وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
كرر قوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فحث بأحدهما على التوجه نحو القِبلة بالقلب والبدن في أي مكان نائياً كان المؤمن عنها أو دانياً ، وذلك حال الاختيار والتمكن ، وحث بالآخر على التوجه بالقلب عند اشتباه القبلة ، وفي صلاة النافلة في حال المسير في السفر وعلى الراحلة .
واستثنى الذين ظلموا وذلك يقتضي أن يكون لهم حجة والحجة ههنا موضوعة موضع الاحتجاج نحو: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} ومعناه: لئلا يحتج عليكم أحد إلا وهو وظالم ، وقوله: "لئلا" إبانة عن الغرض، والعاقل لا يقصد إلا عارضاً يصح أن يصيبه ، فالمؤمن لا يقصد بذكر الحجة أن يكف الناس بها عن الاحتجاج لعلمه أن منهم معانداً لا يبالي بارتكابه الباطل ، والله تعالى لا يأمر بذلك لكونه غير مستطاع ، فكأنه قال: أقصدوا بالحجة دفع الناس إلا الظالمين ، وقيل الظالمون إشارة إلى مشركي العرب حيث قالوا: "إن محمد عاد إلى فبلتنا" ، وقد استدل بعضهم على أن الناس ههنا هم مشركو قريش بما روي في الخبر أن كل ما في القرآن من قوله "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" فالمخاطب أهل مكة ، وما فيه من "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فالمخاطب هم أهل المدينة ، وقيل: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي إلا حجة الذين ظلموا ، لكن الظالمَ لا حجّة له في الحقيقة .
وقوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} أي لا تراقبوهم ولا تستحيوا منهم ، وذلك لما علم أن كلامهم عناد للعقيدة عند ظهور الحجة ، فالخشية قد تجري مجرى المراقبة والاستحياء كما في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .
وقوله: {ولأُتمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} معطوف على قوله: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} وإتمام نعمته هو أن نعم الله تعالى ضربان: أحدهما موهوب، والآخر مكتسب ، فالموهوب: كجودة الحفظ والفهم وصحة البدن والجاه ، وكل ذلك لا يستحق بحصوله الحمد ، ولا بفواته الذم ، والمكتسب كالعلم والعمل الصالح المتوصل بهما إلى الثواب وهو الإيمان ، وبه يستحق المدح والذم ، فبين تعالى أنه إذا ائتمرتم في أمر القبلة، وصلتم إلى الحالة التي يحصل لكم الخشية المشار إليها بقوله:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فقد أتممت نعمتي عليكم (واستتممتموها)
قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ} هذه لامُ كي بعدها "أَنْ" المصدريةُ الناصبةُ للمضارعِ ، و"لا" نافيةٌ واقعةٌ بين الناصبِ ومنصوبِهِ ، كما تقعُ بين الجازمِ ومجزومِه نحوَ: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ } الأنفال: 73 ، و"أَنْ" هنا واجبةُ الإِظهارِ ، إذ لو أُضْمِرَتْ لَثَقُلَ اللفظُ بتوالي لامَيْنِ ، ولامُ الجرِّ متعلقةٌ بقولِه : "فَوَلُّوا وجوهَكم" . و"للناس" خبرٌ لـ "يكون" مُقَدَّمٌ على اسمها ، وهو "حُجَّةٌ" و"عليكم" في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، لأنَّه في الأصلِ صفةُ النكرةِ ، فلمّا تقَدَّم عليها انتصَبَ حالاً ، ولا يتعلَّقُ بـ "حُجَّة" لئلا يَلْزَمَ تقديمُ معمولِ المصدر عليه ، وهو ممتنعٌ ، لأنَّه في تأويلِ صلةٍ وموصولٍ . ويجوزُ أن يكونَ "عليكم" خبراً ليكون ، ويتعلَّقُ "للناسِ" بـ "يكون" على رَأْي مَنْ يَرَى أنَّ كان الناقصةَ تعملُ في الظرفِ وشِبْهِه ، وذكَّرِ الفعلَ في قوله "يكونَ" ؛ لأنَّ تأنيثَ الحجة غيرُ حقيقي ، وحَسَّن ذلك الفصلُ أيضاً.
