وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
البلاء: المبالغة في الاختبار، كأنك [أبليته] وأَخْلَقْتَه من كثرة ما اختبرته به ، ولذلك يقال: بليتُ فلاناً أي خَبَرْتُه .
{ولنبلونكم } أي والله لنعاملنكم معاملة المبتلى هل تصبرون على البلاء وتستسلمون للقضاء أو لا ، إذ البلاء معيار كالمِحكّ يَظهر به جوهرُ النفس وذلك لنُظهِرَ لكم المطيع منكم من العاصي ، لا لنعلم شيأ لم نكن عالمين به {بشيء من الخوف} أي بقليل من خوف الأعداء . وإنّما قلَّلَه لأن ما وقاهم منه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بالف مرة {و} شيء من {الجوع} أي القحطُ والسَنَةُ ، وإنّما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطئوا عليه نفوسَهم ويُسهِّلَ لهم الصبرَ عليه فإنّ مفاجأة المَكرهِ أشدُّ على النفس من إصابته مع ترقُّبِه {ونقصٍ من الأموال} عطف على شيء أي وبنقص شيء قليل من ذلك بالسَرِقة والإغارةِ وأخذ السُلْطان والهَلاك والخسران {والأنفس} أي بالقتل والموت أو بالمرض والشيب {والثمرات} أي وذهاب ثمرات الكروم والأشجار بالبرد والسموم والريح والجراد ، وغيرها من الآفات ، وقد يكون نقص الثمرات بترك عمارة الضِياع للاشتغال بالجهاد .
وعن الشافعي ـ رحمه الله ـ الخوف خوف الله والجوع صوم رمضان والنقص من الأموال الزكاة والصدقات ومن الأنفس الأمراض ومن الثمرات موت الأولاد وفى الحديث: (( إذا مات ولدُ العبد قال الله تعالى للملائكة: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم ، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم ، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون حَمَدك واسترجع ، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنّة وسموه بيت الحمد )) .
قال بعضُ أهل المعرفة مطالبات الغيب إمّا أن تكون بالمال أو بالنفس أو بالأقارب أو بالقلب أو بالروح ، فمن أجاب بالمال فله النجاة ، ومَن أجاب بالنفس فله الدرجات ، ومَن صَبر على فقد الأقارب فلَه الخَلَفٌ والقربات ، ومَن لم يؤخّر عنه الروح فله دوام المواصلات {وبشر} الخطاب للرسول أو لمن تتأتى منه البِشارة لتعظيم الصبر وتفخيمه لأنّه فضيلةٌ عظيمةُ الثواب وخَصلةٌ من خصالِ الأنبياء والأولياء فيستحق صاحبُه أن يُبشَّر {الصابرين} على البلايا
قوله تعالى: {ولنبلونكم} هذه الواو مفتوحة عند سيبويه لالتقاء الساكنين وقال غيرُه: لما ضمت إلى النون الثقيلة بُني الفعلُ بمنزلة خمسةَ عشرَ ، والبلاء يكون حسَناً ويكون سيئاً ، وأصله المحنةُ والمعنى لنمتحننّكم لنعلمَ المجاهدَ والصابرَ عِلْمَ معانيه حتى يَقعَ عليه الجزاءُ كما تقدّم وقيل: إنما ابتُلوا بهذا ليكونَ آية لمن بعدهم فيعلموا أنهم إنما صبروا على هذا حين وضح لهم الحق وقيل: أعلمهم بهذا ليكونوا على يقين منه أنه يصيبهم فيوطنوا أنفسهم عليه فيكونوا أبعد لهم من الجزع وفيه تعجيل ثواب الله تعالى على العزم وتوطين النفس .
قوله تعالى: {بشيء} لفظ مفرد ومعناه الجمع وقرأ الضحاك بأشياء على الجمع وقرأ الجمهور بالتوحيد أي بشيء من هذا وشيء من هذا فاكتفى بالأول إيجازاً .
{من الخوف} أي خوف العدو والفزع في القتال ، قاله ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنه ، وقال الشافعي: هو خوف الله عز و جل .
{والجوع} يعني المجاعة بالجدب والقحط قاله ابنُ عبّاس ، وقال الشافعي: هو الجوع في شهر رمضان .
{ونقص من الأموال} بسبب الاشتغال بقتال الكفار وقيل: الجوائح المُتلِفة ، وقال الشافعي: بالزكاة المفروضة
{والأنفس} قال ابنُ عبّاسٍ: بالقتل والموت في الجهاد ، وقال الشافعي: يعني بالأمراض {والثمرات} قال الشافعي: المراد موت الأولاد وولدُ الرجلِ ثمرةُ قلبِه ،كما جاء في الخبر ، وقال ابنُ عباس: المراد قلّةُ النبات وانقطاع البركات .
