صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
الصبغة هي الملة التي اختارها الله تعالى، وهي ملة إبراهيم ، وهي دين الله الحق الذي اصطفاه واختاره وصح أن يكون دينه .
قوله تعالى: {صِبْغَةَ الله} قرأ الجمهورُ "صبغةَ" بالنصبِ ، ومَنْ قَرَأَ مِلَّةُ إبراهيمَ بالرفع قرأ صبغةُ بالرفع وقد تقدَّم أنها قراءةُ ابنِ هرمز وابن أبي عبلة . فأمَّا قراءةُ الجمهورِ ففيها أربعةُ أوجهٍ أحدُها: أنَّ انتصابَها انتصابُ المصدرِ المؤكِّد ، والعامل في نصبه قولِه: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أو قوله: {فَقَدِ اهتدوا} .
الثاني: أنَّ انتصابَها على الإِغراء أي: الزَمُوا صبغةَ الله . الثالث: أنها بدلٌ من "مِلَّةَ" وهذا ضعيف إذ قد وَقَعَ الفصلُ بينهما بجُملٍ كثيرة.
الرابع انتصابُها بإضمار فعلٍ أي: اتِّبِعوا صبغةَ الله .
والصبغةُ: مِنْ صَبَغَ كالجِلْسَة من جَلَسَ ، وهي الحالَةُ التي يقع عليها الصَّبْغُ ، والمعنى تطهيرُ الله ، لأنَّ الإِيمانَ يُطَهِّرُ النفوسَ ، والأصلُ فيه أنَّ النصارى كانوا يَغْمِسون أولادَهم في ماء المَعْمودِيَّةِ ويقولون هو تطهيرٌ لهم ، فَأُمِرَ المسلمون أَنْ يقولوا: آمنَّا وصَبَغَنا الله صِبْغَةً لا مثلَ صِبْغَتِكم ، وإنَّما جيء بلفظِ الصِّبْغَةِ على طريقِ المُشاكلةِ كما تقول لِمَنْ يَغْرِسُ الأشجار: اغْرِسْ كما يَغْرِسُ فلانٌ ، تريدُ رجلاً يصطنعُ الكلامَ .
وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتحتملُ وَجْهين أحدُهما: أنَّها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: ذلك الإِيمانُ صبغةُ الله . والثاني: أن تكونَ بدلاً مِنْ "مِلَّة" لأنَّ مَنْ رَفَعَ "صِبْغَة" رفع "مِلَّة" كما تقدَّم فتكونَ بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءةِ النصبِ .
قولِه:{وَمَنْ أَحْسَنُ} مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذا استفهامٌ معناه النَّفْيُ أي: لا أحدَ ، و"أَحْسَنُ" هنا فيها احتمالان ، أحدُهما: أنها ليست للتفضيل إذ صبغةُ غيرِ الله منتفٍ عنها الحُسْنُ . والثاني: أنْ يُراد التفضيلُ باعتبارِ مَنْ يظنُّ أنَّ في صِبْغةِ غيرِ الله حُسْناً لا أنَّ ذلكَ بالنسبةِ إلى حقيقةِ الشيءِ . و"مِنَ الله" متعلِّقٌ بَحْسَنُ فهو في محلِّ نَصْبٍ . و"صبغةً" نصبٌ على التمييز مِنْ أَحْسَنُ ، وهو من التمييز المنقولِ من المبتدأ والتقديرُ: ومَنْ صِبْغَتُه أحسنُ مِنْ صبغةِ الله .
قولُه: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ معطوفةٌ على قَوْلِهِ: {قولوا آمَنَّا بالله} فهي في محلِّ نصبٍ بالقول ، وهذا العطفُ يَرُدُّ قولَ مَنْ زَعَمَ أنَّ "صبغة الله" بدلٌ مِنْ "مِلَّةَ" أو نصبٌ على الإِغراءِ بمعنى عليكم صبغةَ الله لما فيه مِنْ فَكِّ النَّظْم وإخراجِ الكلامِ عن التئامِهِ واتِّساقِه ، وتقديرُه في الإِغراءِ: عليكم صبغةَ ليس بجيدٍ ؛ لأنَّ الإِغراءَ إذَا كانَ بالظروفِ والمجروراتِ لا يجوزُ حَذْفُ ذلك الظرفِ ولا المجرورِ ولذلك حينَ ذَكَرْنا وجهَ الإِغراءِ قدَّرْنا بالزموا صبغةَ الله
.