فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ} وَيْلٌ ، الويل ، مصدر لا فعل له من لفظه، مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كانَ نكرةً لأنه دعاءٌ عليهم ، والدعاءُ من المسوِّغاتِ سواءً كان دعاءً له نحو : " سلامٌ عليكم " ، أو دعاء عليه كهذه الآية ، والجارُّ بعده الخبرُ فيتعلًّقُ بمحذوف . ولو نُصِبَ لكانَ له وجهٌ على تقدير: أَلْزَمَهم الله ويلاً ، واللامُ للتبيين لأنَّ الاسمَ لم يُذْكَرْ قَبْلَ المصدر ، يعني أنَّ اللامَ بعد المنصوبِ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ .
واعلم أن ويلاً وأخواتِه وهي : وَيْح ووَيْس ووَيْب وعَوْل من المصادرِ المنصوبةِ بأفعالٍ من غير لفظِها، وتلك الأفعالُ واجبةُ الإِضمارِ، لا يجوز إظهارُها البتة أنها جُعِلَتْ بدلاً من اللفظ بالفعلِ ، وإذا فُصِل عن الإِضافةِ فالأحسنُ فيه الرفعُ ، نحوَ : " وَيْلٌ له " وإن أُضِيفَ نُصِبَ على ما تقدَّم .
ومعنى الوَيْلِ شِدَّةُ الشرّ قاله الخليل ، وقال الأصمعي الوَيْلُ : التفجُّع ، والوَيْل : الترحُّم . قال سيبويه : وَيْل ، لِمَنْ وَقَعَ في الهَلَكَة ، ووَيْحٌ زَجْرٌ لمَنْ أَشْرَفَ على الهَلاك . وقيل : الويلُ الحُزن ، وهل ويْل ووَيْح ووَيْس ووَيْب بمعنى واحد أو بينها فرقٌ؟ خلافٌ ، وقد تقدَّم ما
فرَّق به سيبويه في بعضِها . ويقال وَيْل وويلَة بالتاء، قال امروء القيس:
له الويلُ إنْ أَمْسى ولا أمُّ عامرٍ ........ لَدَيْهِ ولا البَسْباسَةُ ابنةُ يَشْكُرا
وقال أيضاً :
ويومَ دَخَلْتَ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ .... فقالَتْ : لَكَ الوَيْلاتُ إنَّك مُرْجِلي
فويلات جمع وَيْلَة لا جمعُ وَيْل لأنَّ جمعَ المذكر بالألفِ والتاءِ لا يَنقَاسُ .
{بِأَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيكُتبون ، ويَبْعُدُ جَعْلُه حالاً من" الكتاب " ، والكتابُ هنا بمعنى المكتوب ، فنصبُه على المفعولِ به ، ويَبْعُدُ جَعْلُهُ مصدراً على بابِه، وهذا من بابِ التأكيد فإن الكُتْبَةَ لا تكون بغير اليدِ، ونحوُه : وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الأنعام : 38، { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } آل عمران : 167 . وقيل : فائدةُ ذكره أنَّهم باشَرُوا ذلك بأنفسِهم ولم يَأَمُروا به غيرَهم ، فإنَّ قولَك : فَعَلَ فلانٌ كذا يَحْتملُ أنه أمر بفعلِه ولم يُباشِرْه ، نحو : بنى الأميرُ المدينةَ ، فأتى بذلِك رَفْعاً لهذا المجازِ . وقيل: فائدتُه بيانُ جُرْأَتِهم ومُجَاهَرَتِهم ، فإنَّ المباشِرَ للفعل أشدُّ مواقعةً مِمَّنْ لم يباشِرْه . وهذان القولان قريبان من التأكيد ، فإنَّ أصلَ التأكيدِ رفْعُ توهُّمِ المجاز . وقال ابن السَّرَّاج : "ذِكْرُ الأيدي كنايةٌ عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلقائهم ومِنْ عندِ أنفسِهم" وهذا الذي قاله لا يَلْزَمُ .
والأيدي جمعُ يَدٍ ، والأصلُ : أَيْدُيٌ بضمِّ الدالِ كفَلْس وأَفْلُس في القلة فاستُثْقِلَت الضمةُ قبل الياءِ فَقُلِبَت كسرةً للتجانسِ نحو : بِيْض جمعَ أَبْيض ، والأصلُ : بُيْض بضم الياء كحُمْر جمع أَحْمر ، وهذا رأيُ سيبويه ، أعني أنه يُقِرُّ الحرفَ ويُغَيِّر الحركةَ ومذهبُ الأخفشِ عكسُه ، وأصل يَد: يَدْي بسكونِ العَيْنِ، وقيل: يَدَي بتحريكِها ، فتحرَّك حرفُ العلة وانفتَح ما قبلَه فقُلِب ألفاً فصارَ يداً كَرَحَىً، وعليه التثنيةُ: يديان، وعليه أيضاً قول الشاعر :
يا رُبَّ سارٍ باتَ لن يُوَسَّدا .......... تحتَ ذِراعِ العَنْسِ أو كفَّ اليَدا
والمشهورُ في تثنيتها عَدَمُ ردِّ لامِها ، قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } المائدة : 64 و{ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } المسد : 1، وقد شَذَّ الردُّ في قوله : يَدَيانِ :
يَدَيَان بَيْضَاوان عِندَ مُحَلِّمٍ .............. قد يَمْنَعانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرا
وأيادٍ جمعُ الجمعِ نحو : كَلْبَ وأَكْلُب وأكالب . ولا بدَّ في قوله : { يَكْتُبُونَ الكتاب } مِنْ حَذْفٍ يَصِحُّ معه المعنى ، تقديره : " يكتبونَ الكتابَ المحرَّفَ " أو أن يكون حالاً من الكتاب تقديرُه : " يكتُبون الكتابَ مُحَرَّفاً " ، وإنما أَحْوَجَ إلى هذا الإِضمارِ لأنَّ الإِنكارَ لاَ يَتَوَجَّهُ على مَنْ كَتَب الكتاب بيده إلا إذا حَرَّفه وغَيَّره .
قوله: {لِيَشْتَرُواْ} اللامُ لامُ كي . والضميرُ في "به " يعودُ على ما أشاروا إليه بقولِهم: {هذا مِنْ عِنْدِ الله} و " ثمناً " مفعولُه ، وقد تقدَّم تحقيقُ دخولِ الباءِ على غيرِ الثمن عند قولِه : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } البقرة : 41 ، واللامُ متعلقةٌ بيقولون، أي: يقولونَ ذلك لأجلِ الاشتراءِ .
{مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} متعلِّقٌ بوَيْل أو بالاستقرارِ في الخبر، و"مِنْ "
للتعليلِ ، و"ما" موصولةٌ اسميةٌ والعائدُ محذوفٌ ، ويجوزُ أن تكونَ نكرةً موصوفةً والعائد محذوف أي : كَتَبَتْهُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : مِنْ كَتْبِهم ، و {وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} مثلُ ما تقدَّم قبلَه ، وإنما كرَّر "الوَيْل" ليُفيدَ أنَّ الهَلَكَة متعلقةٌ بكلِّ واحدٍ من الفِعْلَيْنِ على حِدَتِه لا بمجموعِ الأمرَيْنِ ، وإنَّما قَدَّم قولَه : " كَتَبَتْ " على " يَكْسبون " لأن الكتابةَ مُقَدَّمةٌ فنتيجتُها كسبُ المالِ ، فالكَتْبُ سببٌ والكسبُ مُسَبَّبٌ، فجاء النَّظْمُ على هذا .