أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ
(100)
لا يكفر بواضح آياته إلا من سُدَّتْ عن الإدراك بصائرُه ، وسبقت من الله بالشقاوة قِسْمَتُه ، ولا عقلَ لِمَنْ يجحدُ أنَّ النهارَ نهار .
{أَوَ كُلَّمَا عاهدوا عَهْدًا} نزلت في مالك بن الصيف قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، ولا ميثاق ، وقيل: في اليهود عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهود فنقضوها كفعل بني قريظة وبني النضير ، والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي ، وفيه إعظام ما يُقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة ، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم .
{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ} الجمهورُ على تحريك واو “أَوَ كلما” واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال ، فقال الأخفش: إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ . وقال الكسائي: هي ” أَوْ ” العاطفةُ التي بمعنى بل ، وإنما حُرّكَتِ الواوُ ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً . وقال البصريون: هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ ، أمّا الزمخشري فيُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده ، لذلك قَدَّره هنا: أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا .
وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي: ” أَوْ كلَّما ” ساكنةَ الواو ، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال ، فهي عند الزمخشري عاطفةٌ على الفاسقين ، وقدَّره بمعنى إلاَّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا ، يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } الحديد: 18 أي: الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا . وقال المهدوي: ” أَوْ ” لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ ، يعني أنَّها بمعنى بل ، وقالَ بعضُهم : هي بمعنى الواوِ فتتفقُ القراءتان ، وقد ثَبَتَ ورودُ ” أو ” بمنزلةِ الواوِ كقوله سبحانه: {خطيئة أَوْ إِثْماً } النساء: 112 { آثِماً أَوْ كَفُوراً } الإنسان: 24 فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك .
وانتصابُ ” عَهْداً ” على أحدِ وَجْهين : إمَّا على المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ : ” معاهدةً ” ، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا معنى أَعْطَوا ، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقديرُ: عاهدوا الله عَهْدَاً .
وقُرِئ: “عَهِدُوا” فيكونُ “عهْداً” مصدراً جارياً على صَدْرِه ، وقُرىء أيضاً: “عُوْهِدُوا” مبنياً للمفعولِ .
قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } هذا فيه قولان، أحدُهما: أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ ، وتكونُ ” بل ” لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ ،وقد عَرَفَتْ أنَّ “بل” لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ .
والثاني: أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ “أكثرُهم” معطوفاً على “فريقٍ” و”لا يؤمنون”جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من “أكثرُهم” وقال ابن عطية “من الضمير في” أكثرُهم ، وهذا جائزٌ ، لا يُقال : إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ : وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه ، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ ، والنَّبْذُ: الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ .