر ” كان ” على ثلاثةِ أقوالٍ ، أحدُها: أنه “خالصةً” فتكون “عند” ظرفاً لخالصةً أو للاستقرار الذي في ” لكم ” ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً مِن ” الدار ” والعاملُ فيه ” كان ” أو الاستقرارُ . وأمَّا ” لكم ” فيتعلَّقُ بكان لأنها تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه .
وقرأ الجمهورُ: “َ تَمَنَّوُا الموتَ ” بضمِّ الواو ، ويُرْوَى عن أبي عمرو فتحُها تخفيفاً ، واختلاسُ الضمة . وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء الساكنين تشبيهاً بواو ” لَوِ استطعنا” . و”إنْ كنتم” كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} وقد تقدَّمَ .