وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
بعد أن ذَكَّرهم الله سبحانه وتعالى بكفرهم بعبادتهم للعجل، وهو من أشدّ التأنيب ، أراد أن يؤنّبهم مرّة أخرى وأن يُذَكِّرَهُم أنهم إنما آمنوا خوفاً من وقوع جبل الطور عليهم ، حين رفعَه الله سبحانه وتعالى فوقهم ليأخذوا الميثاق والمنهج . لكن غريزة الاستكبار والعناد منعتهم أن يستمروا على الإيمان .
{واسمعوا} سماع تقبل وطاعة، وكثيراً ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده ، وقوله:
دعوت الله حتى خفت أن لا ........... يكون الله ( يسمع ) ما أقول
{قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} أي سمعنا قولك وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة . والمعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا ، وقيل: "سمعنا" جواب "اسمعوا" و"عصينا" جواب "خذوا" .
{وَأُشْرِبُواْ} يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على قولِه: "قالوا سَمِعْنا" ويجوزُ أن يكونَ حالاً من فاعل "قالوا" أي: قالوا ذلك وقد أُشْربوا العجل أي حُبَّ عبادةِ العِجْلِ . وحَسَّن حَذْفَ هذين المضافين المبالغَةُ في ذلك ، حتى كأنَّه تُصُوِّر إشرابُ ذاتِ العِجْل . والإِشرابُ : مخَالَطَةُ المائع بالجامِدِ ، ثم اتُّسِعَ فيه حتى قيل في الألوان نحو : أُشْرِبَ بياضُه حُمْرةً . والمعنى: أنهم داخَلَهم حُبُّ عبادتِه ، كما داخَل الصبغُ الثوبَ . ومنه :
إذا ما القلبُ أُشْرِبَ حُبَّ شيءٍ .......... فلا تَأْمَلْ له الدهرَ انْصِرافَا
وعَبَّر بالشربِ دونَ الأكل، لأنَّ الشربَ يتغَلْغَلْ في باطنِ الشيء. قال بعضُهم :
تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فؤادي ................... فبادِيه مع الخافي يَسيرُ
تَغَلْغَلَ حيثُ لم يَبْلُغْ شرابٌ .................. ولا حُزْنٌ ولم يَبْلُغْ سُرورُ
أكادُ إذا ذَكَرْتُ العهدَ مِنْها .................. أطيرُ لو أن إنساناً يَطيرُ
وقيل: الإشرابُ هنا حقيقةٌ ، لأنه يُروى أن موسى عليه السلام
بَرَدَ العِجل بالمِبْرَدِ ثم جعل تلك البُرادة في ماءٍ وأمرهم بشُرْبه ، فَمَنْ كان يُحِبُّ العجل ظَهَرَتِ البُرادَةُ على شَفَتَيْه ، وقد رُدُّه قولُه : " في قُلوبهم " .
" بكُفْرهم " في الباء وجهان ، أظهرُهما: أنَّها للسببيةِ متعلِّقَة بـ "أُشْرِبوا " أي: أُشْربوا بسببِ كفرِهم السابِق . والثاني: أنها بمعنى "مع " يَعْني إنَّها للحالِ ، وصاحبُها مضاف محذوف أي: أُشْرِبوا حُبَّ عبادةِ العجلِ مختلطاً بكُفْرهم . والمصدرُ مضافٌ للفاعِلِ ، أي: بأَنْ كفروا .
{ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ } كقولِه : { بِئْسَمَا اشتروا } البقرة: 90 .
{ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } يجوزُ أن تكونِ نافيةً أو شرطيةً ، وجوابُها محذوفٌ تقديرُه : " فبِئْسَما يَأْمرُكم " . وقيلَ: تقديرُه : فلا تقتلوا أنبياءَ الله ولا تُكّذِّبوا الرسلَ ولا تكتمُوا الحقَّ . وقرأ الحسن: "بِهُو إيمانُكُمْ " بضم الهاءِ مع الواو وهي الأصل .