قوله: {إِلاَّ الذين} قرأ الجمهور "إلاَّ" بكسرِ الهمزةِ وتشديدِ اللام ، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد بفتحِها وتخفيفِ اللامِ على أنها للاستفتاح . فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أقوال أظهرُها: أنه استثناء متصلٌ ، ومعناه لئلا يكونَ حجةٌ لأحدٍ من اليهودِ إلا للمعانِدِين منهم القائلينَ: ما ترك قبلتنا إلى الكعبةِ إلا مَيْلاً لدين قومه وحُبَّاً لهم ، وأَطلْق على قولِهم "حجة" لأنهم ساقُوه مَساقَ الحُجّة . أو إنه لا حجة لأحدٍ عليكم إلا الحجةُ الداحضةُ للذين ظلموا من اليهود وغيرِهم الذين تكلَّموا في النازلة ، وسمَّاها حُجَّة ، وحكم بفسادها حين كانت من ظالم . وقيل إنه استثناءٌ منقطعٌ فيُقَدَّر بـ "لكن" عند البصريين وبـ "بل" عند الكوفيين لأنه استثناءٌ مِنْ غيرِ الأولِ والتقديرُ: لكنَّ الذين ظلموا فإنَّهم يتعلَّقون عليكم بالشُّبْهَة يَضَعونَها موضعَ الحُجَّةِ . ومثارُ الخلافِ هو: هل الحُجَّةُ هو الدليلُ الصحيحُ أو الاحتجاجُ صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولِ يكونُ منقطعاً وعلى الثاني يكون متصلاً .
و"الذين" في محلِّ نصب على الاستثناءِ ، على القَوْلين اتصالاً وانقطاعاً . ويجوز أن يكونَ في موضع جَرٍّ بدلاً من ضمير الخطابِ في "عليكم" ، والتقديرُ: لئلا تَثْبُتَ حُجَّةٌ للناسِ على غيرِ الظالمين منهم ، وهو أنتم أيها المخاطبون بتوليةِ وجوهِكِم إلى القبلة ، ونُقِلَ عنه أن قطرباً كان يقرأ: {إِلاَّ عَلَى الذين} كأنه يكرر العاملَ في البدلِ على حِدِّ قوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} الأعراف: 75 وهذا عند جمهورِ البصريين ممتنعٌ ، لأنه يؤدِّي إلى بدلِ ظاهرٍ من ضميرِ حاضرٍ بدلِ كلٍّ مِنْ كلٍّ ، ولم يُجِزْه من البصريين إلا الأخفشُ ، وتأوَّل غيرُه ما وَرَدَ من ذَلك .
وإمَّا قراءةُ ابن عباس فـ "أَلا" للاستفتاح ، وفي محلِّ "الذين" حينئذٍ ثلاثة أوجهٍ ، أظهرُها: أنه مبتدأٌ وخبرُه قولُه: "فلا تَخْشَوْهم" وإنما دَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ لأنَّ الموصلَ تَضَمَّنَ معنى الشرطِ ، والماضي الواقعُ صلةً مستقبلٌ معنىً ، كأنه قيل: مَنْ يظلمُ الناسَ فلا تَخْشَوهم ، ولولا دخولُ الفاءِ لترجَّحَ النصبُ على الاشتغال ، أي: لاَ تَخْشَوا الذين ظلموا لا تَخْشَوْهم . الثاني: أن يكون منصوباً بإضمارِ فعلٍ على الاشتغال ، وذلك على قول الأخفش فإنه يجيز زيادةَ الفاءِ . الثالث: أن يكونُ منصوباً على الإِغراء .
ونُقِلَ عن ابن مجاهد أنَّه قرأ: {إِلى الذين ظَلَمُواْ} وجعل "إلى" حرفَ جر متأولاً لذلك بأنَّها بمعنى مع ، والتقديرُ: لئلا يكونَ للناسِ عليكم حجُةٌ مع الذين ، والظاهرُ أنَّ هذا الروايَ وقع في سَمْعِهِ "إلا الذين" بتخفيف "إلا" فاعتقَدَ ذلك فيها ، وله نظائرُ مذكورةٌ عندهم . و"منهم" في محلِّ نصبٍ على الحالِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ويحتمل أَنْ تكونَ "مِنْ" للتبعيضِ وأن تكونَ للبيان .
قوله: {وَلأُتِمَّ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها: أنه معطوفٌ على قوله: "لئلا يكونَ" كأن المعنى: عَرَّفْناكم وجهَ الصوابِ في قبلتِكم والحُجَّم لكم لانتفاءِ حُجَجِ الناس عليكم ولإِتمام النعمةِ . فيكونُ التعريفُ مُعَلَّلاً بهاتين العلَّتين ، والفصلُ بالاستثناءِ وما بعدَه كـ لا فصلٍ إذ هو من متعلِّقِ العلةِ الأولى . الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ وكلاهما معلولُها الخَشْيَةُ السابقةُ ، فكأنه قيل: واخْشَوْني لأَوفِّيَكم ولأُتِمَّ نعمتي عليكم . الثالث: أنه مُتعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدرٍ بعدَه تقديرُه: ولأتمَّ نعمتي عليكم عَرَّفْتُكم أمرَ قِبْلَتِكم .
و"عليكم" فيه وجهان ، أحدُهما: أن يتعلقَ بأُتِمَّ ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من نعمتي ، أي: كائنةً عليكم .