ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
لما ضُرب المقتول ببعضِ البقرة جلس حيّاً فقيل له : من قتلك ؟ فقال: بنو أخي قتلوني . ثم قبض . فقال بنو أخيه حين قُبض : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا . فقال الله: { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ..} فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشّقّقُ فيخرج منه الماء ، وإن لم
يكن جارياً ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله .
{أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} "أو" للتفصيل أو التخيير أو الإباحة أو الإبهام أو الشك ـ كما سلف بيانه ، ولمَّا قال أبو الأسود:
أُحِبُّ محمداً حُبَّاً شديداً ....................... وعَبَّاساً وحمزةَ أو عَلِيَّا
اعترضوا عليه في قوله " أو " التي تقتضي الشكَّ ، وقالوا له: أَشَكَكْتَ ؟ فقال: كَلاَّ، واستدلَّ بقولِه تعالى:{وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ } سبأ: 24 وقال: أَوَ كان شاكَّاً مَنْ أَخْبر بهذا؟ وإنما قَصَد رحمه الله الإِبهامَ على المخاطب، أما هنا فهي للتخيير، والله أعلم .
و" أشدُّ » مرفوعٌ لعطفِه على محلِّ " كالحجارة " أي : فهي مثلُ الحجارةِ أو أشدُّ . والكافُ يجوزُ أن تكونَ حرفاً فتتعلَّقَ بمحذوفٍ وأن تكونَ اسماً فلا تتعلَّقَ بشيء ، ويجوز أن تكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : أو هي أشدُّ .
و" قسوة " نصبٌ على التمييزِ؛ لأنَّ الإِبهامَ حَصَلَ في نسبةِ التفضيلِ إليها ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي: أشدُّ قسوةً من الحجارةِ .
وقُرئ " أشدَّ " بالفتح ، ووجهُها أنه عَطَفَها على " الحجارة "
أي: فهي كالحجارة أو كأشدَّ منها . وقُرئ : قَساوة .
{ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ } اللامُ لامُ الابتداء دَخَلَت على اسم "إنَّ" ، لتقدُّمِ الخبرِ وهو { مِنَ الحجارة } وهي بمعنى الذي في محلِّ النَّصْبِ ولو لم يتقدَّم الخبرُ لم يَجُزْ دخولُ اللام على الاسم لئلا يتوالَى حرفا تأكيدٍ ، وإنْ كان الأصلُ يقتضي ذلك، والضميرُ في "منه" يعودُ على "ما" حَمْلاً على اللفظ ، ولو كان في غيرِ القرآنِ لجازَ"منها"على المعنى و هذا الذي قد قرأ به أُبي بن كعب والضحاك . وقرأ مالك بن دينار: "يَنْفَجِرُ" من الانفجار . وقرأ قتادة:{وَإِنْ مِنَ الحجارة} بتخفيف إنْ من الثقيلة وأتى باللام فارقةً بينها وبين "إنْ" النافية ، وكذلك {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ} وهذه القراءة تحتمل أن تكونَ " ما " فيها في محل رفع وهو المشهورُ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ لأنَّ " إنْ " المخففة سُمع فيها الإِعمالُ والإِهمالُ ، قال تعالى : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ } هود : 111 في قراءة مَنْ قرأه .
وقال في موضع آخر : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } يس : 32 إلاَّ أنَّ المشهورَ الإِهمالُ . و{ يَشَّقَّقُ } أصلُه : يَتَشَقَّقُ ، فأُدْغم ، وبالأصلِ قرأ الأعمشُ ، وقرئ " لَمَّا " بتشديد الميم في الموضعين ، وقرئ أيضاً: " يَنْشَقُّ " بالنون ، وفاعلُه ضمير " ما " ويجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الماء لأنَّ " يَشَّقَّقُ " يجوز أن يُجْعَلَ للماء على المعنى ، فيكونَ معك فعلان ، فيعملُ الثاني منهما في الماء ، وفاعلُ الأولِ مضمرٌ على شريطةِ التفسيرِ، وعند الكوفيين يَعْمَلُ الأولُ فيكون في الثاني ضميرٌ يعني أنه من باب التنازع ، ولا بد من حَذْفِ عائدٍ من " يَشَّقَّق " على " ما " الموصولة دلَّ عليه قوله " مِنْه " والتقديرُ: وإنَّ من الحجارة لما يَشَّقَّقُ الماءُ منه فيخرجُ الماءُ منه .
{ مِنْ خَشْيَةِ الله } منصوبُ المحلِّ متعلقٌ بـ " يَهْبِط " . و" مِنْ "
للتعليل . و"خشية"مصدرَ مضافٌ للمفعول تقديرُه:مِنْ أن يَخْشَى اللهَ .
وإسنادٌ الهبوطِ إليها استعارةُ ، كقول الشاعر :
لَمَّا أَتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ............. سُورُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
ويجوز أن يكونَ حقيقةً على معنَى أنَّ الله خلقَ فيها قابليةً لذلك .
{ وَمَا الله بِغَافِلٍ } "ما" نافية ، ويحتمل أن تكونَ هي الحجازيةَ فترفعَ الاسمَ وتنصبَ الخبرَ فيكونُ لفظ الجلالة " اللهُ " اسمَها ، و"بغافل" خبرَها ، والباء زائدةٌ .
وقد تقدَّم تفصيل ذلك عند قوله: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} البقرة: 8.
{عَمَّا تَعْمَلُونَ}"ما" موصولةٌ اسميةٌ، فلا بد من عائدٍ أي: تعملونه، أو مصدريةٌ فلا يُحتاجُ إليه ، أي عن عملِكم . وقُرِئ " يعملون " بالياءِ والتاءِ .