قوله تعالى: {وبشّر الصابرين} أي بالثواب على الصبر ، والصبر أصلُه الحبْسُ وثوابه غيرُ مقدّر ، وقد تقدّم لكن لا يكون ذلك إلاّ بالصبر عند الصدمة الأولى كما روى البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
(( إنما الصبر عند الصدمة الأولى )) وأخرجه مسلم أتم منه أي إنما الصبر الشاقّ على النفس الذي يعظم الثواب عليه إنما هو عند هجوم المصيبة وحرارتها فإنه يدل على قوة القلب وتثبته في مقام الصبر وأما إذا بردت حرارة المصيبة فكل أحد يصبر إذ ذاك ولذلك قيل: يجب على كل عاقل أن يلتزم عند المصيبة ما لا بد للأحمق منه بعد ثلاث ، وقال سهل بن عبد الله التستري لما قال تعالى: {وبشر الصابرين} صار الصبر عيشاً والصبر صبران: صبرٌ عن معصية الله فهذا مجاهد ، وصبرٌ على طاعة الله فهو عابد ، فإذا صبر عن معصية الله ، وصبر على طاعة الله ، أورثه الله الرضا بقضائه ، وعلامةُ الصبر سكونُ القلب بما ورد على النفس من المكروهات والمحبوبات ، وقال أبو علي الخوّاص: الصبرُ الثبات على أحكام الكتاب والسنّة ، وقال رُويْم البغدادي: الصبر ترك الشكوى ، وقال ذو النون المصري: الصبر هو الاستعانة بالله تعالى ، وقيل: الصبر حدُّه ألاّ تعترِضَ على التقدير فأمّا إظهارُ البلوى على غير وجه الشكوى فلا يُنافي الصبر ، قال الله تعالى في قصة أيوب: {إنا وجدناه صابراً نعم العبد} مع ما أخبر عنه أنّه قال: {مَسّني الضُرّ} .
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } هذا جوابُ قسمٍ محذوفٍ ، ومتى كان جوابُه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً وَجَبَ تلقِّيه باللامِ وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما ، ولا يُجِيز البصريونَ ذلك إلا في ضرورةٍ. وفُتِح الفعل المضارعُ لاتصالِه بالنونِ .
قوله: "بشيءٍ" متعلِّقٌ بقولِه: "لَنَبْلُوَنَّكَ" والباءُ معناها الإِلصاقُ ، وقراءةُ الجمهورِ على إفرادِ "شيء" ومعناها الدَّلالةُ على التقليلِ ، إذ لو جَمَعَه لاحتمل أن يكون ضروباً من كل واحد . وقرأ الضحاك بن مزاحم "بأشياء" على الجمعِ ، وقراءةُ الجمهور لا بُدَّ فيها من حذفٍ تقديرُه: وبشيءٍ من الجوعِ وبشيءٍ من النقصِ ، وأمّا قراءةُ الضحاك فلا تحتاجُ إلى هذا ، وقولُه "من الخوف" في محلِّ جرٍّ صفةً لشيء فيتعلَّقُ بمحذوفٍ .
قوله: {وَنَقْصٍ} فيه وجهان ، أحدُهما: أن يكونَ معطوفاً على "شيء" والمعنى: بشيءٍ من الخوفِ وبنقصٍ ، والثاني: أن يكونَ معطوفاً على الخوفِ ، أي: وبشيءٍ من نَقْصِ الأموال ، والأولُ أَوْلَى لاشتراكِهما في التنكيرِ .
قوله: {مِّنَ الأموال} فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها: أَنْ يكونَ متعلِّقاً بنَقْصٍ لأنه مصدرُ نَقَص ، وهو يتعدَّى إلى واحد ، وقد حُذِفَ ، أي: ونقصِ شيء مِنْ كذا . الثاني: أن يكونَ في محلِّ جر صفةً لذلك المحذوفِ ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي: ونقصِ شيءٍ كائنٍ مِنْ كذا . الثالث: أن يكونَ في محلِّ نصبٍ صفةً لمفعولٍ محذوفٍ نُصِبَ بهذا المصدرِ المنوَّنِ ، والتقديرُ: ونقصٍ شيئاً كائناً من كذا ، ويكونُ معنى "مِنْ" على هذين الوجهين التبعيضَ . الرابع: أن يكونَ في محلّ جَرٍّ صفةً لـ "نَقْص" ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ أيضاً ، أي: نقصٍ كائنٍ من كذا ، وتكونُ "مِنْ" لابتداءِ الغايةِ . الخامس: أن تكونَ "مِنْ" زائدةً عند الأخفش ، وحينئذ لا تَعَلُّق لها بشيءٍ.