وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
{ وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا } الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم ، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا ، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال : خاصمنا يهودي وقال : إن في كتابكم { فَتَمَنَّوُاْ الموت } الخ ، فأنا أتمنى الموت ، فمالي لا أموت ، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب ، فدخل بيته وسل سيفه وخرج ، فلما رآه اليهودي فرّ منه ، وقال ابن عمر : أما والله لو أدركته لضربت عنقه ، توهّم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت ، لا، إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا ، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف . ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً:"لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات " . وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله عليه وسلم، وفيها دليل على اعترافهم بنبوّته صلى الله عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني .
قولُه تعالى:{أَبَداً} منصوبٌ بَيَتَمَنَّوْه، وهو ظرفُ زمانٍ يقعُ للقليلِ والكثيرِ ، ماضياً كانَ أو مستقبلاً، تقول: ما فَعَلْتُه أبداً وهو عبارةٌ عن مدةِ الزمانِ الممتدِّ الذي لا يَتَجزَّأ كما يتجزَّأُ الزمانُ ، وذلك أنه يقال : زمانَ كذا ولا يُقال : أبدَ كذا ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا ألاَّ يُثَنَّى ولا يُجْمَعَ ، وقد قالوا : آباد فجَمَعوه لاختلافِ أنواعِه ، وقيل : آباد لغةٌ مُوَلَّدَةٌ ، ومجيئُه بعد "لَنْ" يَدُلُّ على أن نَفْيَها لا يقتضي التأبيدَ .
وقال هنا: "ولن يَتَمَنَّوْه" فنَفى بلن وفي سورة الجمعة نفى بـ "لا" لأنَّ دَعْواهم هنا أعظمُ مِنْ دعواهُمْ هناك لأنَّ السعادةَ القُصْوى فوق مرتبةِ الولايةِ ، لأنَّ الثانيةَ تُراد لحصولِ الأولى ، والنفيُ بـ "لن " أَبْلَغُ مِن النفي بِـ "لا" .
{ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } متعلِّقٌ بيتمنَّوْه ، والباءُ للسببية أي بسببِ اجتراحِهم العظائمَ. و"ما" يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ،أَظْهَرُها:كونُها موصولةً بمعنى الذي. والثاني: نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كلا القولَيْنِ محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْه ، فالجملةُ لا محلَّ لها على الأولِ، ومحلُّها الجرُّ على الثاني . والثالث: أنَّها مصدريَّةٌ أي: بتَقْدِمَةِ أيديهِم . ومفعولُ "قَدَّمَتْ" محذوفٌ أي: بما قَدَّمَتْ أيدِيهم الشرَّ أو التبديلَ ونحوَه .