وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
أي من أي مكان أوبلد خرجت للسفر فول وجهك عند صلاتك تلقاء المسجد الحرام فإن وجوب التوجُّه إلى الكعبة لا يتغير في سفر أو حضر بل الحكم هو ذاته ، فتحويل القِبلةِ إلى الكعبةِ هو الحقُّ من ربِّك وهو الثابتُ الموافقُ للحِكمة ، ولسوف يجازيكم اللهُ بذلك أحسنَ الجزاء ، وهو وعد وعده ـ سبحانه ـ المؤمنين من عباده ، وهذا هو الحق من ربك ، فاحرص عليه أنت وأمّتُك ، فإنّ اللهَ ليس بغافل عن أعمالكم .
وقد كرر "فولّوا وجوهكم" لحكمة لطيفة، وهو أنه ذكر لتغيير القبلة ثلاث علل من قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأولى: إكرامه تعالى نبيه ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأن ولاه قبلة أبيه إبراهيم ابتغاء مرضاته ، وهو قوله: "قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ" والثانية: إخبارُه أنّ لكلّ صاحبِ دعوةٍ قبلةً وهو قوله: "وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ" ، والثالثة: قطعُ حِجَّةِ معانديه وهو قولُه: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} فقرن بذكر في علة معلولها الذي هو الفرض ، وذلك قولُه: "فولِّ وجهَك شَطْرَ المسجد الحرام" لقولِك: إنَّ هذا فُرِضَ لسببِ كذا، وفُرِضَ لسببِ كذا ، فيعتد المعلول مع العلَّة ، وهذا أبلغُ من قولِ مَنْ قال: لمّا طال القصة ، واعترض فيما بينها ما فيه زيادة بيان أعاد الحكم نحو: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} وأنّه أعاد "لما جاءهم" وأشار بقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} إلى تحقيق ما قدّمه ، فبيّن أنّه إذا كانت الحكمة تقتضي أنّ لكلِّ صاحبِ شرعٍ قبلةٌ تختصُّ بها وأنتَ صاحبُ شرعٍ ، فتغيير القبلة لك حقٌّ ،
وإن قيل: لمَ خصَّ الأولَ بلفظِ الربّ ، والثاني بلفظ الله؟ قلنا: لأن الأولَّ لمّا نبهنا على الاستدلالَ على حكمتِه بالنظرِ إلى أفعاله ذكر لفظَ الربّ المقتضي للنعم التي يستدل بها على المنعم وهو مقتضى الربوبية ، ولما ذكر الوعيد ذكر لفظ الله تعالى المقتضي للعبادة التي مَن بحل بها عليه استحق أليم العقاب الأليم .
قولُه تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ} مِنْ حيثُ متعلِّقٌ بقوله: "فولِّ" و"خرجْتَ" في محلِّ جَرٍّ بإضافةِ "حيثُ" إليها ، وقرأ عبدُ اللهِ "حيثَ" بالفتح ، وهي إحدى لغات العرب ، ولا تكونُ هنا شرطيةً ، لعدم زيادةِ "ما" فحيثما شرطية . وقرىء "تَعْلَمون" بالياء أيضاً "يعلمون" .
و"من" ابتدائية لأنّ الخروج أصلٌ لفعلٍ ممتدٍّ وهو المشي وكذا التولية أصل لاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد ، وقيل: إن حيثُ متعلِّقةٌ بـ "ولِّ" والفاء ليست زائدة ، وما بعدها يعمل فيما قبلها إلاّ أنّه لا وجْهَ لاجتماعِ الفاء والواو فالوجهُ أنْ يكون التقديرُ: افعلْ ما أُمرتَ به من حيث خرجتَ فولِّ فيكون {فَوَلّ} عطفاً على المقدَّر . ثم الأمرُ بالتوليةِ مقيَّدٌ بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدمِ وجوبِ استقبالِ القِبْلةِ في غير ذلك .