أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ
(108)
فيها توبيخ وتقريع لبني إسرائيل الذين آذَوْا نبيهم موسى عليه السلام ، فنُهِيَ المسلمون عن أن يفِعلوا بنبيهم "محمد" عليه الصلاة والسلام مثل ما فعل بنوا إسرائيل بنبيهم ، وأُمِروا بمراعاة أن حشمته وتوقيره . فكانوا بحضرته كأنَّ على رؤوسهم الطير .
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: نزلت في عبد الله بن أُميّة المخزومي ورهط من قريش قالوا: يا محمّد أجعل لنا الصّفا ذهباً ووسِّعْ لنّا أرض مكّة ، وفجِّر الأنهار خلالها تفجيراً نؤمنْ بك .
"أم ..." ظاهرُه الاستفهامُ المحضُ ، فالمعادِلُ هنا على قولِ جماعةٍ: أَمْ تريدون ، وقال قومٌ: أَمْ منقطعةٌ، فالمعادِلُ محذوفٌ تقديرُه:أَمْ عَلِمْتُم، هذا إذا أُريدَ بالخِطابِ أمّتَه عليه السلام ، أمَّا إذا أُرِيدَ هو به فالمعادِلُ محذوفٌ لا غيرُ ، وكِلا القَوْلَين مَرْوِيُّ . والأرجح أَنَّ المرادَ بِه التقريرُ ، فهو كقولِه: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} سورة الزُمَر: 36 و{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} الانشراح: 1 والاستفهامُ بمعنى التقريرِ كثيرٌ جداً لا سيما إذا دَخَلَ على نفيٍ .
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ} قد تَقَدَّم أنَّ "أَمْ" هذه يجوزُ أن تكونَ متصلةً معادِلَةً لقولِه: "ألم تَعْلَمْ" ، وأَنْ تكونَ منقطعة وهو الظاهرُ ، فَتُقَدَّر بـ "بل" والهمزِ ، ويكون إضرابَ انتقالٍ من قصةٍ إلى قصة فـ "أَمْ" هنا منقطعةٌ ، والهمزةُ من قولِه: "ألم تعلمْ" ليسَتْ مِنْ "أم" في شيء والمعنى: بل أتريدون ، فَخَرَجَ مِن كلام إلى كلام . وأصلُ تُريدون: تُرْودُون ، لأنه مِنْ رَادَ يَرُودُ ، فَنُقِلَتْ حركةُ الواوِ على الراءِ فَسَكَنَت الواوُ بعد كسرةٍ فقُبِلَتْ ياءً .
قوله: {أَن تَسْأَلُواْ} ناصبٌ ومنصوبٌ في محلِّ نصبٍ مفعولاً به بقوله "تُريدون" ، أي: أتريدون سؤالَ رسولِكم .
قولُه: "كما سُئِلَ" متعلِّقٌ بتسألوا ، والكافُ في محلِّ نصبٍ ، وفيها التقديران المشهوران: فتقديرُ سيبويه أنَّها حالٌ من ضمير المصدرِ المحذوف أي: أَنْ تَسْأَلوه أي: السؤالَ حالَ كونِه مُشَبَّهاً بسؤالِ قومِ موسى له ، وتقديرُ جمهور النحويين أنه نعت لمصدر محذوف ، أي: أن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا . و "ما" مصدرية ، أي: كسؤال موسى ، وأجاز بعضُهم كونها بمعنى الذي فلا بدَّ من تقدير عائد ، أي كالسؤال الذي سُئِله موسى . و "موسى" مفعول لم يُسمَّ فاعله ، حُذِف الفاعل للعلم به ، أي كما سأل قومُ موسى .
والمشهور:"سُئِل"بضم السين وكسر الهمزة،وقرأ الحسن: "سِيل" بكسر السين وياء بعدها مِنْ: سالَ يسال نحو خِفْتُ أخاف ، وقُرىء بتسهيلِ الهمزةِ بينَ بينَ .
و"من قبلُ" متعلق بسُئل ، و"قبلُ" مبنيّةٌ على الضَمِّ لأن المضافَ إليه معرفةٌ أي: من قبلِ سؤالِكم . وهذا توكيدٌ ، وإلاَّ فمعلومٌ أنَّ سؤال موسى كان متقدَّماً على سؤالهم .
قوله: {بالإيمان} فيه وجهان ، أحدُهما: أنها باء العِوَضيَّة . والثاني: أنها للسببية .
{فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} قُرِىَء بإدغام الدال في الضاد وإظهارها ، و"سواءَ" ظرفٌ بمعنى وَسَطِ السبيلِ وأعدله ، قال تعالى: {فِي سَوَاءِ الجحيم} سورة الصافات: 55 ، وقال حسان رضي الله عنه:
يا ويحَ أصحابِ النبيِّ ورَهْطِه ............. بعدَ المُغَيَّبِ في سَواءِ المُلْحَدِ
ومن مجيئه بمعنى العَدْلِ قولُ زهير:
أَرُونا خُطَّةً لا عيبَ فيها ..................... يُسَوِّي بيننا فياه السَّواءُ
والسبيلُ يُذَكَّر ويؤنَّث:{قُلْ هذه سبيلي} سورة يوسف: 108 . والجملةُ من قولِه: " فَقَدْ ضَلَّ " في محلِّ جزمٍ لأنَّها جزاءُ الشرطِ ، والفاءُ واجبةٌ هنا لعَدَمِ صلاحيَتِه شَرْطَاً .